بينما يجري إحياء ذكرى الجنود العراقيين الذين خاضوا المعارك ضد داعش، هناك عشرات آلاف الأطفال ممن فقدوا آباءهم في ظل وحشية التنظيم، أو خلال القتال الطويل لاستعادة الأراضي التي سيطر عليها. أصبحوا عرضةً للنسيان على هامش الحرب، حيث لا توجد أية وكالةٍ حكومية عراقية أو مجموعة إنسانية دولية لديها سجلٌ شامل لعدد الأطفال الذين تيتموا منذ صيف 2014، عندما استولى داعش على ثلث البلاد، قبل دحره في ديسمبر 2017. ولا تملك الدولة العراقية سوى القليلِ من الموارد لهؤلاء الضحايا، أو لدعم المجتمعات التي خربتها الحرب، ولا تزال تحاول جاهدةً إعادةَ بناء الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والكهرباء. فقدت نور 19 شخصاً من أفراد عائلتها أثناء محاولتهم الهروب من مدينة الموصل القديمة خلال معركة تحريرها الكبرى. حينها، قرر كل من الوالدين والأقارب والجيران ترك ملاجئهم المؤقتة للقنابل. وبينما كانوا يهربون من الرصاص تعثروا وسط أكوام الركام، فركضت وراءهم انتحاريةٌ تابعة لداعش وفجرت نفسها بهم. تتذكر نور سوى كيف طارت في الهواء، لتصاب بجروحٍ بالغةٍ آنذاك، وكيف قُتل والديها، وأخوتُها وخالاتُها وعماتها. كانت تعاني من حروقٍ من الدرجة الثانية والثالثة في أطراف أصابعها ومرفقيها وخدَّيها، فضلاً عن ضررٍ شديد في أعصاب اليدين. أما عمتها، سكينة محمد، التي فقدت زوجها في نفس الانفجار، فتتلقى الطعام من جمعيةٍ خيرية محلية. وتحاول إنقاذ ما تبقى من العائلة، لكنها ليست قادرةً على تحمِّل تكاليف جراحاتِ نور. وفي ربيع هذا العام، التحقت الطفلة بالمدرسة، على أمل أن يساعدها الروتين على التعامل مع حزنها، إلا أنها كانت عُرضة للسخرية من قبل مُعلميها وزملائها في الفصل "هل يمكنك أن تتخيل شيئا قاسيًا مثل هذا؟" تتساءل عمتها. توقفت نور عن الذهاب إلى المدرسة، والآن تقضي وقتها بمساعدة عمتها بالأعمال المنزلية، ولعبتها المفضلة ميكي ماوس. تتظاهر نور بأنها أميرةٌ صغيرة رُغم إصابتها الكبيرة، لكنها تقول "أنا لست جميلة مثلهم".
"كنت أبكي وأصرخ لترك أبي وحده"
لـصحيفة "نيويورك تايمز"، يحكي محمد أنه عندما كان في الثامنة من عمره عندما شاهد أحد مقاتلي داعش يجُر والده إلى خارج منزله في الموصل ويطلق النار عليه في الشارع. "كنت أبكي وأصرخ لتركه بمفرده، وأني أغادر بيتي"، يقول الطفل، الذي يبلغ حاليًا 10 سنوات "لكن مقاتلي داعش، لم ينصتوا لي". وبعد أن أخذه المسلحون وأُمه وأخويه الصغيرين وأخته، أخيرًا انتهى بهم الحال، الربيع الفائت، في دارٍ للأيتام بالمدينة. هم الآن من بين عشرات الآلاف من الأطفال العراقيين الذين فقدوا آباءهم. أمل عبد الله، نائبة مدير دارٍ للأيتام كانت إحدى ثكنات داعش في الموصل، تقول: "عشنا في كثيرٍ من المعاناة السنواتِ الأخيرةَ، لكن هؤلاء الأطفال عانوا أكثر من غيرهم. من واجبنا الآن أن نحاول تقديم بعض السعادة والراحة لهم". لكن رئيسة لجنة المرأة في مجلس محافظة الموصل، سكينة علي يونس، جمعت سجلاتِ حوالي 13 ألفَ طفلٍ يتيم في المدينة خلال معركة الموصل الصيف الماضي. ويؤكد أخصائيون اجتماعيون أن هناك الآلاف من البلدات والمقاطعات الأخرى التي حُرِرَت من داعش "إن 20 ألف طفلٍ فقدوا آباءهم أو أحد الوالدين" يعتبر العراقيون، كما بلدان عربية، الطفل يتيمًا حتى إن كان أحدهما على قيد الحياة، خاصة لو أنه غير قادر على إعالة الأسرة، ما سيكوّن تقديرًا متحفظًا بالنسبة للعدد الإجمالي.ماذا عن أطفال مقاتلي داعش؟
في الموصل أصبح مشهد الأطفال اليتامى الذين يحاولون كسب المال في الشوارع مألوفاً، أحدهم سعيد، ابن الـ14 عامًا، الذي قُتل والده، ينظف الزجاج الأمامي للسيارات عند تقاطعٍ مزدحم في المدينة. "لا يوجد طفل مسؤول عن تصرفات والديه.. كل واحدٍ منهم ضحية. جميعهم بحاجة إلى حبنا"، قالتها إيمان سليم، أخصائية اجتماعية في دار الأيتام، خلال تعليقها على وجود أطفال من أبناء مقاتلي داعش بين يتامى الدار. عندما وصل الدار صبيٌّ، يبلغ 10 سنواتٍ، كان والده مقاتلًا في داعش، عانى من الصدمة نفسها التي تعرض لها الأطفال الآخرون. كوابيسُ وأيامٌ حزينة وصعبة. حاول الموظفون إخفاء أن والدَه كان مقاتلًا في التنظيم. لكن سرعان ما عُرف السر، فكان الطفل محمد أول من اندفع نحوه، وأمسك به محاولاً ضربه لحزنه على والديه اللذين قتلا على يد التنظيم. وكان على موظفي الدار انتزاعه من قبضته. "في كل مرة رأيته فيها، فكرتُ أنني حقاً أكرهه" قالها محمد في مقابلة معه بحضور أخصائي اجتماعي، موضحًا: "أنا أكره داعش وما فعلوه مع أبي، وفي كل مرة رأيته، أكرهه بقدر كرهي داعش". نصح الأخصائيون الاجتماعيون محمد بتوجيه غضبه وإيذائه إلى ممارسة الرياضة البدنية. وأخبروا الطفل الآخر أنهم سيحرصون على أمانه ويراقبونه لضمان عدم تركه خارج ساحة اللعب المخصصة للتمشية وممارسة كرة القدم. كما يوجد بينهم أطفالٌ حديثو الولادة من آباء مقاتلين في داعش، كانت أمهاتهم قد تخليْن عنهم، بحسب ما يقول الموظفون، بسبب "وصمة العار" التي تلاحقهن بدعوى تربيتهن "طفلاً متشدداً".انفجارٌ فحروقٌ فسخرية.. هل تتخيل أقسى من هذا؟
بعض الأيتام تولى أمرهم عائلاتٌ بديلة، في وقت قالت عشرات منها لـ"نيويورك تايمز" إنها مهتمة برعايتهم رُغم افتقارها إلى خدمات الأخصائيين الاجتماعيين، والمال من أجل الرعاية الطبية، ودعم صدماتهم العاطفية كناجين من الحرب. بالنسبة لهؤلاء الأطفال لم يكن سهلاً عليهم العثور على هذا الدعم النفسي. كما أنهم يفتقرون إلى العديد من الخدمات الأساسية، بما فيها التعليم والرعاية الصحية. في إحدى الصور المنشورة بموقع الصحيفة، تظهر العراقية لمياء سمير التي تعتني بستة أطفالٍ قُتل آباؤهم عندما أصاب صاروخٌ منزلهم في الموصل. في حين حاول سكان الموصل البحثَ عن العائلات الكبيرة التي ينتمي إليها بعض الأيتام، مثل نور، 10 سنوات، أنقذها طبيبٌ عسكري أمريكي من القصف، بعدها نُقلت إلى منزل عمتها، البالغة 63 عامًا، الوحيدة بين عمَاتها التي مازالت على قيد الحياة.عشراتُ آلاف الأطفال في العراق، ممن فقدوا آباءهم في ظل وحشية التنظيم أو خلال القتال الطويل لاستعادة الأراضي التي سيطر عليها، أصبحوا عرضةً للنسيان على هامش الحرب.
عندما وصل الدارَ صبيٌّ، يبلغ 10 سنواتٍ، كان والده مقاتلًا في داعش، عانى من الصدمة نفسها التي تعرض لها الأطفال الآخرون. حاول الموظفون إخفاء أن والده كان مقاتلاً في التنظيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...