وقفت بكل نحولي أمام كل ذلك الحديد أحمل على كتفي حقيبة جلدية استطوانية سوداء. أنتعل حذاء رياضياً أخضر من نوع "الإمبرجاك"؛ ألبس قميصاً مزركشاً وبنطال جينز أزرق من نوع "ميكسيكانينو" بعشرين جيباً موزعة على كامله. اشتريته من نهج زرقون للملابس المهربة بمئة دولار. كان الدولار وقتها بسعر الدينار التونسي تقريباً.
التونسي يحلم بالسفر دائماً وهو في مكانه ويختلق كل مجازات اللغة كي يشبع ذلك الظمأ في تهريب نفسه إلى أي أرض.
وقفت طويلاً أستمع عبر سماعات الولكمان لأغنية الشاب كمال الوجدي، "اسقيني يا الساقي"، للمرة الألف. أتفقد كلّ مرة جواز سفري الأول الذي استخرجته قبل أيام لأسافر أول سفرة بحياتي خارج البلاد. أتحسس كل خمس دقائق جيبي الجانبي، ذلك الجيب المميز بالسحاب، تلك الأوراق النقدية الأجنبية القاسية التي قدمها إليّ موظف البنك وأنا أسلّم إليه حزمة الدنانير التي جمعتها طوال الأشهر الثلاثة من عملي كثاقب جدران.
يومها كانت تلك اللطخة البيضاء المتيبسة من اللحم الميت ما زالت تحتلّ عضلة الكفّ من أثر الشدّ على الشينيول ذلك الشيء الذي يشبه المسدس الكهربائي الضخم. هل عليّ أن أقول اليوم "المثقاب الكهربائي" ليفهمني قرائي المَشارقة؟ كم أكره هذه العبارة، لكن ذلك المهرب الصغير الذي كنته لم يكن يعرف هذه العبارة البليدة! كان فقط يعرف أنواع الأحذية الرياضية وأنواع الجينزات وأنواع القمصان والأقمشة، وكان يعلم، خاصة، أين يختبئ الآجر خلف الكلس بالجدار لكي يمرّ "الماش" أو ريشة المثقاب مع أول دفعة بالشينيول.
ربما علي أن أخبركم في البداية أنني كنت أقف آنذاك بمحطة برشلونة للمرّة الرابعة فقط. لكن حتى هذه الجملة تبدو ملتبسة. أنا لست ببرشلونة التي في أذهانكم. أنا فقط كنت أقف في محطة تونس للقطارات التي يسمّيها الناس هنا مجازاً برشلونة. التونسي يحلم بالسفر دائماً وهو في مكانه ويختلق كل مجازات اللغة كي يشبع ذلك الظمأ في تهريب نفسه إلى أيّ أرض، قبل أن أصل برشلونة مررت بأوروبا كاملة.
يمكنك أيضاً وأنت في تونس أن تجول أوروبا وآسيا في يوم واحد ويمكنك حتى أن تتوغّل في أفريقيا وتغرب نحو أمريكا اللاتينية؛ كلّ ذلك والشمس لم تدرك مغيبها. فذلك الصباح نزلت من مدينة "أريانة" ومررت بشارع الحرية، حيث تركتُ نهج مدريد على يميني وأنا أتجه نحو شارع باريس، لكن رفيقي اقترح عليّ أن نتوغّل في شارع روما لنأكل صحناً تونسياً قبل أن أعود به أنا إلى شاع مرسيليا، حيث شربنا عصيراً بارداً ثم توغلنا في اتجاه محطة برشلونة بعد أن رفض أن نتجه نحو شارع إنجلترا لالتقاط كتاب باعة الكتب القديمة.
يمكنك أيضاً وأنت في تونس أن تجول أوروبا وآسيا في يوم واحد، ويمكنك حتى أن تتوغّل في أفريقيا وتغرب نحو أمريكا اللاتينية، كلّ ذلك والشمس لم تدرك مغيبها.
كنت أحب البنطال الميكسيكانينو أكثر من التجارة والتهريب. خاصة الجيب اليمين على مستوى الركبة الذي أحشو فيه كتاب غي دي موباسان" الموتى لا يكذبون". والجيب الذي على اليسار الذي أحشو فيه الويلكمان وكاسيت الشاب كمال الوجدي.كنت أفكر بكتاب آخر يسليني في الرحلة الطويلة، وتعلل رفيقي بقرب الوقت وتعقد الإجراءات. تونس تحتشد بكلّ عواصم الدنيا لكنك لن ترى شارعاً باسم تونس. أبدو غريباً عنها هذه المدينة. أو ربما حاقداً على هذه العاصمة. ربما. رغم وجودي فيها منذ ست وعشرين سنة تقريباً ما زلت أراني غريباً عنها.
حتى لا أطيل في حواشٍ قد تصبح متاهة علي، أخبركم أنني تدحرجت من أعلى قمة بالشمال الغربي التونسي لأشتغل بالعاصمة مع قريبي في فريق مكلف بمد أسلاك الاعلامية في المؤسسات العمومية. فقد جاءت الإعلامية أو الانترنت كما قال الرئيس والعالم صار قرية صغيرة. أول مرة أسمع حديثاً جيداً عن القرى. في النهاية قلت إن وحدتنا الاعلامية جعلتنا كلنا أبناء قرى فهذا أمر جيد. مع ذلك لم يحدث شيء من هذا. ظللت أسمع مديري الذي يتكلم بلكنة عاصمية مقززة قافها تجرح السماع. المهم أن أولى المؤسسات التي وعدني بها قريبي قائد الفريق ليلاً هي مخافر الشرطة. قلت في نفسي تكبّدت كل هذا السفر من الجبال عبر القطار لأصل هنا إلى مخافر الشرطة.
وفعلاً في أول يوم لي بالعاصمة سلمني قريبي إلى مركز الشرطة. وهناك أيضاً سلم إلي شينيول أزرق مثل رشاش ثقيل وحفنة من "الماش" وقبضة من" الشوفي" أو "الخابور" وأمرني بأن أنطلق في العمل؛ علي أن أثقب الجدار في خط مستقيم على مستوى الأساس لتثبت فيها "الغولوت" البيضاء التي ستحمل الأسلاك.
لا أدري هل تفهمون كل هذه الكلمات؟! على كل حال "الغولوت" هي حوامل الكابلات والخابور هو مثبت البرغي في الحائط، تلك القطع الصغيرة من البلاستيك البرتقالية عادة أو الملونة التي تحشر في الثقب بالجدار. اضطررت اليوم للبحث عن اسمه عرفت لأول مرة أنه سنة 1958 وهو من اختراع ارتور فيشر ويقال إنه حصل عبره عن ثروة. لم أكن أعلم أن تلك القطع البلاستيكية اللينة التي أحشو بها جيبي يومها كانت وراء ثروة كبرى لذلك الأرتور.
المهم أن ما أقصده هو تثبيت قنوات بلاستيكية بالجدار لتنقل الأسلاك وتحميها. كان علي أن أثقب وحسب، وألا أترك بين الثقب والثقب أكثر من عشرة سنتميترات. هكذا بدأتْ مهمتي. وجدت الشينيول في البداية ثقيلاً وكان يفلت مني فتخرب الريشة إلى أن أتقنت فن الثقب وبدأت عضلاتي تشتد. أضع رأس الماش على العلامة التي رسمتها بقلم الرصاص وأشد الزناد فأخترق الآجر بدم بارد. أحشو الثقب بقطعة "الخابور" البرتقالية حيث سيثبت الـ"البرغي" وأمرّ.
أن تثقب جدار مركز للشرطة بدا لي الأمر مثل الفونتازم. وأصبحت لذة لا تقاوم. عندما عرض علي مديري في العمل تغيير المهمة، رفضت. كنت تعودت أن أثقب. أثقب بلا رحمة. تعودت أن أخترق الجدران. وكأن تلك المهمة دغدغت فيّ رغبة أخرى في الخروج؛ الخروج بعيداً كما تخرج ريشة المثقاب من لحم الآجر. كانت أغاني الراي لا تفارق أذني ليل نهار وكان كمال الوجدي لا يترك الويلكمان إلا للشاب حسني.
في ذلك اليوم الذي كنت أقف فيه أمام كل ذلك الحديد. كنت أستعد للسفر. قررنا أنا ورفيقي أن نسافر عبر القطار المغاربي إلى "وجدة" المغربية. عندما اقترح علي الوجهةَ لم أتردّد، ولم أناقش. كان في اسم الوجهة ألفة كبيرة. حولت الفكرة إلى وجهة ساحرة. إنها وجدة التي ينتسب إليها ذلك الصوت الذي احتلّ أذني منذ سنتين عندما أشتريت الولكمان: كمال الوجدي.
الخطة تقول بأن نذهب بهذه الأموال التي جنيناها إلى وجدة وهي سوق حرة كبيرة نشتري منها ما سمعنا به من ملابس متنوعة، ونعود لنبيعها لرفاقنا هنا بتونس، وهكذا تتضاعف أموالنا ولا ننسى أنفسنا بقمصان جديدة وبناطيل، وطبعاً جاكيت جلد مغربية رائعة لكل منا. وهكذا نضمن أننا أكثر الشباب أناقة في المعهد، وهذا يجعل من نسبتنا في الفوز بجميلات المعهد تتضاعف أيضاً، خاصة أننا أطلقنا شعرنا من الخلف متشبهين بنجوم كرة القدم، وربما حالفنا الحظ والتقطنا بضع صور مع كمال الوجدي، وعندها لن ينافسنا أحد على جميلات المعهد.
بدأت الفكرة ترن في بالي على صوت كمال الوجدي، وازدحمت في رأسي كلّ الفتيات اللاتي أحببتهن وهن بالعشرات: "اسقيني يا ساقي وعمرلي الكاس". ضربني رفيقي على كتفي. هيا لقد فتح القطار. ركضت إلى العربة الثالثة. صاح بي إلى العربة الثانية. ركضت من جديد. صعدت وأصبحت في قلب ذلك الحديد الذي كان جاثماً في المحطة. مرّ وقت قبل أن يزمجر ذلك الشيء، ويجرّ نفسه على السكة. عندها فقط كأنما أطل علي وجه أخي الأكبر الذي حذرني منذ أسبوع من دخول الجزائر. قال إن الوضع ليس آمنا وأنبني لأنني لم أستشره قبل أن أقرر.
تركته وعدتُ إلى البيت. بدا لي هذه المرّة يتكلم من وراء الزجاج كما لو كان يخرج لي من حلم. لم أكن أسمعه. فقط كنت أرى شفتيه تقولان شيئاً وربما تصرخان.
أن تثقب جدار مركز للشرطة بدا لي الأمر مثل الفونتازم. وأصبحت لذة لا تقاوم.مر وقت قصير قبل أن يمتلىء الرواق بالمسافرين والحقائب. بدت الوجوه السمر تتكلم لهجة واحدة تقريباً. نبهني رفيقي أنه موعد عودة المغاربة إلى عائلاتهم. موعد دخول أطفالهم المدارس، لذلك تكون عطلتهم عادة آخر أوت وسبتمبر. لاحظت من خلال ملابسهم أنهم بسطاء. كلهم بسطاء حتى أن جينزاتهم ممزقة أو متسخة أو قديمة مهترئة. همس لي رفيقي أنت تأتي بهذا الجينز لماذا؟ نحن نذهب للتجارة وليس للسياحة. ثم كان عليك أن تلبس أردأ بنطال لتتخلص منه أثناء الرحلة وهكذا تربح قطعة جديدة. كان رفيقي يعتقد أنه أكثر خبرة مني في هذه الأمور بسبب مرافقته لوالده الذي اشتغل في "سوق العصر" حيث المهربون والسلع المهربة. لكني كنت أحب البنطال الميكسيكانينو أكثر من التجارة والتهريب؛ خاصة الجيب اليمين على مستوى الركبة الذي أحشو فيه كتاب غي دي موباسان" الموتى لا يكذبون". والجيب الذي على اليسار الذي أحشو فيه الويلكمان وكاسيت الشاب كمال الوجدي. لم أطل. غير صحيح. من يعرف ما معنى بنطلون الميكسيكانينو ساعتها لن يسغرب حديثي. كنت أعلم أن رفيقي يغار من البنطلون كلما رآه. هو بخيل ولا يتجرأ على شراء بنطال بذلك السعر.
كنت أعلم ذلك ولذلك لم أكن اهتم بأي ملاحظة منه بخصوص البنطال. كنت أتعمد أن أداعب بأصابعي صورة ذلك الهندي الأحمر على أزرار المكسيكانينو لكي أثير غيرته وأنا أضع ساقاً على ساق وأقرأ أموات موباسان الذين لا يكذبون على أصوات همهمات المغاربة وضحكاتهم وهم يحشون سجائرهم.
شعرت بقشعريرة والقطار يعبر الحدود التونسية ويتوغل في العمق الجزائري. القشعريرة نفسها التي كنت أشعر بها كلّما توغلت ريشة الشينويل في الحائط وعبرت الآخر؛ لذة الاختراق. لا شيء كان غريباً قبل ظهور أولئك الشباب الأربعة أصحاب حقائب الظهر الصغيرة، وقتها كنت بدأت أشعر بخدر يتسرّب إلى رأسي شيئاً فشيئاً، تنميل خفيف يدغدغ دماغي بسبب تلك القطعة من الحشيش التي وضعتها تحت لساني. كان قد مدني بها رفيقي وعاد إلى سباته وهو يقول لي خذ هذه وستنام. عليك أن تنام لترتاح فما زالت السفرة طويلة وشاقة.
شيئاً فشيئاً بدأت أشعر أن "موتى" موباسان أيضاً يكذبون، بل موباسان نفسه كذاب كبير، رميت بالكتاب وبدأت أتابع الشبان الأربعة الذين بدأوا يقفزون فوق أعلى الكراسي يمشطون عربات القطار الذي لا يتوقف عن العويل وهو يأكل الجبال والسهول والجسور والأنفاق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع