تكمن خصوصية الفنان رفيق على أحمد (لبنان)، في أنه استطاع أن يقدم قالباً فنياً ينسجم مع طروحاته، فحافظ على الشكل الفني الخاص به، انطلاقاً من جدلية المسرح والحياة، وتأثير كل منهما على الآخر. لذلك، كان الواقع اللبناني، بتشعباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يتصدر مجمل أعماله، في محاولة منه لتفكيك المنظومات التي تحكم هذا الواقع، وتثبته، حتى لو على الخشبة فقط.
هكذا، استطاع رفيق علي أحمد (مواليد 1951) أن يحاكي المراحل المفصلية من تاريخ لبنان. لقد كان مسرحه انعكاساً لها، وهو المؤمن بحقيقة أن "تطور الشكل الفني مرتبط بتغير الواقع وشروطه، فالفن هو الإبن الشرعي للتغيير". استقى علي أحمد معظم أعماله المسرحية من تجربته الحياتية، ولهذا كانت عروضه تجعل المشاهد اللبناني يعيد النظر في دراماتورجيا لبنان وطبيعة القوى المؤثرة به. ونصوصه يتم إعادة كتابتها عبر الارتجال على الخشبة، في محاولة منه لنزع القدسية عن النص المكتوب. لذلك، برز كظاهرة في المسرح العربي كونه الممثل - الكاتب، والمخرج أحياناً.
أثناء الاجتياح الإسرائيلي، وصل رفيق إلى العاصمة اللبنانية وبحوزته الكثير من الحكايا الشعبية والقصص الريفية، التي استفاد منها في صياغة أعماله. ففي السنة الأولى برز كطاقة تمثيلية استثنائية في تعاونه مع المخرج يعقوب الشدراوي في مسرحية "ميخائيل نعيمة"، ليبدأ بعدها مشواره الطويل مع فرقة مسرح الحكواتي. إنها التجربة التي سطرت اسمه كواحد من أهم الممثلين العرب، لا سيما في الأعمال المونودرامية التي تتطلب ممثلاً من نوع خاص، فوقف رفيق علي أحمد على الخشبة كممثل وحيد لما يزيد عن الألف مرة.
الجرس - 1991
هكذا، من "حكايا 1936" (1979) إلى "أيام الخيام" (1982)، استطاع الراوي الشعبي أن يجد نفسه بين الأسماء الكبيرة في المسرح اللبناني. بعدها كانت مسرحية "الجرس" (1991) من تمثيله وتأليفه، والتي نال عنها جائزة أفضل ممثل في مهرجان قرطاج المسرحي حينها. لعب رفيق علي أحمد في هذه المسرحية دور الراعي الشعبي الذي يسرد حكايات قرية وتفاصيلها.
هكذا، استطاع الراعي أن يستحضر شخوص القرية لينقل همومهم ويظهر أثر الحرب فيهم. كما أخضع الراعي هؤلاء الشخوص لمحاكمات ذهنية من قبل جمهور الصالة، الذي يعرف هذه الشخصيات المحلية جيداً، فاستطاع ببراعة إبراز أفكارها على مستوى الطرح، وتمايزاتها الشكلية، من خلال توظيف الأغراض المسرحية، ودلالتها، معتمداً على خبرته بأدواته كممثل "الصوت - الجسد". ليست "الجرس" من المحطات الهامة في مسيرة رفيق علي أحمد فحسب، بل تعدّ من أيقونات المسرح العربي حتى يومنا هذا.
زواريب - 1998
فنان أصيل، حافظ على قضيته الأساسية، رغم كل التحديات والصعوبات. لم يتعب الدون كيشوت المحلي يوماً من حمل جرسه الثقيل، فلازم "الجرس" اسمه حتى هذه اللحظة، ليُذكر العالم من حوله بزيف الحروب وأقنعتها. حاول أن يطوع التاريخ بما يتناسب مع مضمون رسالته، فراح يبحث في التاريخ العربي عن ضالته.
هكذا، قدم مع المخرج ربيع مروة "المفتاح" (1996)، معالجةً مسرحيةً لموضوعات إشكالية، تكمن بين التاريخ والمستقبل، الشرق والغرب، الأنا والآخر، آملاً أن تعاد قراءة التاريخ من قبل اللبنانيين، وأن يدرك الجميع حقيقة الحرب، فمن إحدى خصائصها أنها تتخفى تحت غطاء معين، كالحروب الصليبية التي اختبأت تحت غطاء الدين. إنه ينتهج بذلك نهج الكاتب الألماني برتولد بريشت الذي أشار لحقيقة حرب الثلاثين عام في مسرحية "الأم شجاعة"، وحاكى من خلالها الحرب العالمية الثانية التي كانت تأخذ العالم بأكمله إلى الدمار، فالصراع بين الكاثوليك والبروتستانت ما كان إلا غطاء فقط ليخفي حقيقة هذه الحرب التي أودت بأوربا كلها إلى الهلاك، فيما كان ملعب هذه الحرب على أرض ألمانيا التي عانت من الانقسام لفترات طويلة قاربت 200 عام.
جرصة - 2007
انتخب رفيق علي أحمد في عام 2000 كرئيس لنقابة الممثلين اللبنانيين، فعمل على إعادة الاعتبار لمهنة التمثيل، محاولاً استصدار قوانين تكفل كرامة المشتغلين بها. إلا أنه استقال بعد أن فشل في حث الحكومة على استصدار قوانين تحمي الممثلين اللبنانيين. أراد بعد ذلك أن يورط نفسه على الخشبة، كعادته، ليكشف أوراقاً من حياته الخاصة، محاولاً من خلالها تعرية نفسه كفنان وإنسان. لكن جذوره الممتدة في الأرض ورطته بأن يقوم بتعرية المجتمع، ويباشر بإشارات صريحة إلى مكامن الفساد والتخلف، انطلاقاً من خطاب وطني مسرحي، يشكل مرآة تورط المشاهد وتفضحه أيضاً. وهذه المرآة هي نيغاتيف إنساني مختصر يشخص نوعاً من السرطان الاجتماعي المستشري، ولكن رفيق لا يخفي تفاؤله في "جرصة" التي قام بإخراجها أيضاً (2007).
الممثل الشامل، رقص على المسرح، ووقف وحيداً على الخشبة، وغنى أيضاً. شارك مع الرحابنة في أعمالهم الاستعراضية الضخمة، وحظي بالبطولة في مسرحهم أيضاً، مقدماً منصور الرحباني في "آخر أيام سقراط" (1998)، و"حكم الرعيان" (2004) و"جبران والنبي" (2005).
في أخر أعماله المسرحية (2011)، اشتغل رفيق مع الرحابنة الجدد (أولاد منصور الرحباني)، في لبننة لرواية دونكيشوت لسرفانتس. في هذا العمل كان رفيق علي أحمد "دوناً" ريفياً لبنانياً، بصوته الرخيم وبنظرته الثاقبة قارع طواحين الهواء... وذلك ليس غريباً على رجل مثله، فعل ذلك طويلاً على خشبة المسرح وخارجها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين