شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
اعترف بـ

اعترف بـ"نظام" تعذيب في الجزائر وطلب الصفح عن قتل موريس أودين... كيف تُقرأ "بادرة ماكرون التاريخيّة"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 14 سبتمبر 201810:55 ص
نصف قرن وجوزيت أودين تنتظر الحقيقة، الحقيقة الكاملة. هي زوجة موريس أودين، أستاذ الرياضيات الفرنسي الذي نشط مع الحزب الشيوعي في الجزائر لمناصرة الاستقلال قبل أن تختفي آثاره أثناء "معركة الجزائر". جرى توقيف أودين على يد القوات الفرنسية في 11 يونيو عام 1957، حين كان في عمر الـ 25، للاشتباه بإيوائه "ميليشيات مسلّحة" في منزله، وبعد فترة وجيزة قيل لزوجته جوزيت إنه هرب بينما كان يُنقل من سجن إلى آخر، لكن كل الشكوك بقيت حاضرة بشأن تعرّضه لتعذيب شديد قبل أن يُعدَم. [caption id="attachment_162994" align="alignnone" width="700"] موريس وجوزيت أودين[/caption] في الفترات السابقة، كان يبرز اسم أودين بين الحين والآخر. المرة الأولى، كانت عام 1958 حين أكد المؤرخ بيار فيدال - ناكيه أن الرياضي قد أُعدم على يد الجنرال بول أوساريس. وفي عام 2000، في مقابلة مع صحيفة "لوموند"، نفى أوساريس أية معرفة بأودين. وفي تحقيق أجراه الصحافي جان شارل دونيو حول "حقيقة موت موريس أودين"، توصّل إلى أن الأخير أُعدم على يد ضابط فرنسي بأمر من الجنرال جاك ماس. حتى أتى عام 2014، ليعلن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند أن "أودين لم يهرب أثناء نقله. لقد مات خلال اعتقاله".   لكن الخطوة التي قام بها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، وما رافقها من اعتراف، أخذت الأمور إلى مستوى آخر من الرمزية. جعلت من 13 سبتمبر نقطة مفصليّة، شبهتها الصحافة الفرنسية بالأثر الذي تركه اعتراف الرئيس الأسبق جاك شيراك عام 1995 بمسؤولية الدولة الفرنسية في ترحيل اليهود الفرنسيين إلى المحرقة. لقد اعترف ماكرون، وهو أول رئيس فرنسي يولد بعد الحرب، بممارسات التعذيب على أيدي الجيش الفرنسي، الذي خدم منه في الجزائر ما لا يقل عن 130 ألف رجل. أقرّ أن فرنسا أنشأت خلال حرب الجزائر (1954-1962) "نظاماً" استُخدم فيه "التعذيب"، مؤكداً على ما سبق وأظهره من صراحة في التطرق إلى المسائل التاريخية وكسر المحظورات بشأنها. [caption id="attachment_162991" align="alignnone" width="700"] ماكرون مع ميشيل، ابنة موريس أودين، عند مغادرته منزل العائلة في بانيوليه[/caption] أتى ذلك الاعتراف في وقت زار فيه الرئيس الفرنسي أرملة أودين ليطلب منها الصفح على ما ارتكبته فرنسا بحق زوجها، لأنه "من المهم أن تُعرف هذه القصة، وأن يُنظر إليها بشجاعة وجلاء. هذا مهم من أجل طمأنينة وصفاء نفس أولئك الذين سببت لهم الألم (...) في الجزائر وفي فرنسا على حد سواء". واستكمالاً لما كان قد بدأه خلال زيارته التاريخية إلى الجزائر في نهاية 2017، وعد ماكرون كذلك بـ"فتح الأرشيف المتعلق بقضايا اختفاء مدنيين وعسكريين من فرنسيين وجزائريين" خلال الحرب التي ما زالت تشكل، بعد حوالي ستة عقود على نهايتها، أكثر الملفات جدلاً في تاريخ فرنسا الحديث، وأكثرها تعقيداً على ضوء علاقاتها الوثيقة والمعقدة في آن مع الجزائر.

