على الرغم من حضور الشاي في حياتنا اليومية، وكونه من العادات الموروثة في مجتمعاتنا العربية، وعنصراً أساسياً تتمركز حوله علاقاتنا الاجتماعية، بقي الاهتمام بتاريخه الممتد لآلاف السنوات، وبدوره السياسي والثقافي بين الشعوب، قليلاً.
يقدم الكاتب الهندي إي. جونت بول سرداً مذهلاً لتاريخ الشاي، في كتابه "قصة الشاي"، الصادر عن "مركز البحوث والتواصل المعرفي"، بترجمة هناء العمير.
المشروب القومي
تقول الأسطورة إن الشاي نشأ في الصين في الأزمنة الغابرة من التاريخ؛ أي قبل نحو 5000 عام، إبان حكم الفراعنة لمصر، وتشييد المستوطنات القديمة العظمى في شمال الهند، والإرهاصات الأولى لحضارة بابل، والحضارة الآشورية، فيما كان الأوروبيون في ذلك الوقت يعيشون في الكهوف.كثيرة هي القصص الخيالية حول بداية الشاي، لكن أول ذكر له اعتمده الباحثون في معجم صيني قديم نُشر نحو 350 قبل الميلاد، وكانوا يرون فيه عشباً طبياً.
وفي نهاية القرن الثامن، أصبح الشاي جزءاً أساسياً من نمط الحياة والثقافة والدين في الصين واليابان، فيما أخذت أوروبا عدة قرون قبل أن تعرف هذه السلعة، لأن الشاي وصل الغرب مع عدة بضائع غريبة أخرى، بواسطة القوافل التجارية القادمة من الصين عبر إيران بين القرنين السابع والثامن الميلاديين.
وتدرّج الشاي في الصين إلى أن أصبح علامة على الصداقة وحسن الضيافة، وصار يقدم في المناسبات الاجتماعية كافة، بينما بلغ فن تحضيره ذروته من القرن العاشر فصاعداً.
وكان الهولنديون هم أول من أحضر الشاي إلى أوروبا، ويُعتقد أن أول شحنة وصلت عام 1610م، مع أنواع من البهارات والحرير والكماليات الأخرى. وفي إنكلترا، كان أول بيع علني للشاي حدث عام 1657م، ويمكن التخمين بأن أول الإمدادات كانت عن طريق هولندا.
وقد شاعت عادة شرب الشاي في البلاط الملكي في بريطانيا، بعدما تزوج الملك تشارلز الثاني بالأميرة البرتغالية كاترين، عام 1662م، وكان جزءاً من المهر المقدم جزيرة في بومباي، أجّرها الملك لشركة الهند الشرقية (التي كانت تحتكر تجارة الشاي)، ولأن كاترين كانت مدمنة على شرب الشاي حسب الرواية، ساهمت في شيوع العادة داخل البلاط.
هكذا انحسرت القهوة في بريطانيا على حساب ازدياد شعبية الشاي. وبحلول القرن الثامن عشر، أصبح الشاي مشروباً قومياً، فيما ظلت الضرائب تتزايد حتى شكلت عام 1773 نسبة 64 في المئة من قيمة الشاي، ما جعل تهريب الشاي أمراً مربحاً وتجارة رائجة.
وأما الشعب الذي كان يعد الأكثر شرباً للشاي بعد البريطانيين، آنذاك، فهم الروس، وذلك منذ بداية عام 1618م، حين قدم الصينيون للقيصر الروسي أليكسس عدة صناديق من الشاي، ومع أنها نجحت سريعاً في كسب إعجابه، إلا أنها استغرقت مائتي سنة ليصبح المشروب العام في بلاد الفودكا.
يقدم الكاتب الهندي إي. جونت بول سرداً مذهلاً لتاريخ الشاي، في كتابه "قصة الشاي"، لنتعرّف معه على هذا المشروب الذي تحوّل في تاريخ الشعوب إلى علامة للصداقة حيناً وسبباً للحرب حيناً آخر
في القبائل الجنوبية للعراق، يتعدى الشاي وظيفته الأساسية كمشروب ليصبح طريقة للتواصل. وعلى مدى التاريخ حدثت العديد من النزاعات العشارية بسبب أخطاء وقعت سهواً أثناء تقديم الشاي
وحاولت دول الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات من القرن الماضي، توسيع إنتاج الشاي في القوقاز حيث وصل إلى رابع أعلى إنتاج في العالم، لكنه لم يدنُ من جودة الشاي الهندي ولم يكن كافياً لتغطية الإنتاج المحلي.
شراب المقاتلين، مشروب سيء وسلاح المصلحين
كان الشاي من الاحتياجات الرئيسية للجنود البريطانيين في الحربين العالميتين في القرن الماضي، وكان يُصنع بشكل فج في غالونات ويقدم في أكواب كبيرة، أما الضباط، فكانوا بالطبع يحتسونه في أكواب جميلة ذات صحون. وقيل ان البريطانيين لم يكونوا ليتمكنوا من القتال في الحربين من دون شاي.
وكما كل الأشياء الوافدة على ثقافة معينة، أثار الشاي ريبة المتشبثين بالثقافة القومية، وحتى الدين، فعندما أصبح مشروباً شعبياً في بريطانيا ارتفعت شكوى عام 1767م، مفادها أن "العمال يهدرون أوقاتهم بشرب الشاي جيئة وذهاباً، كما أن خدم المزارعين يطلبون أيضاً الشاي في فطورهم مع الخادمات، هذا المال الضائع على الشاي والسكر يوفر خبزاً لأربعة ملايين شخص".
وعلى الرغم من أن التنديد كان على خلفية طبية، تزعّم جولي ويزلي، مؤسس الكنيسة المنهجية، هجمة على الشاي وكتب حينها "لأنني أتمتع بطبيعة رائعة، ولأني كنت دائماً بصحة جيدة، فقد اندهشت من أعراض شلل بسبب شرب الشاي".
وقال ويزلي إنه أصيب من جراء ذلك بالصداع لثلاثة أيام متواصلة، وظل طوال الوقت نصف نائم. وبعد نهاية هذه المدة، فقد ذاكرته تماماً، فلجأ حينها إلى الصلاة وظل راكعاً على ركبتيه ساعات إلى أن تعافى، وبدت الأعراض التي وصفها وقتها مطابقة الأعراض الانسحابية التي يعانيها مدمن مخدرات في عصرنا الحديث.
في موضع آخر كان ينظر إلى الشاي على أنه السلاح الأكثر فعالية الذي يتمسّك به المصلحون في صيحاتهم لإيقاف شرب الخمر.
الثورة الأمريكية والشاي "المكروه"!
كانت المستعمرات الامريكية تستورد ما يقارب مليون رطل من الشاي سنوياً، بينما كان أضخم استيراد لمستعمرة في ذلك الحين بعد النسيج والبضائع المصنعة.
وفرت الشركات البريطانية معظم الكمية، وكان يضاف إلى السعر قدراً كبيراً من الضرائب، لذلك فإن ثلاثة أرباع الكمية باتت تدخل بطرائق غير مشروعة.
وأدى فرض ضريبة باهظة على الرطل الواحد منه إلى تزايد الغضب والسخط في أمريكا، وخرجت تظاهرات في بوسطن بهذا الخصوص محرّضة الناس على ترك الشاي، فاستجاب عدد كبير من "الوطنيين" ولجأوا إلى بدائل أخرى. ليتحوّل الشاي إلى "البلاء العظيم" و"المشروب المكروه".
في عام 1773، ملأ السخط البلاد بعدما وصلت سفن محملة بالشاي إلى بوسطن، ونظمت تظاهرات عامة غاضبة، وأرسلت رسائل تطالب بـ"خلط الشاي بملح البحر"، بينما قامت فرقة مكونة من 50 الى 60 شخصاً بالصعود الى السفن البريطانية وتكسير الصناديق.
وبلغ إجمالي صناديق الشاي المُلقاة في البحر - وسط تصفيق الجماهير الهائجة - 342 صندوقاً، وتكررت حفلة الشاي في عدة أماكن أخرى منها نيويورك، فيلادلفيا وأنابوليس، إذ دمرت السفن الناقلة للشاي ولم يسمح لها بأن ترسو في الميناء. كان يتبع تدمير الشاي، مسيرات قيل إنها "هزت الحكومة البريطانية" وجعلتها تبحث عن طرق جديدة من الدبلوماسية.
وفي عام 1776م، قدحت شرارة الحرب سريعاً، وصاغ الأمريكيون إعلان الاستقلال. وقتها أصبح الشاي رمزاً للقمع ورفض الوطنيون شربه، ما حوّل القهوة إلى مشروب الأمريكيين المفضّل.
