الرعب من الموت هو الفشل الأقصى للإنسانية، رؤوس متفجرة، أعضاء، أطراف متناثرة، وجوه صارخة مرمية في دوائر دم، هكذا يرغم كاظم خليل المتلقي على لوم انكفائه وعجزه، بلوحات تتقدّم في الظلام المخيف، رغم أزرقه الغني وأحمره المتفجّر، رغم الضوء الذي ينبع من عينين مفتوحتين على المدية وفمٍ مختنق بالهواء الأخير، لكنها لوحات/اتهامات، بيانات في الألم والتفجّع.
إن إحساسا غامضا بالخذلان والانكفاء يسري في وجوهه المرسومة بالمعاناة، عندما تراقبه يقوم بالرسم على قماش لوحة، تسري تلقائيا قسوته في أعصابك، سواء استخدم سكين الرسم أو أصابعه الدقيقة، ثمة فائض من العنف والقسوة الباهرة في ضرباته السريعة، رشاقة جرّاح ماهر أو لأكون أكثر دقة، رشاقة قاتل متسلسل، في لحظة تستحضر كل المشاهد التي تعرفها عن الموت والعذاب، القتل والتقطيع، الحروب والمجازر والتهديدات.
في إحدى لوحاته المعنونة (حلال) ثمة رأس مقطوع يرقد في صحن من دمائه نفسها، يوحنا المعمدان: قلت، ربما رأس الحسين أيضا أضاف كاظم، وربما كل تلك الرؤوس المحزوزة بلعنة الحروب الأهلية والإيديولوجيات الشمولية، مصائر مبتورة عن ماضيها بمدية ماضيها نفسه.
يترك كاظم مساحات فارغة بيضاء حول رؤوسه الصارخة المتوجعة، وحين يسأل لماذا لا ينهي لوحاته، لماذا يترك هذا البياض الساطع كنذير؟ يجيب لأن القصة لم تنته بعد، لا يزال الحسين يقتل كل يوم دون مسعى، ولا تزال سالومي ترقص وتقتنص رأس يوحنا، لا يزال الهدف من التضحية ناقص، لم يكتمل، لم يتم قبول جسد المخلّص الفادي كأضحية عن عذابات الجنس البشري، لا زالت هناك حاجة لأضحيات أخرى لتهتدي الإنسانية.رسم الصيادون وبدائيو النشأة الأولى معرفتهم على جدران الكهوف باستخدام أحبار نزعوها من أرواحهم، من دماء فرائسهم، من مسحوق نباتات جوعهم وخوفهم، كذلك يرسم كاظم بيومياته، بدقائق حياته
رسم كاظم خليل وجوهه المرعوبة وأجساده العارية الملتوية تحت الألم، قبل أن يبدأ الجرح السوري نزيفه العلنيرسم كاظم وجوهه المرعوبة وأجساده العارية الملتوية تحت الألم، قبل أن يبدأ الجرح السوري نزيفه العلني، يرى الشاعر أدونيس في هذا نوعا من الاستباق لكن هذا النزيف كان واضحا لديه من قبل، فلم تكن الأمور على ما يرام دائما، لكنه رآها بحواسه كافة وتذوق مرارتها بأصابع راجفة، رأى الجوع الفاتك ورأى ما تصنع المشنقة بالشعوب، رآها باكرا وهو ابن حفرتها، ابن نشيجها المتهدج وصراخها المكتوم، غصن صاعد من حفرة دم وألم باتجاه الضوء والحرية، فكأنه برسومه استبطن الهاوية التي تذهب إليها البلاد وأعاد إخراجها، ملونةً، من داخله. باقتراب من مقولة بيكاسو بأن اللوحة ليست نسخ الطبيعة إنما تعلّم العمل مثلها، يقول كاظم انه ابن الطبيعة وابن اللون المتأرجح فيها بين الضوء والضوء المعاكس، فبالرغم من أننا لا نرى تجسيدا واحدا لعنصر من الطبيعة خارجا عن الجسد البشري، إلا أن الألوان المتفجرة تحيل إلى غابة ما، إلى موات غابة ربما، تحيل إلى تفجّرات لونية بين الجذر والغصن، بين الأوراق الذاهبة باتجاه الضوء وحريق المقصلة وبهذا يفعل فعل الطبيعة بالتقاط لحظة الانقطاع هذه، انقطاع الغصن عن جذره وانقطاع الرأس عن شرطه الإنساني. نستطيع أن نفهم رفض فرانسيس بيكون (في فيلم اللون الثامن الذي حققه المخرج الإيطالي اليساندرو كارتوزيو Alessandro Cartosio، ويتحدث فيه أدونيس وعدد من النقاد ومؤرّخي الفن في فرنسا عن علاقتهم بلوحات كاظم خليل)، بأنّ في لوحات كاظم ما ينتمي إلى عائلته الفنية، عن طريق مقولته نفسها: ما من عائلة هناك، الفنان نفسه، هو وحده. يقول أدونيس: هل تريد أن تحظى بنفسك، إذن تبلبل. تبدو أعمال كاظم خليل كأنها تجيء من أغوار بعيدة ومعتمة، من أماكن يهملها التاريخ بينها الطبقات السفلى من الذاكرة وما أن تفارقها تشعر بأنها توشوشك من بعيد. تبلبل إذا أردت أن تحسن الارتقاء بنفسك