جسّد المسار السياسي الذي آلت إليه الثورة اليمنية التي اطاحت الرئيس علي عبدالله صالح، أفضل مثال لنفوذ القوى الدولية في اليمن. منذ ثلاث سنوات، دعمت الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن مبادرة سعودية لاحتواء الانتفاضة الشعبية في البلاد، انتفاضة شكّلت النموذج الوحيد بين بلدان "الربيع العربي" الذي حظي باجماع ودعم الدول الكبرى، إلى حدّ وضع الحالة اليمنية تحت الفصل السابع في خطوة فسّرها مراقبون على أنّها تحالف لحماية المصالح.
وتأتي السعودية في طليعة الدول الأعرق والأكثر نفوذاً في اليمن، وقد ظلّت بوابة البلاد للحصول على الدعم الخارجي. باستثناء السنوات العشر التي أعقبت حرب الخليج الثانية عام 1990، فرضت الرياض نفسها لاعباً رئيسيّاً على الساحة اليمنية ودائرةَ استقطاب لزعماء القبائل والإسلاميين السنّة طوال أربعة عقود، قبل أن تجد إيران مدخلاً للنفوذ من خلال حركة الحوثيين الشيعة في محافظة صعدة الشمالية على الحدود مع السعودية.
اليوم، يُشار إلى صراع القوى الشيعية والسنية في اليمن على أنّه حربٌ بالوكالة بين طهران والرياض على الرغم من انحياز صانع القرار اليمني إلى الحليف السعوديّ ضد التدخل الإيراني. يظهر جليّاً النفوذ السعودي في تصريحات المسؤولين اليمنيين المناهضة لإيران، وإجراءات السلطات بتجميد مراسيم استقبال أي من الوفود الإيرانية الرسمية. فمنذ أن تولّى الرئيس اليمني الجديد عبدربه منصور هادي سلطة البلاد كرئيس توافقي في فبراير 2012، هاجم التدخل الإيراني في الشأن اليمني، متّهماً الجمهورية الإسلامية بدعم جماعة الحوثيين والحركات الانفصالية في الجنوب.
يُشار إلى القدرات التسليحية الهائلة لجماعة الحوثيين ومؤسساتها الإعلامية الناطقة من بيروت كدليل على الدعم الإيراني للجماعة الشيعية المناوئة للنفوذ السعودي في اليمن. إلا أنّ حادثة إيقاف سفينة الأسلحة الإيرانية "جيهان 1" في المياه الإقليمية اليمنية عام 2013، زاد من مخاوف المجتمع الدولي بشأن الدور الإيراني على الساحة اليمنية.
وأغدقت الرياض خلال المرحلة الانتقالية المستمرة منذ العام 2012 بالأموال والمعونات النفطية لقطع الطريق، هذه المرة، على الدور القطري المتصاعد في دول الربيع العربي. في نهاية عام 2013، شكَت الرياض رسمياً دولة قطر إلى مجلس التعاون الخليجي على خلفية ما يعتقد أنّه دعم قطري لحزب الإصلاح الإسلامي الموالي لجماعة الإخوان المسلمين. كما دعمت قطر الجناح العسكري المنشق عن النظام السابق، وأنشأت قناة "يمن شباب" التي يديرها نشطاء في الحركة الشبابية الموالية لحزب الإصلاح.
ساهم الضغط السعودي بتراجع النشاط القطري المعلن في اليمن، غير أنّ تركيا سدّت فراغاً كبيراً كبلد استقطاب لشباب التغيير ونشطاء الانتفاضة الشعبية، في مقدمتهم الحائزة جائزة نوبل للسلام توكل كرمان التي حصلت على الجنسية التركية فور فوزها بالجائزة العالمية.
تقول الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية- مديرة المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، الدكتورة سلوى دماج، إنّ الصراع الإيراني السعودي يمثّل أكثر نماذج الصراع الإقليمي حضوراً على الساحة اليمنية. بحسب دماج، ينطلق الصراع الإيرانى السعودي في اليمن من منطلقين، الأول له بعد جيواستراتيجي وقع فيه اليمن ضحية للجغرافيا والتاريخ من موقعه الاستراتيجي المتحكم بمنطقة مضيق باب المندب، جنوب البحر الأحمر.
تضيف دماج لرصيف22: "إيران ترى أن امتدادها الإقليمي يمتدّ من الخليج العربي إلى جنوب البحر الأحمر. ومن هذا المنطلق، يلبّي التوسّع الحوثي ناحية البحر الأحمر أهدافاً عسكرية لإيران، من خلال موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر الإستراتيجي في حركة الملاحة الدولية".
من جهة ثانية، تعتبر دماج أنّ المسألة الطائفية حاضرة بقوّة في مسألة الصراع السعودي– الإيراني، وهذا ما يحوّل اليمن إلى ساحة مفتوحة للصراع المذهبي بين السنة والشيعة ويهدّد وحدة النسيج الوطني.
خلافاً لصراع الرياض وطهران المتشعب، اتّخذ اليمن أهمية أمنية بالغة في الاستراتيجية القومية الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتصاعد الدعم الأمريكي من بضعة ملايين إلى 450 مليون دولار من المنح المقدّمة في مؤتمر المانحين المنعقد في الرياض ونيويورك نهاية 2012.
كما أفضت الاتفاقات الأمنية مع الجانب اليمني إلى نفوذ أمريكي يتقاطع مع المخاوف السعودية من تهديدات متناوبة بين القاعدة والحوثيين والقرصنة في الخطوط الدولية لإمدادات النفط الخام المصدّر إلى أوروبا. حصلت الولايات المتحدة على مزايا غير معلنة للتمركز الأمني– العسكري في اليمن يتيح لها إحكام قبضتها على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بالقرب من قاعدة قواتها الخاصة في منطقة القرن الأفريقي.
وفي خليج عدن تتمركز قوات أمريكية من الوحدتين 150 و151 على مقربة من ممر باب المندب. إلا أنّ الحكومة اليمنية غالباً ما تنفي حضوراً أمريكياً من هذا النوع خشية احتجاجات شعبية مناهضة للولايات المتحدة خصوصاً وللوجود الأجنبي عموماً.
في المشهد الحالي، يتقاسم رعاة العملية السياسية أدواراً تعكس التوافق الدولي غير المسبوق إزاء ثورات الربيع العربي. تتولى الولايات المتحدة مسألة الإشراف على عملية هيكلة الجيش فيما تقدّم فرنسا خدمات لوجستية لصوغ دستور جديد للبلاد بينما تمارس كل من الصين وروسيا مهمّات للرقابة والدعم لمؤتمر الحوار الوطني ومخرجاته. أما السعودية وبريطانيا، فتتقاسمان مهمّات التمويل الخارجي عبر استعدادات مستمرة لمؤتمرات المانحين ومتابعة الوفاء بالتعهدات الدولية.
وحتى كتابة هذا المقال، يبدو التمرّد على أجندة القوى الدولية الكبرى واضحاً في الحشود الحوثية الشيعية الكبيرة المحيطة بالعاصمة صنعاء، في ما يعتبره مراقبون امتداداً لصراع المصالح الإقليمية والدولية في العراق وسوريا. لكن السؤال يتعلّق اليوم بالأفق الزمني لانعكاسات هذا الصراع الدولي على أمن الجزيرة العربية الغنية بالنفط وإمدادات الطاقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...