"الخروج عن صمت الأب"

أثارت تصريحات ماكرون ردود فعل واسعة. "إنها نهاية كذب الدولة"، كما وصفتها المؤرخة رافاييل برانش المتخصصة بحقبة التعذيب في الجزائر، شارحة بالقول "استخدام ماكرون لكلمة (نظام) كانت أساسيّة، إذ أظهرت أن إعلانه يتخطى خصوصيّة حادثة أودين، للاعتراف بأن قوات النظام مارست تعذيباً ممنهجاً حصل من الدولة على غطاء رسمي، بقوننته حيناً والتستّر عليه حيناً آخر".    من جهتها، قالت المؤرخة سيلفي ثينول إن "الدولة باعترافها بالمسؤولية في اختفاء موريس أودين، تقر بالمسؤولية عن جميع حالات الاختفاء في الجزائر في عام 1957 التي لم تعترف بها من قبل"، فعلى الرغم من اعتراف جنرالات سابقين بتعذيب محاربين لأجل استقلال الجزائر، لكن هذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها رئيس فرنسي بأن الدولة سهّلت ارتكاب تلك الانتهاكات. وكانت قضايا ملاحقة الانتهاكات، مثل قضية أودين، قد بقيت غير مرئية على الساحة القانونية بسبب قانون عائد للعام 1962، والذي يمنح الحصانة، بمفعول رجعي، لعدد من المسؤولين ومنهم جنرالات وعسكريين قد يكونوا ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. [caption id="attachment_162993" align="alignnone" width="700"] الجزائر 1961[/caption] كما فرضت الحكومة الفرنسية سابقاً رقابة على الصحف والكتب والأفلام التي تحدثت عن ممارسة التعذيب، وبعد الحرب، ظلت التجاوزات التي ارتكبتها قواتها من المواضيع التي يحظر الحديث عنها في المجتمع الفرنسي.
أقرّ ماكرون أن فرنسا أنشأت خلال حرب الجزائر (1954-1962) "نظاماً" استُخدم فيه "التعذيب"، مؤكداً على ما سبق وأظهره من صراحة في التطرق إلى المسائل التاريخية وكسر المحظورات بشأنها
رأى الناشط الجزائري في مجال الحريات ياسر لواتي أن ماكرون لم يذهب بعيداً كفاية في اعترافه، مشيراً على سبيل المثال إلى عدم تطرق الأخير إلى العنف الذي وقع بحق الجزائريين في فرنسا نفسها
وقال بنجامين ستورا، المؤرخ الفرنسي الذي رافق ماكرون لزيارة أرملة أودين، إن الخطوة التي قام بها الرئيس تمثل "خروجاً عن صمت الأب" الذي غلب على علاقة فرنسا بتاريخها الاستعماري، و"يسمح لنا بالمضي قدماً للخروج من النكران إلى خدمة الحقيقة". ولمن يعرف تاريخ الجزائر الاستعماري، يدرك أن الأخيرة لم تكن مجرد مستعمرة بالنسبة لفرنسا بل كانت جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وعليه فقد عاش فيها ملايين الفرنسيين، وحين ثارت الجزائر عام 1945، أتى القمع شديد الوحشية وترك آثاره على مستقبل فرنسا بشكل قد يضاهي آثار حرب فيتنام على الولايات المتحدة الأمريكية.   "الجميع يعلم أن اعتقال رجال ونساء في الجزائر إبان تلك الظروف يعني عدم عودتهم لذويهم ... العديد من العائلات فقدت الاتصال بأولادها خلال ذلك العام"، كما جاء في تصريح الإليزيه. [caption id="attachment_162989" align="alignnone" width="700"] الجزائر 1961[/caption] وحسب المصادر الفرنسية، فإن حرب الجزائر أوقعت 450 ألف قتيل من الجانب الجزائري، و30 ألف قتيل من الجانب الفرنسي، وأدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفرنسيين من هذا البلد. وكتبت وكالة الصحافة الفرنسية شارحة "سواء تعلق الأمر بالفرنسيين الذين هربوا من الجزائر أو الجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب القوات الفرنسية التي تخلت عنهم أو عائلات المفقودين الذين اختطفهم الفرنسيون أو الجزائريون، والمجندين الشباب الذين ألقي بهم في أتون الحرب، فلقد عانت قطاعات واسعة من المجتمع الفرنسي خلال تلك الحقبة ويبدو أن ماكرون عازم على إنهاء هذه المعضلة". وتعليقاً على ما وُصف بـ"بادرة ماكرون التاريخية"، ذكّر المؤرخ باتريك غارسيا بـ"البادرات الأولى التي تعود إلى فترة جاك شيراك عندما اعترف من خلال سفيره عام 1998 بمجازر سطيف (1945) وفتح بذلك عملية اعتراف تواصلت مع فرنسوا هولاند الذي أقر بقمع تظاهرات أكتوبر 1961 في باريس وكذلك بقساوة النظام الاستعماري، عام 2012".

بادرة ماكرون… "في غير محلها" أو "ناقصة"

استباقاً للانتقادات، حرص ماكرون على عدم توجيه الاتهامات للجميع. بحسب افتتاحية "ليبراسيون"، رسم خطاً فاصلاً بين القوات الفرنسية أيام الاستعمار وقوات اليوم، وحتى بين عناصر قوات تلك الفترة الذي خرج من بينهم من رفض ممارسة التعذيب كجاك باريس دي بولارديير.
"الدولة باعترافها بالمسؤولية في اختفاء موريس أودين، تقر بالمسؤولية عن جميع حالات الاختفاء في الجزائر في عام 1957 التي لم تعترف بها من قبل"
رسم ماكرون الخط كذلك في الصف السياسي حيث تقع المسؤولية تحديداً على من أعطى الجيش الضوء الأخضر لاستخدام الأساليب والإجراءات "المناسبة" لإعادة الأمن والنظام إلى الجزائر حين كانت تشهد ثورة حقيقية أجبرت فرنسا في نهاية المطاف على تحرير الجزائر بعد توقيع اتفاقية "إفيان". مع ذلك، اعتبرته جهات فرنسية مخطئاً في ما فعله. وقالت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان "ما هي مصلحة الرئيس في نكء الجراح عبر التطرق إلى حالة موريس أودين؟ إنه يسعى إلى استغلال انقسام الفرنسيين بدلاً من توحيدهم في مشروع". كما ندّد والدها جان ماري لوبان، الشخصية اليمينية المتطرفة تاريخياً الذي قاتل في الجزائر كذلك، بهذه البادرة، ووصفها بأنها "في غير محلها". [caption id="attachment_162990" align="alignnone" width="700"] رسم موريس أودين في الجزائر[/caption] في المقابل، رحبت الحكومة الجزائرية بهذا التطور ورأت فيه "خطوة إيجابية يجب تثمينها". وقال وزير المجاهدين الطيب زيتوني إن فرنسا والجزائر سيعالجان ملف الذاكرة "بحكمة". لكن الناشط الجزائري في مجال الحريات ياسر لواتي رأى أن ماكرون لم يذهب بعيداً كفاية، مشيراً على سبيل المثال إلى عدم تطرق الأخير إلى العنف الذي وقع بحق الجزائريين في فرنسا نفسها، كالمجزرة التي ارتكبتها الشرطة الفرنسية في باريس في أكتوبر 1961، وسقط خلالها 200 جزائري كانوا يطالبون بالاستقلال. ينقص كذلك، بحسب لواتي، التعامل مع "إرث الحقبة الاستعمارية"، في الجزائر وفرنسا، ومنها "نظام الحكم الفرنسي القائم على إعطاء الصلاحيات لرئيس الجمهورية وتعزيز السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية وحالات الطوارئ... كل ذلك ما زال من إرث الاستعمار هناك". كما ينتظر الجزائريون مبادرات على غرار إعادة جماجم قادة بارزين في المقاومة الجزائرية - وفي مقدمتهم شريف بوبغلة الذي تزعم القتال ضد المستعمر في منطقة القبائل (وسط الجزائر) في مطلع 1850 والشيخ بوزيان زعيم ثورة الزعاطشة (جنوب شرق) في 1949- المحفوظة في متحف الإنسان في باريس. وإزاء ما تقدّم، لا يمكن إغفال البعد العلاقاتي المنفعي بين فرنسا والجزائر، حيث جرى الحديث أواخر عام 2017، أثناء زيارة ماكرون للجزائر، عن أولويات باريس بإعادة دفع المبادلات الاقتصادية مع الجزائر في وقت تركت فيه فرنسا مكانها كأول مزود لأفريقيا للصين، وبين القطاعات ذات الأولوية صناعة السيارات والصيدلة والصناعات الغذائية.  من جهة ثانية، هناك ملف الهجرة، الذي برز مثلاً حين زار وزير الداخلية الفرنسي جيرار كولومب الجزائر في مارس الماضي حيث التقى نظيره الجزائري نور الدين بدوي للتباحث حول مسألة الأمن والتصدي للهجرة غير النظامية، على وجه الخصوص، منتظراً من الجزائر لعب دور الشرطي في السياسة الهجرية الأوروبية. ورغم العلاقات الاستثنائية الرسمية بين البلدين، لم تصل باريس والجزائر بعد إلى التطبيع الكامل… فهل تدفع خطوة ماكرون في هذا الاتجاه؟  

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard