شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الحاجة مدللة تتذكر أيام النكبة... رحلة انتظار طالت سبعين عاماً ولم تنتهِ

الحاجة مدللة تتذكر أيام النكبة... رحلة انتظار طالت سبعين عاماً ولم تنتهِ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 19 مايو 201801:47 م

يقود الحوار مع اللاجئة الفلسطينية، الحاجة مدللة إبراهيم عليان (83 عاماً)، إلى السفر سبعين عاماً إلى الوراء، سفر ينهل من خصوبة ذاكرتها بوصفها شاهدة على أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948 والتي تحلّ كل عام ذكراها في الـ15 من مايو. وعلى الرغم من الفارق الشاسع بين زمانين ومكانين منفصلين بأسلاك شائكة وأبراج مراقبة وجنود وحدود وحواجز (قرية بيت دراس عام 1948 ومدينة غزة عام 2018)، لكن ذاكرة الحاجة مدللة مكتنزة بتفاصيل الذكريات العتيقة التي رافقت طفولتها البائسة، ومثقلة بالكثير من الحزن جراء النزوح عن مسقط رأسها، ومشبعة في الوقت نفسه بالحنين. لا ترتبك ذاكرتها حين تسرد تفاصيل أحداث النكبة وضراوة الحرب وويلات الهجرة، بل تنساب ذكرياتها من بوابة الشاهد على تفاصيل المأساة بحذافيرها.

تجلس الحاجة مدللة في بيتها الواقع في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمال قطاع غزة، وعقلها عالق في قرية بيت دراس، تلك القرية الفلسطينية الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، وتبعد عنها 32 كيلومتراً. فهناك مسقط رأسها، وبيتها الأول المصنوع من سعف النخيل والقش، والذي غادرته قسراً برفقة أمها وأشقائها تحت وقع احتلال فلسطين عام 1948. أكثر ما يستوطن ذاكرة الحاجة مدللة التي ترتدي ثوباً مطرزاً محاكاً بشكل فني تراثي قديم، هي حادثة استشهاد المقاتل الفلسطيني عبد القادر موسى الحسيني في الثامن من أبريل 1948، أي قبل تاريخ النزوح الفلسطيني بنحو 37 يوماً.

عندما تستحضر النكبة، فوراً تتحدث عن الحسيني بوصفه قائداً لمعركة القسطل ضد العصابات الصهيونية في القدس والتي امتدت لثمانية أيام متتالية. تقول الحاجة التي التقيناها في بهو منزلها وفوقها إطار يحتضن صورة زوجها الذي توفي قبل 18 عاماً: "كنت في الـ13 من عمري، ولكني أعي تماماً ما كنت أسمعه عن المعارك المتعددة التي يخوضها الإنكليز واليهود ضد الفلسطينيين". وتضيف: "نزل خبر استشهاد عبد القادر الحسيني كالصاعقة على مسامعنا ونحن نجلس في بيت بسيط متهالك. بكت أمي وأبي بحرقة وقتها، وخرجنا إلى الشوارع لإعلان الحداد. كنا ننادي على الباعة في الأسواق ‘سَكَّر يا قليل الدين مات رئيس فلسطين’".

 حينذاك، لم تكن هناك وسائل اتصال. كان اللاجئون يتناقلون الأخبار، كما تروي، عبر جهاز الراديو الموجود في أحد مقاهي القرية، ومن ثم ينقلها الآباء إلى أسرهم. عندما احتد القتال، قام والد الحاجة مدللة بنقلها وأخواتها إلى قرية "سُكْرِير" وهي قرية صغيرة تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وذلك لإبعادهم عن مواطن الاستهداف والتفجيرات. تقول: "تفاجأنا حين بتنا ليلتنا الأولى هناك بوقوع معركة شرسة، وقيل إن الجنود المصريين انتصروا فيها على العصابات الصهيونية. كانت أمي ترفع يديها إلى السماء للدعاء قائلة ‘يا ناصر ستة على ستين تنصر دين محمد على القوم الكافرين’".

بعد ليلة ساخنة، اضطرت أسرة الحاجة مدللة للانتقال إلى قرية "البطاني الغربي" التي تبعد 36 كيلومتراً شمال شرق مدينة غزة، ولجأت إلى أقارب لها من عائلة المدلل. هناك توالت الأخبار عن هزيمة العصابات الصهيونية على يد الثوار والقوات المصرية في قرية بيت دارس في المعركة الأولى، غير أن العصابات الصهيونية دبّرت حيلة بمساعدة مَن أسمتهم الحاجة بـ"الخونة"، راويةً أنهم تسللوا إلى القرية عبر البحر ومن ثم تمكنوا من احتلالها. في صبيحة اليوم التالي لاحتلال قريتها الأم، تروي الحاجة الثمانينية، "جاءت الطائرات عند الساعة السابعة صباحاً وقامت بإفراغ حمولتها من المتفجرات فوق رؤوس السكان وكانت تطلق الفشك (الرصاص) على الناس. خرجنا حينها هاربين فوجدنا الناس أكواماً ملقاة في السوق وفوقهم الدواب". في تلك اللحظات، احتمت الأسرة ومَن معها من مهاجرين بمعسكر للجيش المصري مقام على أرض قرية المجدل، وقد تمركزوا هناك وبدأ الناس يقتاتون على بقايا الزيتون ويصنعون الخبز على مواقد الحطب. غير أنهم بدأوا يشعرون باقتراب الأجل، وقد تأثروا كثيرا بمذبحة "دير ياسين" التي قتل فيها المئات من أبناء القرية على يد الجماعات الصهيونية. وتقول الحاجة مدللة: "كنا نخشى أن تتكرر المجزرة ونُذبح مثل أبناء دير ياسين".

"كانوا يخططون منذ وقت لاحتلالنا. كنا نلحظ أنهم يشترون بيوتاً مجاورة فوق التلال ويقيمون عليها مستعمرات. نحن يا ويلي علينا كنا مساكين"... ذكريات فلسطينية عن نكبة 48
"كنّا نتلقى وعوداً بين الحين والآخر بأننا سنعود خلال يومين ومن ثم شهرين ثم سنتين ومضت سبعون عاماً ونحن لا زالنا في هذه المحطة ننتظر عودتنا"... ذكريات فلسطينية عن نكبة 48
لذلك، آثرت أسرة الحاجة مدللة ومَن معها، الهروب خوفا وذعراً، فتوجهوا إلى الجنود المصريين، و"قلنا لهم وين نروح يا دفعة؟ فقال القائد المصري على غزة يا حجة على غزة". تشير السيدة التي أنجبت 14 ولداً (10 إناث و4 ذكور) إلى أن توجيه الضابط المصري لهم بالهروب إلى غزة كان مثار استغراب، على اعتبار أن الجنود المصريين كانوا ذوي بأس، مستشهدةً ببطولة القائد طه بيه، الملقب بـ"الضبع الأسود"، وهو سوداني الجنسية وكان قائداً لكتيبة مصرية رفضت الانسحاب من قرية الفالوجا الواقعة بين مدينتي الخليل وغزة، والتي حاصرتها العصابات الصهيونية إبان نكبة 1948.

تستذكر الحاجة عمليات الدفاع التي كان يقودها الثوار الفلسطينيون. تستعيد جهود عمها الذي وصفته بـ"القائد محمد عليان" والذي خدم في الجيش التركي خمس سنوات، وتولى مهمة تدريب الثوار على إطلاق النار في قريتي بيت دراس والبطاني الغربي. وتقول: "كنت أراه يضع قطعة حديدية تتوسطها دائرة حمراء كإشارة أمام الثوار ويعلمهم كيف يصيبون الهدف، غير أن تلك البواريد (البنادق) لم تكن تجدي مع الطيران". وتضيف: "في لحظة الهجوم على بيت دراس، استطاع عمي القائد محمد النجاة من العصابات الصهيونية. اختبأ في كومة قش في أحد كروم العنب ولم يتمكنوا من رؤيته وكان يسمع نداءهم ‘وين شباب؟ وين بارود؟’ ومن ثم تمكّن من النزوح لاحقاً إلى غزة". تستذكر الحاجة مدللة لحظة مقتل والدها إبراهيم. تتنهد وتقول بعد أن دعت له بالرحمة: "قبل أسبوعين من الهجرة إلى غزة، قرر أبي الذهاب إلى سوق قرية أسدود.

جهز نفسه صباحاً بعد أن أعدّت له أمي فطيرة بالزبدة والسكر، ورفضنا خروجه خشية عليه من أن يقتل، ولحق به شقيقي الأكبر نايف، فقام بإعطائه شلن (عملة نقدية قديمة) وأعاده إلى البيت، ومن ثم مضى في طريقه. ومع دخول الليل جاءنا خبر استشهاده حيث انفجر به أحد الألغام التي زرعتها العصابات الصهيونية في وادي القسطينة، ودفن هناك دون أن نتمكن من وداعه". تضيف بنبرة حزن: "حينما سمعنا نبدأ استشهاده، كنا نصرخ بشدة ونضع الرماد على رؤوسنا. كان أبي عزيزاً علينا، وكان أحد وجهاء القرية، وكان يحذي أقدام الخيول وهذا العمل كان يدر عليه دخلاً كبيراً".

تشير السيدة التي يزيد عدد أحفادها عن 100 حفيد، إلى أنه في الوقت الذي سبق حدوث النكبة كان يتوافد أجانب شقر بين الحين والآخر إلى قريتها والقرى المجاورة، ويقومون بالتقاط صور للمداخل والمخارج، دون معرفة الفلسطينيين بدواعي التقاط تلك الصور. وتعتقد الحاجة مدللة أن تلك الصور كانت سبباً في رسم الطريق للاحتلال من أجل السيطرة على القرى. وتقول: "كانوا يخططون منذ وقت لاحتلالنا.

كنا نلحظ أنهم يشترون بيوتاً مجاورة فوق التلال ويقيمون عليها مستعمرات. نحن يا ويلي علينا كنا مساكين". وأفادت بأن الهجمات التي كانت تشنها الطائرات على المدنيين كانت تأتي مباغتةً وتنفّذ في ساعات الفجر الأولى، ولم يملك المدنيون سوى الخروج طلباً للنجدة من دون أية قدرة على المجابهة، وتابعت: "كان الرجال ينادون في الطرقات ‘نجدة يا رجال نجدة’ وذلك من أجل إسعاف المصابين". وعن لحظة الهجرة، تروي: "تتبعنا القوات المصرية وسرنا خلفها. بتنا ليلتين في طريق الهجرة، إحداها تحت شجرة خروب والأخرى تحت شجرة زيتون، وقد كانت أمي تُعِدّ لنا خبز الصاج بما تبقى لديها من طحين القمح. وعندما جئنا إلى غزة كانوا يعدّون لنا أطباق الفول والعدس ونحن متناثرون تحت الأشجار".

استقرت أسر اللاجئين في غزة، بعد أن صنعوا لأنفسهم خياماً من الأكياس البلاستيكية لغرض الإيواء، ولاحقاً قامت الهيئات الدولية بحصرهم وتسجيلهم ضمن قوائم، إلى أن جرى توزيعهم على مخيمات متفرقة في قطاع غزة وأقيمت لهم خيام تطوّرت لاحقاً إلى بيوت من القرميد. ومضت الحاجة مدللة تقول: "كانت أوضاعنا صعبة للغاية. كنّا نفتقد إلى كافة مقومات الحياة. كنّا نتلقى وعوداً بين الحين والآخر بأننا سنعود خلال يومين ومن ثم شهرين ثم سنتين ومضت سبعون عاماً ونحن لا زالنا في هذه المحطة ننتظر عودتنا".

تزوجت الحاجة مدللة عن عمر 15 ربيعاً من ابن عمها، بعد الهجرة بعامين، وكان شرط أمها أن يتحقق زواج البدل، أي تتزوج مدللة من ابن عمها مقابل أن يتزوج شقيقها من ابنة عمه. وحصلت الحاجة مدللة على مهر أكبر من المهر الذي قام شقيقها بدفعه لعروسه. وعن سبب ذلك ضحكت وتكشفت أضراسها وقالت: "لأنني كنت بيضاء وهي كانت سمراء".

اليوم، وبعدما بلغت 83 عاماً من العمر، صار وجه الحاجة مدللة مليئاً بالندوب وعروقها تبدو أكثر بروزاً. العمر مضى ولا تزال تحلم بأن تعود إلى قريتها، على الأقل في موكب وداعي لمواراة جثمانها الثرى هناك. تشارك الحاجة مدللة في مسيرات العودة السلمية التي ينظمها اللاجئون على حدود غزة. تعاين رؤوس التلال التي تطل من بعيد، وكأنها لا تحلم بأكثر من الوصول الآمن إلى ما وراء هذا الجدار العازل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image