وبأبعادها، يسري في اللوحة هذيان خاص ليس من جهة الانكفاء بل على العكس من جهة الاستباق، لكن عندما نرى أجنحة هذا الاستباق يغرينا الفضاء الذي تصير فيه بأن نستقر ونبحث ونستقصي. عندما نرى هذا الفضاء تغرينا الأجنحة بأن نطير في كل اتجاه تبدو هذه الفكرة أكثر بريقا حين نتحدث عن كاظم خليل، حقا هو نفسه، ابن عائلة روحه، متألمة ومطعونة ومنتزعة من خدعة الأمل، مع إصراره على الانتماء إلى بيئة تشبهه ببريتها وبجوعها إلى الحرية التي تبتعد أكثر فأكثر، ناسه والأمكنة التي صنعت ذاكرته، ورغم عودته المستمرّة إلى ذاكرته الأولى، قبلته الأولى، عشّه الأول كما يقول، إلا أنه لا يكتفي بهذا، فلا يسجلها بالطريقة التوثيقية إنما يسمح لآثارها الباهتة الخفية بالظهور عبر أجساده المطحونة، المثقلة، الهرمة، المعجونة بالألم الصافي، كأنها تتنفسه، كأنه يرسمها بنفس مادتها، بالوجع والخسران، بالإحباط والدمع والدمار، وبالرغم من ابتعاده باكرا عن ألاعيب السياسة والأحزاب إلا أن لوحاته تنحاز، بوصفها تعبيرية ما، للأسى بطبعته السورية. يستخدم كاظم في بعض لوحاته مادة القهوة بعد معالجتها كيميائيا لتأخذ شيئا من الثبات والديمومة لونا وقواما. يقول أنه يستخدم الآني في التعبير عن البعيد والقادم، الزائل في تجسيد الدائم، يستخدم عنصرا حميما كالقهوة لتوضيح المسافات التي صنعتها المجزرة بين الأشخاص، بمهارة حاوٍ وبأصابع جارحة كمشارط حادة يضع الأجساد البعيدة القريبة على الورق، فيقدم مقاربة أخرى للفن. رسم الصيادون وبدائيو النشأة الأولى معرفتهم على جدران الكهوف باستخدام أحبار نزعوها من أرواحهم، من دماء فرائسهم، عظامها المطحونة، من مسحوق نباتات جوعهم وخوفهم، كذلك يرسم كاظم بيومياته، بدقائق حياته، بقهوة صباحه، بثرثرة الفناجين المثلومة بالحنين، يرسم غرنيكا سورية، بحيث تفوح من الأجساد المرتعشة والمتلوية تحت ضربات الحرب، رائحة البيوت القديمة والآلام الأولى، رائحة الذكريات التي لا تصدأ، فبهذا يرسم كاظم باليومي خطوط الأبد. أدونيس مجددا: لا تسأل اللوحة من أين أتيت لكن اسألها إلى أين تمضين؟ الأحلام كلها تنخفض لكن في الواقع والأشياء كلها تعلو لكن في اللوحة، ألوان تحب السفر هي الرمادية في ضوء خافت، يقينا منها أن الضوء الذي يسطع حقا هو هذا السفر نفسه. لوقت طويل فكرت بشيء يدعى الروح السورية (إذا ما وجدت) ماذا يمكن أن تعني وما هو المثال الأكمل لها؟ هل هي روح بريئة أم خبيثة، متفوقة أم دنيئة، مقبلة أم مدبرة، روح غنية بالتفاصيل أم فقيرة بالمصير، أم هي جميع ما ذكرت؟ هل هي طراز عمارة فريد، أسلوب نحت مدهش، ضروب من التعبير السحري، طريقة انتحار، طريقة إيمان.. ثم وجدتها في هذا: الروح السورية هي حياة في عين الخطر، موت على حافة الحياة ثم قيامة أخرى بجسد متهالك، هي تفجّع على الحرية وعيشٌ لاهٍ في المأساة، هي إثباتك بالسخرية، بالفن، أنك حي رغم ركام الانفجارات والجنازات والرؤوس المقطوعة، هي الضحك الذي يلمع في قلب الظلام، هي الانتصار على الدم بأغاني الريفيات وآهاتهن المقموعة، هي الغناء المنفرد في الحزن والعزلة والفرح، وإذا كنت سأسمّي تجسيدا لهذه الروح الوثّابة كما أراها فسيكون اسمها كاظم خليل. كاظم خليل: رسام تشكيلي من مواليد اللاذقية 1965، يقيم ويعمل في فرنسا منذ عام 2001، عضو نقابة الفنانين المحترفين في فرنسا، وعضو جمعية الفنانين المحترفين (باريس)، وعضو الاتحاد الدولي للفنانين العالميين (اليونسكو)، وأقام عدداً كبيراً من المعارض الفردية والمشتركة في عدد من دول العالم. حصل على العديد من الجوائز العالمية، كما يُعدُّ الفنان كاظم خليل الفنان العربي الوحيد المشارك في تظاهرة باريس (فنون العاصمة) صالون الفنانين الفرنسيين، الغراند باليه 1983، ومن أول من استخدم تفل القهوة كحبر في لوحات تشكيلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا