شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"وبت حراً طليقاً"... جمال خاشقجي مسيرةُ "الصوت المفقود"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 15 أكتوبر 201804:14 م
رهان على الوقت أن يمضي ويطوي قصة غيابه ومعها تُطوى الحقيقة. يمنة ويسرة، تنتشر الروايات المُتناقضة حول المصير الغامض للكاتب والصحفي السعودي جمال خاشقجي، لكن معلومة واحدة مؤكدة فقط: جمال اختفى في قنصلية بلاده في تركيا، دخل ولم يخرج. لكن حياة الشعوب تعرف جيدًا تلك اللحظات التي يتجمد فيها الوقت رافضًا المرور واحتساب أحداثه "عابرة"، لا سيما إذا كانت مرتبطة بأشخاص دانوا ذات يوم بالولاء لأوطانهم فحسب. مسيرة خاشقجي (59 عامًا) يمكنها أن تروي حكايات هؤلاء المنتمين إلى طائفة "المنبوذين بعد رغبة”، كيف تداخلت كتاباتهم وعلاقاتهم مع السلطة والنافذين وصانعي القرار، وتغيرت مسافات القرب في ما بينهم، في حركة كرّ وفر. تارة هم  “مقربون من السلطة، عاشوا في كنفها” وتارة أخرى حلقوا في دوائر بعيدة عن السلطة من دون معارضة شديدة بل هم من موقع الناصح أقرب. اكتسب الرجل المزيد من النفوذ والتأثير في الشهور الأخيرة، إذ تحولت مقالاته في صحيفة "واشنطن بوست"، إلى نافذته الإضافية إلى جانب تغريداته في تويتر، حيث يتابعه مليون و600 متابع، عدا كتابته في مركز أبحاث واشنطن.
بحلول يونيو 2017، كان خاشقجي قد استنتج بحكم مسيرته كصحفي أن لا خيار لديه سوى مغادرة السعودية، لهذا انتقل إلى واشنطن. في أحد أعمدته المُبكرة لـ"واشنطن بوست"، في سبتمبر 2017، كتب أن الأمر استغرق وقتًا طويلاً حتى وصل إلى نقطة تحدي حكومته. "كان ذلك مؤلمًا بالنسبة لي، منذ عدة سنوات عندما تم اعتقال العديد من الأصدقاء. قلت: لا شيء. لم أكن أريد أن أفقد وظيفتي أو حريتي. أنا قلق على عائلتي. لقد اتخذت خيارًا مختلفًا الآن. لقد تركت بيتي وعائلتي وعملي، وأرفع صوتي. أن تفعل خلاف ذلك من شأنه أن يعتبر خيانة لأولئك الذين يقبعون في السجن. يمكنني التحدث عندما لا يستطيع الكثيرون ذلك. أريدك أن تعرف أن السعودية لم تكن دائمًا كما هي الآن. نحن السعوديون نستحق أفضل". لا يمكن اعتبار خاشقجي، وهو ابن عم تاجر السلاح الراحل الملياردير عدنان خاشقجي، مُنشقًا حقيقيًا، كما قال أصدقاؤه وزملاؤه لـ"واشنطن بوست". وفق آرائهم، لم يعارض جمال النظام الملكي، ولم يدعُ إلى تغيير النظام أو حتى استبدال ولي العهد، لكن أعمدته لصحيفة "واشنطن بوست" التي تنتقد سياسات بن سلمان جعلت خاشقجي هدفاً لغضب العائلة المالكة، في الوقت الذي تم فيه سجن النساء السعوديات اللاتي رحبن بإصلاحات الأمير بسبب جرأتهن على المطالبة بتغييرات أخرى. في سبتمبر 2017، أعرب جمال عن يأسه إزاء تزايد الاضطهاد في السعودية، قائلاً "أصدقائي وأنا نعيش في الخارج نشعر بالعجز. نحن نريد أن يزدهر بلدنا وأن نرى رؤية 2030 تتحقق"، في إشارة إلى رؤية ولي العهد. قال: "نحن لا نعارض حكومتنا ونهتم بعمق بالمملكة العربية السعودية. إنه المنزل الوحيد الذي نعرفه أو نريده".
زميلة خاشقجي في مجلة "ذا نيوركر": "أخبرني جمال أن (بن سلمان) مُستبد للغاية وغير ليبرالي تمامًا، لقد عملت في الحكومة لمدة أربع أو خمس سنوات. لم أفكر يومًا بأنه سيلقى القبض علي، لكنني اعتقدت أنه قد يحدث. هذا هو السبب في مغادرتي البلاد".
"واشنطن بوست": خاشقجي تحدث عن الثمن الشخصي الهائل الذي دفعه لقراره الذهاب إلى المنفى لمواصلة الحديث. وأشار الى أن زوجته تقدمت بطلب الطلاق وتجنبه العديد من أفراد أسرته، وفقد منزله وممتلكاته.
ساعدت أعمدته - وبعضها، بما في ذلك هذا، ترجمته واشنطن بوست إلى اللغة العربية - في بروزه بشكل أكبر، وربما أغضب ذلك العائلة المالكة السعودية، كما يقول هشام ملحم، زميل خاشقجي في واشنطن. ويضيف ملحم: "إنه بارز بسبب المنصة التي توفرها له صحيفة واشنطن بوست... لا يملك النقاد الآخرون هذا النوع من المنصات، كانوا غاضبين جداً منه في السعودية". ومثله، قال فريد هيات، المسؤول التحريري في الصحيفة، إن خاشقجي كان يعلم أنه يخوض مخاطرة بسبب انتقاده الحكومة السعودية، رُغم أنه كان في الخارج. "لكنه شعر بالتزام بالتحدث عندما كان الكثير من مواطنيه يتعرضون للسجن أو الاحتقار. وباعتباره صحفيًا ذا خبرة عالية، من وجهة نظر، فقد كان مناسبًا تمامًا لقائمة كتاب أعمدة الرأي العام العالمي، ونحن فخورون بنشر أعماله"، بحسب فريد هيات. بعض المتابعين لتداعيات اختفاء خاشقجي، قال إنه ربما كانت خطيئته محاولته الحفاظ على توازنه دون تصنيفه، وهو ما ذهب إليه المخرج أسعد طه، الذي قال: "المعتدلون أكثر خطرا على الأنظمة من المتطرفين".
كارين عطية، مديرة قسم الرأي في واشنطن بوست، أظهرت موقفا تضامنيًا لافتًا كما صحيفتها، إذ كتبت: "شيء واحد ما زلت أرغب في التأكيد عليه: كان جمال خاشقجي يخبرني في كثير من الأحيان أنه لم يرغب قط في وصفه بأنه "منشق" أو شخصية معارضة تعيش في المنفى. إنه حقًا يريد فقط أن يكتب بحرية وأن يكون صحافيًا".
  وفي أحد لقاءاتها التليفزيونية، قالت كارين: "كان متحمساً عندما كان في غرفة الأخبار، كان يقول لي أريد شيئًا أفعله، أعطني شيئًا أفعله". "ابتعدت عنهم وبت حرًا طليقًا من 30 سنة"، كتبها خاشقجي في حسابه على تويتر قبل شهر من اختفائه، في معرض حديثه عن علاقته بجماعة الإخوان المسلمين لدى دخوله في نقاش مطول مع متابعيه.
ورُغم قول ولي العهد في مقابلة مع “بلومبرج" الأربعاء الماضي إن خطف خاشقجي "شائعات لا أساس لها"، سعى مؤيدو الحكومة على تويتر إلى تشويه سمعة خاشقجي ليس بصفته ناقدًا للحكومة ولكن باعتباره "مُؤيدًا للإخوان". وفي 30 مارس الماضي، كتب خاشقجي في موقع "رصيف 22"، داعيًا الإخوان إلى اعتزال السياسة قائلاً إن ممارستهم لها كانت "كارثية" وهو ما "كلّف الأمة ومسيرتها نحو الديمقراطية والعدالة الكثير... ليتهم يرفعون شعار "الديمقراطية هي الحل" مثلما رفعوا يومًا شعار "الإسلام هو الحل".

خاشقجي مراسل حربي يطفو على السطح في كل مرة

ربما تعود هذه الاتهامات إلى سعة معرفة خاشقجي بجماعات الإسلام السياسي وعمله أيضًا في سنواته الأولى في الصحافة مراسلاً إبان الحرب ضد السوفيات في أفغانستان في الثمانينيات والتسعينيات، بما في ذلك صعود أسامة بن لادن غير المعروف وقتذاك. آنذاك، كان خاشقجي على اتصال بالمقاتلين مع بن لادن، وكتب الملامح الأولى عن تلك الشخصية لمجلة سعودية عام 1988، بعد أن دعاه زعيم تنظيم القاعدة شخصيًا لمرافقته في أفغانستان، وفقاً لبيتر بيرجن، مؤلف كتاب "أسامة بن لادن الذي أعرفه”، كما نُشر عنه أنه دعاه إلى العدول عن ممارسة العنف. سلامة نعمات، الصحفي الأردني المُقيم في الولايات المتحدة، كان زميل خاشقجي في جريدة "الحياة" في ذلك الوقت، قال إنه خضع للتحقيق كثيرًا من قبل السلطات بسبب الشكوك حول علاقاته بالمتطرفين. "لقد كان يواجه المتاعب طوال الوقت بسبب صلاته بتنظيم القاعدة، لكنه كان يفعل ذلك كصحفي.. أنا شخصيًا كنت مقتنعاً بأنه يقوم بعمله كصحفي ويغطي كلا الجانبين". بيتر بيرجن، وهو الآن خبير في شؤون تنظيم القاعدة في مركز أبحاث أمريكا الجديدة، التقى خاشقجي مرات عدة وخلص إلى أنه بمرور الوقت أصبح خاشقجي "أكثر علمانية، وانتقاداته للنظام السعودي تأتي من منظور أكثر ليبرالية. لقد تحول من كونه شخصًا متدينًا إلى ناقد ليبرالي". وعندما حلَ عام 1999، أنهى الرجل أسفاره وأصبح صحفيًا بارزًا في السعودية، وغالبًا ما كان يثير الجدل، لكنه دائمًا كان ينجح في البقاء داخل نطاق دوائر صنع القرار. وأُجبر خاشقجي على الاستقالة مرتين من رئاسة تحرير صحيفة "الوطن" السعودية اليومية، الأولى بعد 52 يومًا من تولي المنصب في العام 2003، بموجب قرار وزارة الإعلام السعودية بعد عدة تعليقات نشرت في الصحيفة حول التأثير القوي للمؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية. وكما اختياره الولايات المتحدة كمنفى اختياري قبل مصيره الغامض، اختار خاشقجي الانتقال إلى بريطانيا، وهناك انضم إلى فريق الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات الأسبق، كمستشار إعلامي حينما كان سفيرًا للمملكة في لندن وبعدها في واشنطن. في أبريل 2007، عاد خاشقجي إلى “الوطن” كرئيس تحرير للصحيفة  للمرة الثانية، وبعد 3 سنوات رحل عنها بسبب مقال رأي للشاعر إبراهيم المعيري انتقد فيه الأفكار السلفية. وفي غضون هذه الفترة كان ضيفًا دائمًا على المحطات الإخبارية الدولية، مثل بي بي سي وتلفزيون دبي والجزيرة، باعتباره قريباً من دوائر الحكم بالسعودية يمكن الاعتماد عليه لإعطاء فكرة عن المملكة الغامضة، لكن كان صريحًا بما يكفي لاعتباره لسان حال ما يجري فيها. إلى أن اختاره الأمير الوليد بن طلال لإطلاق شبكة "العرب" التلفزيونية من البحرين، التي أوقف بثها بعد 24 ساعة من انطلاقها دون أسباب، إلا أن تفسيرات ذكرت أن ذلك تم بسبب سقف الحرية المرتفع فيها، واستضافة رموز من المعارضة البحرينية. حسين إيبيش، الباحث في معهد الدول الخليجية في واشنطن، يقول: "كان قريبًا جدًا من العائلة المالكة وصانعي القرار، وكان متحدثاً غير رسمي باسمها لفترة طويلة... ثم أصبح غريبًا". في وقت تقول صحيفة "واشنطن بوست"، إنه خلال اجتماع في واشنطن في ديسمبر الماضي، تحدث خاشقجي عن الثمن الشخصي الهائل الذي دفعه لقراره الذهاب إلى المنفى لمواصلة الحديث. وأشارت إلى أن زوجته تقدمت بطلب الطلاق، وتجنبه العديد من أفراد أسرته، وفقد منزله وممتلكاته. أما الصحافية في مجلة "ذا نيوركر"، روبين رايت، فقالت: "عندما تحدثنا في نوفمبر الماضي، قارن خاشقجي النظام الملكي السعودي بالثيوقراطية الإيرانية، إذ أوضح أنه لا يوجد تسامح أو رغبة في تقبل النقد.. ولي العهد أصبح الآن المرشد الأعلى"، في إشارة إلى السلطة العليا في إيران. تقول "رايت": أخبرني خاشقجي "أنه (بن سلمان) مُستبد للغاية وغير ليبرالي تمامًا، لقد عملت في الحكومة لمدة أربع أو خمس سنوات. لم أفكر يومًا بأنه سيلقى القبض علي، لكنني اعتقدت أنه قد يحدث. هذا هو السبب في مغادرتي البلاد". وفي سبتمبر الماضي، كتب خاشقجي في مقال أن على ولي العهد أن يستعيد كرامة بلاده بإعلانه إنهاء الحرب القاسية باليمن، والتي تشارك فيها السعودية على رأس التحالف العربي مع الإمارات. وهو ما دفع بعض اليمنيين وقتذاك إلى الإعراب عن مخاوفهم من احتمالية تعرضه لـ"الإعدام".
ومع غياب أدلة قاطعة على مكان وجوده، وصعوبة معرفة ما حدث له في الوقت الحالي، يخشى صديقه سلامة نعمات أن تكون زيارة خاشقجي للقنصلية قد أتاحت الفرصة أمام السلطات السعودية لإخماد صوته. "انتقاد جمال كان شديد الخطورة بالنسبة لهم لأنه قوض علاقة السعوديين بالولايات المتحدة... ربما ظن السعوديون أن هذا هو الوقت المناسب لإسكاته، سواء تم اختطافه أو قتله".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image