الشاي يواجه الأفيون
شكلت تجارة الصينيين، أُحادية الجانب، خطراً دائماً على الخزينة البريطانية بنقص تعجيزي، ولم يكن لدى الحكومة الصينية أي اهتمام بشيء يمكن لبريطانيا أن تقدمه على سبيل المقايضة.
كانت السلعة الوحيدة التي يقبلونها هي السبائك الفضية، ولكن لم يكن ممكناً الاستمرار بتلك المقايضة من دون التسبّب بنقص كبير في احتياطي الخزانة البريطانية؛ لذلك، اهتدت بريطانيا إلى فكرة "تهريب المخدرات".
وكان الأفيون ممنوعاً في الصين، لكنه كان يُزرع في البنغال التي احتلها البريطانيون وأصبحت تحت سيطرتهم. وللاحتيال على عدم تساوي التجارة، بدأت بريطانيا بتصديره إلى الصين من خلال التشبيك مع أوكار الأفيون ومدمنيه ومافياته.
وكنتيجة لحرب الأفيون، وبعد مشاركة الفرنسيين فيها، اضطر الصينيون للتوقيع على معاهدة "تيان تسين" عام 1856م، التي نتج عنها فتح الصين للتجارة الأوروبية، وامتلك البريطانيون، على إثرها، جزيرة وُصفت في ذلك الوقت بـ "صخرة جرداء" لا يكاد يوجد بها سوى بيت واحد، هي "هونغ كونغ"، ما أعطاهم مكاناً آمناً للتجارة.
الشاي في بلاد العرب
لم يتطرق جونت بول، في كتابه "قصة الشاي"، لكيفية دخول الشاي إلى الوطن العربي، ولا يُعرف على وجه الدقة الفترة التي دخلها الشاي الى هذه البلدان، لكن قيل إن العرب عرفوا الشاي في القرن العاشر للميلاد.
وقيل أيضاً إن البغداديين احتسوا الشاي لأول مرة عند قدوم الشاه الإيراني، ناصر الدين شاه، عام 1870م إلى بغداد أيام ولاية مدحت باشا، بينما عرف العرب الشاي بشكل رئيسيّ منذ القرن التاسع عشر، ففي مصر مثلاً دخل مع الاستعمار البريطاني عام 1882م، لكنه كان في البداية مشروباً نخبوياً مقتصراً على الأسر الأرستقراطية والخديوية، وكانوا يسمونه وقتها "الخروب".
في رواية أخرى، قيل إن الشاي دخل إلى العراق مع الاستعمار البريطاني، وهم أيضاً من أدخلوا كلمة "استكان"، وهي كلمة عربية اشتقت من المصطلح الإنجليزي (East Tea can)، ومعناها كوب الشاي الشرقي، وهكذا يطلق العراقيون تسمية "استكان جاي" على فنجان الشاي.
وفي القبائل الجنوبية للعراق، يتعدى الشاي وظيفته الأساسية كمشروب ليصبح طريقة للتواصل.
وعلى مدى التاريخ حدثت العديد من النزاعات العشارية بسبب أخطاء وقعت سهواً أثناء تقديم الشاي (كما الحال مع القهوة)، كنسيان وضع الملعقة في صحن الشاي أو عدم ملء الفنجان بالكامل (دلالة على الانتقاص من مكانة الضيف!)، أو وضع الملعقة داخل "الاستكان" (دلالة على سوء عرض الضيف وعدم شرفه)، والمشاكل التي تسببها هذه الاخطاء، كانت تصل إلى نزاعات مسلحة بين العشائر.
وفي الحرب العراقية - الإيرانية، كان الشاي حاضراً في الخطوط المتقدمة من الجبهة، وحين تتأخر الإمدادات، كانوا يلفون الشاي بأوراق التبغ، ويدخنونه!
وبعدما استهلكت الحرب العراقية - الإيرانية، التي امتدت لثمان سنوات (1980-1988) بين البلدين، دخل العراق في حرب مع الكويت (1990) وكان الشاي، لا سيما الفاخر منه، من بين مئات الأشياء المنهوبة من بيوت الكويتيين.
نتيجة لتلك الحرب، قررت الأمم المتحدة فرض حصار اقتصادي على نظام صدام حسين، عانى فيها العراقيون من ويلات نقص الغذاء والدواء. في تلك الفترة، انتشر الشاي السيء والمغشوش في الأسواق، وكان عبارة عن نشارة خشب مطلية باللون الأسود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع