قد لا تقلّ جرائم الإبادة الثقافية التي ارتكبها المحتلون عبر التاريخ، وضمنها "إبادة الكتب"، فظاعة عن إبادة البشر، فلطالما سعت سلطات الاحتلال إلى ترسيخ أكاذيب القتلة وتحريف تاريخ الضحايا. ولا يزال وطء هذا النوع من الجرائم ماثلاً في عالمنا اليوم، وإنْ كان مدى التواصل في عصرنا يحول دون قدرة طرف على إخفاء ثقافة طرف آخر بشكل كامل.
مفهوم الإبادة الثقافية
ومفهوم الإبادة الثقافية هو كل عمل عدواني يسعى إلى محو الهوية الثقافية لشعب أو قومية مستهدَفة، وذلك بمحو تاريخه وإرثه الثقافي والأدبي والفني والأثري، ليصبح بلا أثر أو تاريخ حقيقي ملموس، ما يسهّل على المحتل عملية كتابة أو تزوير ما يشاء وجعل أكاذيبه بديلاً عن الإرث الذي جرى تبديده والآثار التي دُمّرت والتاريخ الذي لم يعد له شاهد عليه. واستُخدمت الإبادة الثقافية جنباً إلى جنب مع جرائم الإبادة الجماعية عبر التاريخ. يوضح المؤرخ الفلسطيني منير العكش في كتابه "أمريكا والإبادة الثقافية" كيف قام المستعمرون الأوروبيون بمحو ثقافة سكان الولايات المتحدة الأصليين وتدمير آثارهم، وكيف كانت تلك الشعوب على قدر من التحضّر ولم تكن مجتمعات عشوائية بل كانت تعيش في دول وإمارات منظمة تم محوها على يد المستعمرين البيض، حتى صارت كل معرفتنا بثقافة السكان الأصليين لأمريكا اليوم مجرد صور لقبائل بدائية تسمّى سينمائياً بـ"الهنود الحمر".ونهبت ألمانيا النازية متاحف وكنائس ومكتبات كافة الدول التي وصل إليها جيشها، سواء في فرنسا أو في كافة دول أوروبا الشرقية وصولاً إلى الاتحاد السوفياتي، وكان الغرض محو ثقافة وقومية كافة الشعوب لتبقى الثقافة البروسية والقومية الألمانية الاشتراكية الوحيدة القائمة، بينما تختفي باقي الثقافات. وقام الصرب بالأمر ذاته مع الشعوب الإسلامية الثائرة في البلقان من البوسنة إلى كوسوفو، والهدف محو الثقافة الإسلامية من جمهوريات يوغوسلافيا السابقة، سواء عبر هدم المساجد أو تدمير المكتبات وحرق الكتب الدينية والسياسية وحتى الآثار التي تؤرخ لوجود دولة ذات أكثرية ديموغرافية مسلمة في البوسنة يوماً ما. تتحدث المؤرخة الألمانية ربيكا نوث، في كتابها "إبادة الكتب... تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين"، عن أخطر إبادة ثقافية جرت في المنطقة العربية في القرن العشرين، وهي إبادة لم تجرِ على يد استعمار الدول الكبرى أو الاحتلال الإسرائيلي ولكنها جرت على يد العراق في زمن صدام حسين وطالت الكويت، أثناء ستة شهور من الاحتلال بين عامي 1990 و1991.
الكويت ثقافياً قبل الاحتلال العراقي
كانت الكويت جزءاً من إمارة الإحساء تحت حكم بني خالد في نجد، شرق الجزيرة العربية. وفي بداية القرن الثامن عشر، وصل العتوب، وهم تجمع قبائلي ضم عدداً من القبائل النجدية التي نزحت من الداخل النجدي إلى ساحل الخليج العربي، إلى الإحساء، فاستضافهم بنو خالد، ومع توطيد العلاقات معهم وخاصة مع أهم أسر العتوب، أسرة آل صباح، تركوا لهم منطقة الكويت ليحكموها تحت حماية أمراء الإحساء. لذا لم تكن الكويت يوماً جزءاً من العراق بل من الإحساء، وطابعها الخليجي العربي مختلف تماماً الطابع العربي في العراق، حتى مع انتشار بعض القبائل العربية بين البلدين. ولكنّ الكويت لم تكن من المشايخ الخليجية التي وقّعت معاهدات 1820 مع بريطانيا، وإزاء تخوّف آل صباح من بريطانيا، رفعوا الراية العثمانية عام 1829 وقام العثمانيون لاحقاً بضم الكويت إداريّاً إلى ولاية البصرة العراقية ومن هنا جاء الزعم العراقي بأن الكويت جزء من العراق، رغم أن تبعية الكويت إدارياً للبصرة امتدت فقط بين عامي 1829 و1899 (رسمياً، بعد عام 1871) وكانت بسبب الحماية العثمانية للكويت مع استمرار آل صباح في الحكم. ومع مجيء عام 1899، وقّع حاكم الكويت الشيخ مبارك الكبير الصباح اتفاقية الحماية مع بريطانيا وودعت الكويت الحماية العثمانية، وفي 19 يونيو 1961 أعلنت الكويت بالاتفاق مع لندن استقلالها. على عكس جيرانها في الجزيرة العربية، اهتمت الكويت بالآداب والفنون والآثار مبكراً ولم تنتظر الثورة النفطية في سبعينيات القرن العشرين لتهتم بتلك المجالات. فقد أنشأت المكتبات والمتاحف واشترت أمهات الكتب وأصول الأعمال السينمائية والتلفزيونية ثم بدأت في إنتاجها في الكويت، خاصة عقب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وانتقال ثقل لبنان الفني والثقافي إلى دول الجوار وتأثر مصر بالمقاطعة العربية والعراق بالحرب مع إيران، ما كفل للكويت أن تحتضن فعاليات فنية وثقافية كبرى على أرضها، كذا الإمارات والسعودية، بداية من الثمانينيات. وخلال ستة أشهر بين عامي 1990 و1991، غزا العراق الكويت فوقعت الأخيرة تحت هيمنة 100 ألف جندي عراقي. تم تدمير البنية التحتية للكويت وتُركت مجرد هيكل متداع. استُهدف الكويتيون أفراداً وجماعة وجرى تدمير ممتلكاتهم الشخصية من منازل وعقارات حتى فرّ 60% من مجمل السكان البالغ عددهم 1.3 مليون وقتذاك.ورغم الدراسات المكثفة حول جرائم الرئيس العراقي صدام حسين حيال الكويت إلا أن الإبادة الثقافية التي تمت على يد الجيش العراقي لا تزال مهملة بحثياً، ما وفّر فرصة للباحثة الألمانية لأن تقدّم مادة بحثية تنشر للمرة الأولى.
محو وثائق الكويت
قام الجيش العراقي، بتكليفات مباشرة من صدام حسين، بحرق كافة الوثائق الرسمية والصكوك الملكية وسجلات الكليات والمدارس الكويتية بكل شهادات التخرج والدراسات العليا مثل الماجستير والدكتوراه، ما يعني حرق المنجز البحثي للشعب الكويتي طيلة نصف قرن. تم تدمير 43% من مخازن الكتب في المدارس الكويتية، وضاع مليون كتاب تعليمي ودراسي، وجرى تفكيك المكتبات العامة ونقلها إلى العراق فخسرت الكويت 45% من مكتباتها.رغم الدراسات المكثفة حول جرائم صدام حسين حيال الكويت إلا أن الإبادة الثقافية التي تمت على يد الجيش العراقي لا تزال مهملة بحثياً
خلال احتلال الكويت، قام الجيش العراقي، بتكليفات مباشرة من صدام حسين، بحرق الوثائق الرسمية وسجلات الكليات والمدارس الكويتية، وبتفكيك المكتبات العامة ونقلها إلى العراقوكانت الكويت قد احتضنت مكتبات ضخمة بعد الاستقلال، وتوسعت في جمع التراث الإنساني ولم تكتفِ بما يتعلق بها أو بالمنقطة العربية بل بالتراث الإسلامي كاملاً، وكانت مكتبات الكويت تضم أصولاً لكتب تاريخية من عصور الإسلام المبكر.
وكانت مكتبة جامعة الكويت تضم مجمع مكتبات ضخمة تحتوي على دراسات ورسائل دكتوراه عن كيفية إدارة موارد الكويت النفطية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ما جعل الكويت تخسر ارثاً معرفياً ضخماً لا توجد نسخة ثانية عنه. والأكثر عصرية في الكويت وقتذاك كان منظومة المعلومات الوطنية التابعة لمكتبات جامعة الكويت وكانت تضم آلاف المراجع والمجلدات والتقارير والرسائل الجامعية التي تم تحويلها من النسخ الورقية إلى النسخ الرقمية، ما تطلب مجهوداً استغرق ثلاثين عاماً، تحت إشراف تقنيين وخبراء أجانب في زمن لم تكن التكنولوجيا قد تطورت إلى ما وصلت إليه اليوم من سهولة تحويل النصوص الورقية إلى رقمية.
كما بدأت الكويت قبل الغزو في مشروع لتحويل وثائق وأرشيف البحرين إلى نسخة رقمية، وقد احترق كل هذا أثناء الغزو العراقي، وفقاً للباحث شارمان باركر في كتابه "أضرار الحرب... متحف الكويت الوطني". كما احتوت مكتبة جامعة الكويت على مواد بصرية وسمعية وميكرو-أفلام تعتبر ذاكرة الكويت الحديثة باعتبارها من أوائل الدول العربية التي امتلكت شبكة تلفزيون وكانت تضم أفلاماً نادرة عن أحداث سياسية وتاريخية جرت في الشرق الأوسط منذ الخمسينيات. وتم تفكيك شبكة الإذاعة والتلفزيون الكويتية وحرق أرشيفها ومصادرة مطابع كافة الصحف الكويتية ونقلها إلى العراق وحرق أرشيف الصحافة الكويتية التي كانت تُعَدّ أكثر صحف الخليج العربي تطوراً وليبرالية. بالإضافة إلى ذلك، قام الجيش العراقي بحرق مخازن المخطوطات الإسلامية التي كانت موضع تقدير بالغ من الباحثين في التاريخ الإسلامي. ثم انتقلت عمليات الإبادة الثقافية إلى متحف الكويت الوطني. جرى نهبه كاملاً ونقل محتوياته إلى العراق، ثم حُرق وسُوّي بالأرض، وأظهر تتبع تلك الآثار أنها بيعت في السوق السوداء، وقد وُجدت في بيوت أركان النظام العراقي بعد فرارهم أمام الاحتلال الأمريكي عام 2003.
وتم هدم وتدمير القبة السماوية التي كانت من أهم معالم الكويت الثقافية لسنوات، إضافة إلى استخدام أسلحة مضادة للدبابات لنسف برج الساعة في قصر السيف ثم أُضرمت النيران في مكتبته المغطاة بألواح خشبية ومبانيه الأنيقة ذات الطابع المغربي. أما معهد الكويت للأبحاث العلمية، فقد نسفه الجيش العراقي بالديناميت قبل انسحابه، إلى جانب نهب وتدمير وحرق 82 مركزاً بحثياً، و25 دار نشر ملأت الفراغ العربي الناتج عن غياب لبنان عن صناعة نشر الكتب بسبب الحرب وتأثر مصر بالمقاطعة العربية. وجرى تدمير وحرق وسرقة 45 مركز كومبيوتر في زمن كان هذا الجهاز يُعتبر حدثاً علمياً فريداً وفي زمن كانت كافة الدول العربية لا تمتلك نصف عدد هذه المراكز جمعاء مقارنة بالكويت، وفقاً للباحث تشارلز تريب في كتابه "العراق وحرب الكويت". كما جرى حرق ونهب 601 مكتبة عامة، و26 مكتبة أكاديمية و69 مكتبة متخصصة في شتى العلوم التي تحتاجها دول الخليج العربي. كانت هذه المكتبات توفّر خدمة الاستعارة داخل الكويت وخارجها إلى السعودية والبحرين.
يقول إدوارد سعيد في حديث للمؤرخة نوث: "كانت الكويت مجتمعاً مزدهراً ومؤسساتها ناجحة وليبرالية فأي نفع يمكن أن يرتجى من استهداف كل هذا؟".
تقول نوث: "مقت العراقيين للقوى الرجعية العربية وشيوخ النفط الأثرياء المتأصل في الفلسفة البعثية وفي المدرسة اليسارية غذّى جشعاً لا يمكن كبحه نحو ادعاء التفوق العراقي على الكويت، ما دفع إلى محاولة محو كل آثار الفكر أو التحضر فيها، خاصة أن صدام أشعل عقول العراقيين بتفوق الإنسان العراقي بسبب الحضارة العراقية وبأنه لا يوجد أي شعب آخر يتمتع ولو بقدر بسيط من التحضر والحداثة غير الشعب العراقي بسبب إرثه الحضاري".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...