"لجنة كاهان"، أو ما عُرف بلجنة التّحقيق في أحداث مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في بيروت"، هي لجنة تحقيق رسمية أنشأتها الحكومة الإسرائيلية في أكتوبر عام 1982، أي بعد وقت قصير على مجزرة صبرا وشاتيلا، برئاسة رئيس المحكمة العليا يتسحاق كاهان لـ"تقصّي الحقائق والدّوافع الّتي أدّت إلى الفظائع التي اقترفتها القوات المسيحيّة اللبنانيّة بحقّ السُّكّان المدنيين العُزّل". حين نشرت اللجنة تحقيقها في فبراير 1983، خلصت إلى أنها لم تجد أدلة حول تورط مباشر لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" في المجزرة، لكنها لمّحت إلى أن ضباطاً من الجيش قد علموا مسبقاً بما سترتكبه قوات الكتائب اللبنانية في المخيمين ولم يحركوا ساكناً. تقرير "لجنة كاهان" كان مرفقاً بملحق بقي سرياً إلى أن نشره الباحث الأمريكي في جامعة كولومبيا سيث أنزيسكا في كتابه الجديد، وفيه (الملحق) تفاصيل اللقاءات التي جمعت بين مسؤولي الموساد والاستخبارات الإسرائيليين وبين مسؤولي الكتائب اللبنانية، وما جرى بينهم دقيقة بدقيقة.
كيف وصلت الوثائق لأنزيسكا؟
تعود القصة إلى عام 2012. حينها، وقع أنزيسكا على مجموعة وثائق سريّة ترجّح تورط جهات أمريكية في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. كانت الوثائق المتعلقة بحرب إسرائيل في لبنان محفوظة في دائرة المحفوظات الوطنية الإسرائيلية في القدس، وقد فُتحت للتو أمام الباحثين - بموجب قانون الإفصاح عن الوثائق بعد مرور ثلاثين عاماً - بعدما كانت مصنّفة في خانة السريّة التامة. خلال البحث في ملفات وزارة الخارجية آنذاك، عثر الباحث على محضر اجتماع في 17 سبتمبر بين وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون ومبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط موريس درابر، جرى على ضوء مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم نشره لاحقاً في "نيويورك تايمز" كاشفاً ما جرى في الاجتماع. في الاجتماع، طمأن شارون درابر إلى أن "إسرائيل لن تورّط الولايات المتحدة في الجريمة"، قائلاً "إذا كنت متخوفاً من أن تتورط معنا، فلا مشكلة، يمكن لأمريكا بكل بساطة أن تنكر الأمر أو علمها به، ونحن بدورنا سننكر ذلك أيضاً". في ذلك الوقت، أشارت الصحيفة الى أن الحوار الذي دار بين شارون ودرابر يؤكد أن "الإسرائيليين كانوا على علم بأن حلفاءهم اللبنانيين قد دخلوا المخيم، وأن عمليات التصفية العشوائية قد بدأت". وكشفت وثيقة أخرى أن شارون قال "... لن نبقي أحداً منهم، لن نسمح لكم - ويقصد للولايات المتحدة- بإنقاذ هؤلاء الإرهابيين". وقد سارع درابر الى الرد بالقول "لسنا مهتمين بإنقاذ أحد من هؤلاء"، فكرر شارون قوله "إن كنتم لا تريدون أن يقتلهم اللبنانيون فسنقتلهم بأنفسنا"، ما جعل درابر يردّ حاسماً "نود منكم الرحيل... دعوا اللبنانيين يتصرفون". في كتابه الجديد، يكشف أنزيسكا كيف وبعد نشر تلك الوثائق عام 2012، تواصل معه ويليام كواندت، الباحث الأمريكي المختص بشؤون الشرق الأوسط والذي تولى الشؤون العربية والإسرائيلية في مجلس الأمن القومي أيام جيمي كارتر. سلّم كواندت الوثائق التي تشكّل الملحق السري لتحقيق كاهان لأنزيسكا كي يعمّق أبحاثه حول المجزرة. ولكن كيف وصلت الوثائق لكواندت بالدرجة الأولى؟ بين عامي 1983 و 1984، تولى كواندت الدفاع عن مجلة "التايم" في الدعوى المرفوعة بحقها من قبل آرييل شارون الذي انزعج من اتهامها له بالمسؤولية المباشرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا. وفي سياق تحضير الدفاع للقضية، وصل إلى شركة المحاماة Cravath, Swaine &" Moore" ملفاً سرياً تضمن تحقيق كاهان والملحق السري. وعمدت الشركة إلى ترجمة الأخير من العبرية إلى الإنكليزية، وإلى مطابقة الترجمة بالاستعانة بعدد من الباحثين وبمصادر إسرائيلية.
ما الجديد الذي كشفته؟
"ننشر هنا للمرة الأولى هذه المقتطفات باللغة الإنكليزية من ملحق تقرير لجنة كاهان، بشكلها الأصلي وكمصدر مفتوح، كي يُتاح للباحثين في لبنان وفلسطين وإسرائيل وغيرهم أن يراجعوا هذه المصادر الأصلية بشكل مباشر"، هذا ما كتبه أنزيسكا معلقاً "هذا الملحق هو مصدر تاريخي آخر يمكن أن يثير صدمة: مجموعة مخيفة من المذكرات التي ترسم صورة أكثر اكتمالاً لحماسة إسرائيل والكتائب لارتكاب العنف ضد الفلسطينيين كجزء من حرب أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط". "لطالما اشتبه الباحثون، أو بالأحرى كانوا يأملون بالكشف عن أدلة تفيد أن المسؤولين الإسرائيليين أمروا مباشرة بالمجزرة أو متواطئين بشكل مباشر في تنفيذها"، يقول الكاتب موضحاً أن التحقيقات العديدة التي نُفذّت لم توصل لهذه النتيجة مباشرة، لكن قوة الوثائق الجديدة تكمن في إظهارها "نمطاً من التعاون والتخطيط المكثف بين القادة الإسرائيليين والموارنة اللبنانيين بشأن أهداف الحرب وأساليبها، موفرة إطاراً أكثر شمولية للمساءلة الأخلاقية"."هذا الملحق هو مصدر تاريخي آخر يمكن أن يثير صدمة: مجموعة مخيفة من المذكرات التي ترسم صورة أكثر اكتمالاً لحماسة إسرائيل والكتائب اللبنانية لارتكاب العنف ضد الفلسطينيين كجزء من حرب أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط"
"كان لبشير طريقة حديث شديدة العفوية. كان مشغولاً بميزان الديمغرافيا اللبنانية ولم ينفك يذكّر به… وحين كان يذكر حلاً للتعامل معه، كان الحل دائماً يشير إلى القتل والإلغاء"، وفق رئيس الموساد نعوم أدمونيلم تكن مخططات الإسرائيليين والموارنة متعلقة باستهداف منظمة التحرير الفلسطينية حصراً، بل ظهرت كذلك مسألة التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين. طُرحت المسألة للمرة الأولى في 31 يوليو 1982، حين كان الإسرائيليون في بيروت، وذلك خلال اجتماع سري بين الزعيم المسيحي بشير الجميل ورئيس الاستخبارات العسكرية اللبنانية جوني عبدو ومسؤولين إسرائيليين ولبنانيين في مزرعة شارون في النقب. أوضح شارون أن إبرام اتفاق سلام إسرائيلي مع الحكومة اللبنانية يوجب معالجة مسألة اللاجئين الفلسطينيين الذين سيتركهم خلفه في بيروت. حينها، قال الجميل للإسرائيليين "سنهتم بكل شيء ونخبركم قريباً"، فرد عليه يهوشع ساغي، رئيس الاستخبارات الإسرائيلية، قائلاً "لقد حان الوقت لرجالك كي يعدوا خطة للتعامل مع الفلسطينيين. لقد فهمت أنك تستعد للتعامل معهم وتحتاج إلى إعداد خطة ". وبشكل عام، يقدّم الملحق تفاصيل عن النقاشات لـ"تطهير المدينة من الإرهابيين" كجزء من أجندة أوسع كان هدفها إعادة تشكيل الديمغرافيا اللبنانية. حين كان شارون والمسؤولون الإسرائيليون يناقشون مصير الفلسطينيين، في 31 يوليو، دُعي الجميل والكتائب إلى المشاركة في "المناقصة"، وقد لقي الإسرائيليون حماسة كبيرة من قبل الحليف اللبناني. ولكن وسط تلك الحماسة، كان السؤال واضحاً: ما كان المطلوب من الحليف المسيحي أن يقوم به في هذه "المناقصة" لصالح إسرائيل بالضبط؟ تعود وثيقة أخرى إلى مطلع يوليو، وتحديداً إلى اللقاء الذي جمع شارون ببشير الجميّل في مقر القوات اللبنانية في بيروت. حينها سأل الجميل الإسرائيليين ما إذا كانوا يعترضون على تحريك الجرافات نحو جنوب لبنان لإزالة المخيمات هناك، وكي لا يبقى أي لاجئ منهم في الجنوب. وبحسب الوثيقة، تابع شارون في الإصرار على أن "هذا ليس من شأننا، ولا نرغب بتولي شؤون لبنان الداخلية" (I: 294–95). يقول أنزيسكا "رغم تنكر شارون لتورطه المباشر في المجزرة، لكن مثل هذا الكلام المفتوح عن طرد الفلسطينيين باستخدام العنف والطرد كان يتكرر في مناقشات عديدة أجراها قبل المجزرة مباشرة".
"نحتاج إلى أكثر من دير ياسين واحدة"
في وثيقة أخرى تتعلق باجتماع حاسم مع الجميل في 12 سبتمبر، قبل يومين من اغتيال الأخير، قال الجميل لشارون إنه "يجب تهيئة الظروف التي ستؤدي إلى مغادرة الفلسطينيين" (I: 83؛ 100-102). وبحسب شهادة للكولونيل إلكانا هارنوف، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي، فقد سمع من الكتائب قولهم إن "صبرا ستتحول إلى مزرعة حيوانات وشاتيلا إلى موقف للسيارات". وفي الاجتماع الذي حصل بين الجميل ورئيس الموساد السادس ناحوم أدموني وآخرين، قال الجميل "نحتاج إلى أكثر من دير ياسين (في إشارة للمذبحة بحق الفلسطينيين عام 1948) واحدة". ردّ أدموني محذراً من أن المسيحيين عليهم أن يمتنعوا عن أي تحرك ما دام جيش الدفاع الإسرائيلي موجوداً، لكن الجميل شرح له بأنه لا بد وأن ينفذ مخططه في وقت لاحق لأن "الدولة المسيحية لن تصمد في حال لم يتم التعامل مع المستجدات الديمغرافية".(II: 79)وفي شهادة لأدموني وثقتها لجنة تحقيق كاهان جاء فيها "كان لبشير طريقة حديث شديدة العفوية. كان مشغولاً بميزان الديمغرافيا اللبنانية ولم ينفك يذكّر به… وحين كان يذكر حلاً للتعامل معه، كان الحل دائماً يشير إلى القتل والإلغاء" (II: 80).
ولم يكن استحضار مجزرة "دير ياسين" إلا مؤشراً مشؤوماً على التدابير التي كان يمكن لأولئك - الذين يبغضون الوجود الفلسطيني في لبنان ويريدون رؤيته يتبدّد - أن يتخيلوها. كان المسؤولون الإسرائيليون على وعي واضح بنوايا الجميل بحسب الوثائق، لكن عندما ضغط كاهان في تحقيقه على رئيس الموساد اسحق حوفي (بين 1974 و1982) قال الأخير "قلنا للجميل إننا نشكره كثيراً، لكن ليس لدينا نية في حل المشكلة بين اللبنانيين والفلسطينيين على حساب إسرائيل". وفي أعقاب مجزرة صبرا وشاتيلا، وحين وُجّه الاتهام لشارون، كان الدفاع الأساسي للأخير هو إلقاء اللوم على "ميليشيات الكتائب" مبرراً أن الجيش الإسرائيلي بقي خارج المخيمات أثناء المذبحة، حسب قوله.
406 صفحات من الوثائق المنشورة حديثاً رسمت صورة أكثر إجراماً للدور الإسرائيلي، الذي حاول التنصل دائماً من المسؤولية، حيث استفاد الإسرائيلي من الكتائب لتحقيق هدف دبلوماسي وعسكري أوسع يتمثل في هزيمة المطالب الفلسطينية بشأن إقامة الدولة وحق العودة. أما بالنسبة للبنانيين، فإن الوثائق الواردة في ملحق كاهان تفتح حساباً غير مريح مع ماضٍ لم يُغلق بعد. بحسب الكاتب "كان التواطؤ الماروني مع الإسرائيليين قبل الاجتياح وخلاله معروفاً، لكن التفاصيل الجديدة الإضافية توفر صورة كاملة لشكل الوكالة المسيحية اليمينية في التدخل الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير البلاد. إن الدليل على تخطيط زعماء الموارنة للعنف سوف يقوض الجهود المطولة لإصلاح قادة زمن الحرب في العديد من الأحزاب السياسية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...