خلَّفَ اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل المناضل الشيوعي موريس أودين عام 1957 في الجزائر ردود أفعال متباينة داخل فرنسا وخارجها، وصل صداها إلى الأوساط المغربية، وتحديداً لدى عائلة الزعيم اليساري المهدي بن بركة الذي تمّ اختطافه واغتياله في العاصمة الفرنسية باريس يوم 29 أكتوبر عام 1965.
في بيان رسمي، صدر عن "لجنة الحقيقة في اختطاف واختفاء المهدي بن بركة" ومعها "مؤسسة المهدي بن بركة ذاكرة حية"، طالبت عائلة المعارض المغربي الجمهورية الفرنسية بضرورة رفع السرية عن جميع أرشيفات الدولة؛ خاصة أرشيف الإدارة العامة للأمن الخارجي، بغية إجلاء الحقيقة حول عملية اختطاف بن بركة التي انتهت باغتياله، دون معرفة مصير جثته إلى اليوم.
اغتيال بن بركة.. اللغز المُحيِّرْ
حتى بعد مرور أزيد من نصف قرن على اختفائه، بقيت قضيته حاضرة بقوة مثيرة الكثير من الجدل؛ ففي الوقت الذين اعتقد البعض أن القضية ستُنْسى بفعل توالي السنين، حدث العكس، وتحول الأمر إلى كرة ثلج تكبر سنة بعد أخرى.
بدأت القصة عام 1965. في هذه السنة بالذات، كان يعيش المغرب على وقع غليان سياسي واجتماعي غير مسبوق، هدّد استقرار البلاد واستمرار الملكية. وفي شهر مارس، شهدت مدينة الدار البيضاء انتفاضة شعبية تم قمعها بشكل دموي، وأعلن الملك الحسن الثاني حالة الاستثناء ليحكم البلاد بشكل منفرد، وبين هذين الحدثين، كان هناك رجل يعيش في المنفى هو المعارض الأول للملك، يدعى المهدي بن بركة، ويحظى بشعبية واسعة داخل المغرب وخارجه.
صيت بن بركة ذاع في الخارج بقوة، فالرجل كان بصدد الإعداد لمؤتمر التضامن مع شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تحت اسم "مؤتمر القارات الثلاث". لم يتمكن "دينامو" المؤتمر من حضوره بعدما اختفى بطريقة غامضة من قلب شارع سان جيرمان عام 1965، لكن العاصمة الكوبية هافانا احتضنت فعاليات المؤتمر العالمي في يناير عام 1966، ليتحول منذ ذلك التاريخ اسم بن بركة إلى أسطورة حية تأبى أن تُنسى.
من خطَّطَ لعملية الاختطاف؟ هل هو النظام المغربي الذي ضاق ذرعاً من تحركات بن بركة ومن شعبيته المتزايدة في الخارج؟ هل كان صناع القرار الفرنسيون على علم بالمخطط؟ من قتل بن بركة؟ هل هو وزير الداخلية المغربي أوفقير أم الجنرال الدليمي أم واحد من المجرمين الفرنسيين؟ أين هي جثته؟ متى ستظهر الحقيقة الكاملة ليتم طيّ الصفحة؟
أسئلة كثيرة ما تزال مطروحة بقوة، في ظل غياب أي اعتراف رسمي من قبل السلطات المغربية والفرنسية يشفي غليل زوجة وأبناء بن بركة.
البحث عن الحقيقة... محطات حاسمة
منذ تولي محمد السادس مقاليد الحكم خلفاً لوالده صيف 1999، عرفت قضية بن بركة تطورات متسارعة، فوفاة الحسن الثاني كانت قد شكلت منعطفاً حاسماً في مسار البحث عن الحقيقة، بالنظر إلى أن الحديث عن عملية اغتيال الزعيم المغربي إبان حكم الملك الحسن في المغرب كان يُعد أمراً مستحيلاً.
في يونيو 2000، قام الصحافي الفرنسي في قناة "فرانس3" جوزيف تويال، برفقة مدير نشر مجلة "دومان" المغربية علي المرابط، بإعداد تحقيق صحافي مثير، تضمن معطيات خطيرة عن معتقل سري في أحد الأحياء الراقية للعاصمة المغربية الرباط، كان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مركزاً لتعذيب المعتقلين السياسيين وتصفيتهم.
من خطَّطَ لعملية الاختطاف؟ هل هو النظام المغربي الذي ضاق ذرعاً من تحركات بن بركة ومن شعبيته المتزايدة في الخارج؟ هل كان صناع القرار الفرنسيون على علم بالمخطط؟ أسئلة لا تزال تُطرح بقوة بعد مرور 53 عاماً على اختفاء وقتل الزعيم المغربي
جدَّدَ قاضي التحقيق المكلف بملف بن بركة مؤخراً طلب رفع السرية عما يزيد عن 300 صفحة من الوثائق التي تمّ حجزها داخل مقرات الأجهزة السرية الفرنسية، بحسب ما كشف نجل الزعيم المغربي لرصيف22
الصحافيان تمكنا من تحديد مكان المعتقل السري السابق، المعروف اختصاراً ب PF3 "النقطة المحددة رقم 3" ، وقاما بتصويره، لكن المفاجأة التي كانت بمثابة القنبلة هي حصولهم على شهادة علي بوريكات، الذي أكد بإصرار أن رأس المهدي بن بركة تم دفنه داخل المعتقل السري الموجود في العاصمة.
بوريكات، الذي كان مقرباً من أفراد العائلة الملكية وتم اعتقاله برفقة أخويه مدحت وبايزيد في سجن تازمامارت الرهيب، أكد بأن المجرمين الفرنسيين الذين شاركوا في اختطاف بن بركة في باريس هم اللذين أخبروه بمصير جثة بن بركة، لما كان هو الآخر معتقلاً في PF3 إلى جانبهم، قبل أن تتم تصفيتهم لاحقاً لأنهم كانوا يعرفون جيداً مصير بن بركة بعد اختطافه، وتفاصيل قتله وكيفية التخلص من جثته.
لكن إلى حدود الآن، لم تتحقق مساعي عائلة ودفاع بن بركة بإقناع السلطات المغربية بضرورة فتح المعتقل PF3 للبحث عن رأس بن بركة؛ هذا في الوقت الذي أكد الإخوة بوريكات مصداقية أقوالهم بخصوص مصير جثته.
وكان الإخوة بوريكات أكدوا بأنه خلال مدة اعتقالهم هناك كانوا قد عاينوا عمليات دفن مجموعة من المعارضين الذين تم قتلهم داخل هذا المعتقل السري الذي يقع في الحي الذي تسكن فيه النخبة السياسية المغربية، ما يعني أن الكثير من الجثث توجد خلف أسوار هذا المعتقل الغامض الذي تحول الآن إلى مجرد قطعة أرض لا يمكن لأحد الاقتراب منها بوجود الحراسة الأمنية المشددة في الحي.
سنة واحدة بعد ذلك، أي عام 2001، ظهر رجل يدعى أحمد البخاري، وهو ضابط سابق في المخابرات المغربية، يدعي بأن جثة بن بركة قد أُدخلت إلى المغرب بعد اغتياله، وأنه تم تذويبها في حوض من "الأسيد" في معتقل سري آخر يدعى "دار المقري" وموجود كذلك في مدينة الرباط.
لكن شهادة البخاري، التي نُشِرتْ على صفحات أسبوعية "لوجورنال" المغربية وجريدة "لوموند" الفرنسية، قوبلت بالشك من طرف العديد من المتابعين، الذين رأوا في كلامه محاولة للتشويش على ما كشفه بوريكات بخصوص مصير جثة المهدي بن بركة.
وخلال عام 2007، حصل تطور مثير في القضية، تمثل هذه المرة في قرار القاضي الفرنسي باتريك راماييل، الذي كان يتولى التحقيق في قضية اغتيال المعارض المغربي، إصدار مذكرة بحث دولية بحق خمسة مسؤولين مغاربة، بينهم جنرالين بارزين ومسؤولين أمنيين؛ ليقوم بعد ذلك الإنتربول بتبني مذكرة البحث وتعميمها عام 2009 دون أن يتم تنفيذها رغم محاولات القاضي المتكررة الاستماع إلى شهادات هؤلاء المسؤولين.
عائلة بن بركة: لا استسلام حتى تظهر الحقيقة
في حواره مع رصيف22، كشف أستاذ الرياضيات البشير بن بركة، نجل الزعيم المغربي، عن موقفه من بادرة الرئيس الفرنسي تجاه زوجة موريس أودين، معبّراً عن أمله في أن تشكل هذه الخطوة عاملاً إيجابياً يساهم في إظهار الحقيقة الكاملة المتعلقة باختطاف واغتيال والده.
كيف استقبلت عائلة الزعيم المغربي اعتراف ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل الناشط الشيوعي موريس أودين سنة 1957، وتقديمه اعتذاراً رسمياً لزوجته جوزيت؟
يجيب البشير بن بركة قائلاً "لقد ابتهجنا لانتصار الحقيقة والعدالة الذي يعني نهاية واحد وستين سنة من الإنكار. إنها خطوة تاريخية تفتح صفحة جديدة ستُمكِّنُ أخيراً من معرفة الظروف الحقيقية لمقتل المناضل الشيوعي والمقاوم موريس أودين؛ وكذا المكان الذي دفن فيه".
في المقابل، أمل نجل الزعيم المغربي أن تكون بادرة الرئيس الفرنسي، ذات البعد التاريخي، بمثابة الخطوة التي ستسبق مبادرات أخرى مماثلة، ستمكن من تجاوز قيود ما يُعرف بـ"مصلحة الدولة" (Raison d'état)، التي تُعرقِلُ مسار العدالة، من أجل معرفة الحقيقة حول مصير المهدي بن بركة.
ويوضح "منذ ما يقارب 53 عاماً ووالدتي، غيثة بن بركة، تقود معركة من أجل الحقيقة حول اختطاف واختفاء زوجها، هي وعائلتها، والمحامي السيد موريس بوتان، وجميع من يناضلون إلى جانبنا من أجل هذه القضية العادلة".
وعن الخطوات الرسميّة للمطالبة مجدداً بفتح الأرشيف المتعلق بقضية بن بركة، يجيب نجله موضحاً أن هناك شكاية موضوعة أمام المحكمة العليا في باريس منذ عام 1975 (43 سنة)، ويضيف "لم نكف عن المطالبة بفتح جميع الأرشيف الذي يخص قضية والدي... لقد جدَّدَ قاضي التحقيق المكلف بالملف مؤخراً طلب رفع السرية (Secret-défense ) عما يزيد عن 300 صفحة من الوثائق التي تمّ حجزها داخل مقرات الأجهزة السرية الفرنسية.
ومع اقتراب ذكرى اختفاء المهدي بن بركة، التي تحل في 29 أكتوبر المقبل، ستكون قد مرت 53 سنة من دون أي حلّ للقضيّة. وفي السياق، يكشف البشير بن بركة أنه "ككل سنة، سيتم تنظيم تجمع أمام مقهى (ليب Lipp) في شارع سان جيرمان في باريس، عند الساعة السادسة مساءً. وسيكون هناك تظاهرات أخرى، من قبيل موائد مستديرة ونقاشات، من الأرجح أن يتم تنظيمها من طرف بعض الجمعيات والمنظمات المغربية و/أو الفرنسية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع