الفلسطيني "أبو المجد"، واللبناني "سامي"، والجزائري "لؤي"، ثلاث شخصيات تلتقي في زنزانة واحدة من دون أن يعرفوا التهم الموجهة إليهم، أو الموقع الذين هم فيه، أو حتى الجهة التي احتجزتهم. ولكل واحد منهم حكايته التي يقصّها على رفاق الزنزانة، بدءاً بالماضي حتى لحظة وقوعه في أيدي "المقنّعين" الذين جلبوه إلى هذا المكان.
هكذا تعيد الكاتبة سلوى البنا إحياء تفاصيل الحياة في المدن والقرى الفلسطينية من خلال قصة "أبو المجد" التي تحفر عميقاً في الزمن، فتعود إلى الجدين، الحاج "إبراهيم" تاجر البرتقال اليافاوي والد "سلمى"، والحاج "زكريا" صاحب مصنع الصابون النابلسي والد "فؤاد"، وقد أفضت صداقتهما إلى زواج "فؤاد" و"سلمى" لينجبا طفلاً وحيداً، سيكبر على حكاية "نجمة" وأساطير عشقها.
تبرز الكاتبة جوانب من المأساة الفلسطينية، كتهجير السكان وما عانوه في لجوئهم من ذلٍّ وهوان، وما قاسوه من حنين في غربتهم فـ"فاض بهم الشوق على أبوابها المستحيلة وقتلهم عجزهم عن العبور إليها".
مقالات أخرى:
رواية من السعودية: غراميات شارع الأعشى
خمس روايات عربية عن الاغتراب
لا تلتزم البنا بخط زمني واحد، وخصوصاً في الفصول المتعلقة بشخصية "أبو المجد". إننا إزاء ذكريات متراكمة تقفز إلى رأسه على شكل مشاهد تعذبه، وتختصر تاريخ الشقاء وذاكرته. هكذا يتذكر أحاديث الجدة عن مجزرة "دير ياسين" التي استشهد فيها خاله، وبُقر فيها بطن زوجته الحامل، وأحاديثها عن موت زوجها كمداً لإحساسه بالعجز وهو واقف على أعتاب وعاجز عن دخولها.
ذاكرة الألم هذه، إضافة إلى "صرّة" الجد المحتوية على صورة ومفاتيح، ستكون إرثاً ثقيلاً عليه، يحاول الخلاص منه فيسافر إلى دولة إفريقية، محاولاً إقناع نفسه أن "هذه الأمانة التي خلّفها له ليست سوى عبء لا يستأهل احتماله. وماذا تعني رزمة مفاتيح أكلها الصدأ، وبضع أوراق صفراء مهترئة ومجموعة من الصور الباهتة؟".
يتزوج "أبو المجد" امرأة إفريقية، يتذكر وطنه، وقضيه شعبه، يبرر لنفسه أن من في الخارج يستطيع "خدمة القضية" بشكل أفضل، لكنه يدرك بعد زمن طويل أنه "شتان بين من يدعمها بالمال ومن يدعمها بالروح"، يشعر بالخواء، يحاول العودة، وينتهي به المطاف في زنزانة لا يعرف شيئاً عنها.
تلقي الكاتبة الضوء على إحساس الفلسطيني بغربته بعيداً عن وطنه، وكيف أنه يشعر بالتمييز العنصري الذي يمارس عليه الآخرون من خلال قصة "جنى" التي يحبها "سامي" الشاب اللبناني، لكنها تتزوج من ثري خليجي، وتعاني الأمرّين بسبب زوجاته وأبنائه الذين ينبذونها ويعتبرونها غريبة عنهم وعن مجتمعهم، "أية عدالة هذه التي جعلت من هوية الفلسطيني لعنة تطارده؟ أكاد أنسى اسمي. فلا أحد هنا يناديني به، جميعهم يقولون: نادوا الفلسطينية.. جاءت الفلسطينية... راحت الفلسطينية".
يشعر "سامي" باليأس بعد أن يخسر حبيبته، تتلقفه جماعة سلفية، تضمه إليها، وتدربه على حمل السلاح، لكنه في لحظة مفصلية من انغماسه في أفكاره يدرك أنه ليس قاتلاً، ولا يستطيع إيذاء أشخاص أبرياء، وهذا ما يدفعه إلى الهرب ليلاً من معسكر التدريب، فيقع في قبضة رجال مجهولين يقودونه إلى الزنزانة نفسها، التي يقبع فيها "أبو المجد"، و"لؤي" الصحافي الجزائري الثائر، الذي عاش أكثر من عشر سنوات متنقلاً بين سجن وآخر، وكل مرة بتهمة مختلفة: "التحريض على السلطة"، "إثارة الشغب"، "محاولة إسقاط النظام"... وفي نهاية المطاف اتخذ قراراً بالسفر إلى بلاد الشام "فحلم حياته أن يمضي بقية عمره في بلاد يحتضن ترابها بعضاً من رائحة القدس والخليل".
شخصيات الرواية الثلاث باختلافاتها الفكرية ومعاناتها الاجتماعية والإنسانية، إضافة إلى شخصية السجّان "الواوي"، تقدّم صورة عن الواقع العربي، في ظل الأنظمة الديكتاتورية التي حكمته، وصادرت حرية أفراد المجتمع، فجعلتهم مضطهدين تابعين خانعين، وتحوّل الوطن إلى سجن كبير، فنسي القاطنون فيه القضية الأساسية. إذ لكل واحد من شخوص الرواية قضية يدافع عنها، وحبيبة يروي حكايتها لرفاقه، ويكتشف الثلاثة في ظلام الزنزانة أن "نجمة كانت تظلل حروف كل واحد فيهم وتسكن نبض كلماته وتسبح في عروقه كما الدم، وأنها كانت في الأصل هي الحبيبة!".
سلوى البنا روائية فلسطينية من مواليد نابلس 1951. حصلت على الإجازة في الآداب من جامعة بيروت 1973. تعمل في الصحافة، ولها ثلاث مجموعات قصصية: "الوجه الآخر"، "كوابيس الفرح"، "حذاء صاحب السعادة". نشرت ست روايات: "عروس خلف النهر"، "الآتي من المسافات"، "مطر في صباح دافئ"، "العامورة – عروس الليل"، "امرأة خارج الزمن"، و"عشاق نجمة”.
الناشر: دار الآداب/ بيروت
عدد الصفحات: 223
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات وموقع متجر الكتب العربية جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...