يعود الأمر إلى أربعين عامًا، بل أكثر ببضع سنوات. لا أتذكر جيدًا. إن كانت أمّي مازالت تعيش لَتذكّرت تحديدًا. وحتى لقالت ماذا كنتُ أرتدي. ولأخبرتْ بكلّ تبضّعاتنا قبل السفر، وساعة انطلاقنا، ورائحة عطر أبي. ولَقالت كم كان طولي ووزني. أمّي غير موجودة. لقد ماتت منذ سنوات طويلة. يجب أن أسأل أبي. كان أبي لتوّهِ قد اشترى سيارة، "بيْكان" حمراء. أتذكّر كيف أمسك بيدِ أمّي كي يُريها السيارة. ذهبا معًا إلى شرفة البيت، فركضتُ وراءهما. كانا يفيضان فرحًا. قال أبي: سنسافر غدًا. : غدًا؟ : نعم. : إلى أين؟ : أيّ مكان. كانت السيّارة على جانب الشارع. كنتُ أنظر إليها واضعًا ذقني على الدرابزين. كأنما بقعة حمراء كبيرة تُرشّ على الأنحاء. ولكن، متى كان ذلك؟ عليّ الاتصال بأبي. : أبي! هل تتذكّر أول سيارة اشتريتَها؟ : طبعًا أتذكر. كانت "بيْكان". بيكان أحمر. : اشتريتَها جديدة أم مستعملة؟ : أنا لم أشترِ مستعملة قطّ. : هل تتذكّر موديلَها؟ : موديل ٧٣. سبتمبر ٧٣. وهذا يعني أنني كنتُ في الرابعة من عمري. لا تتوقّعوا منّي أن أتذكّر ما حدث لي في الرابعة من عمري بكلّ تفاصيله. الحديث عن شيء حدث قبل خمسة وأربعين عامًا. حين تبتعد ذكرى ما إلى هذه الدرجة، يبدو لك أنك واقف في الضباب، ومن بين ذلك البياض تخرج أشياء ما؛ لحظات في بعض الأحيان، وصورٌ في لحظات أخرى؛ تارة نكهاتٌ، وتارة أخرى أحاسيس. أحاسيس تحاول أنت تصوّرَها، وتصويرَها. أبحث بين صور طفولتي علّني أعثر على صورة من تلك الرحلة. أشاهد ألبومات الصور. أتصفح حزمة الصور، البيضاء والسوداء، والملوّنة. لا أحصل على شيء. أتصل مرة أخرى بأبي، وأسأله عن الصور. : لا أعرف، لا أتذكّر. قد تكون هناك، سأرى وأخبرك. : لابدّ أن تكون. : أعدّ مرَقًا للغداء، ألا تأتي إلى بيتي؟ : لا يا بابا، لديّ الكثير من العمل. : اشتريتُ مخلّلات أيضًا. : بابا، هل تتذكّر قصّة أيّ مكان؟ يضحك. أسمع صوته من الهاتف. يتمهّل قليلًا، ثمّ يقول: هي من تلك الرحلة طبعًا. أعود إلى الضباب. أرى في الضباب أمّي تنزل الدرجات حاملةً سلّة. نحن في الممرّ. الممرّ نصف معتم. واضعة على رأسها قبعةً مشبكة بيضاء وكبيرة، وبتنورةٍ بيضاء، تتجاوز الدرجات واحدة تلو الأخرى. وكما النساء في رسوم مونيه، ترفع تنّورتها لكي لا تلامس الدرجات. أنا الابن الأوّل. كان لم يأتِ الآخرون بعد. : على مهلك بيْمان، على مهلك. أبحث في الضباب. أسمع صوتَها ثانية. صوتها الفتيّ. : أعطِني يدك. تمسك بتنّورتها ويدي معًا. أتذكّر هذه اللحظة بشكلٍ دقيق. كانت واقفة في منبسطِ الدرج. الدرجاتُ كانت رمادية، وقد تسرّب بعض الضوء إلى الممرّ. : إلى أين نذهب؟ : إلى الشمال حبيبي. : أبي قال سنذهب إلى أيّ مكان. : فقط ليقولَ شيئًا، وحسب. لا أتذكّر حين ركبنا السيّارة. لا أتذكّر إن توقّفنا في مكان ما أم لا. لا أتذكّر كيف عبّأنا الوقود، كيف تغدّينا، وكم استغرق الطريقُ من الوقت. لا أتذكّر أي أغانٍ سمعنا. وحتى لا أتذكّر كيف كان شكل السيارة من الداخل. كلّما فكرتُ لا يحضرني شيء. فقد تحوّل كلّ شيء إلى حلم. صورٌ وأصوات تأتي وتذهب، ولكن ليس ثمة شيء واضح. الجوّ كان مبتهجًا. أغانٍ فرِحة كانت تُبثّ من الراديو. وبين كلّ أغنية وأخرى كان يظهر رجلٌ وامرأة، ويأخذان بالحديث. ولكنّ شيئًا ما كان يتكرّر هناك. شيء ما زلت أتذكّره. كان ثمة مجموعة يهتفون بسُرور: راديو البحر. كنّا نسير في الضباب، وراديو البحر يبعث في نفوسِنا البهجة. كنتُ واقفًا في الخلف وبين المقعدين الأمامين، وأستمع، وأنظر. كانوا يبيعون الكُرات في كلّ مكان، وفي كلّ مكان كانت الدُّمى المنفوخةُ بالهواء موضوعة للبيع؛ الدّمى الكبيرة المنفوخة بالهواء. في كلّ مكان، كان كلّ شيء ملوّنًا. كلّ مكانٍ مليء بالشجر، ومليء بالأخضر. كلّ المحلّات تبيع القبّعات. كلّ مكان كان مفعمًا بقبّعة أمي. : راديو البحر. إن عدتُ إلى الضباب، إن تصفحتُ السّنوات الخمس والأربعين هذه، صفحة بعد صفحة، سنصل إلى لحظة ترجّلنا فيها من السيّارة في شاطئ هادئ، والبحر أمامنا. شيء لن أنساه أبدًا. حجمٌ لا يمكن تصديقه. خطٌّ لا نهاية له. كان الماء في كلّ مكان؛ هادئًا، أزرق، ودون نهاية. كان البحرُ غريبًا؛ أغرب حادث في العالم. العين لا تشبع، ولا تصدّق. الأمواج تتراكض، وتتزحلق حتى آثار أقدامنا. أمّي كانت تخطو حافية بقبّعتها المعرّقة بالورود. كانت بقعة بيضاء. كنّا في البحر، وأنا على كتفيْ أبي. نتقدّم والماء يصعد وينزل بتهادٍ. أمّي أصبحت صغيرة. وكان الماء قد وصل إلى قدميّ حين وقفنا. : تقدّمْ أكثر. : لا، لا يمكن أكثر من هذا. : يمكن، لقد ذهب ذلك الرجل. : هو طويل. قلتُ: "حاضر، حاضر"، وأشرتُ إلى رجلٍ بعيد جدًّا. : إذًا هو طويل جدًّا. ضحك. تقدّمنا معًا نحو الأمام وعُدنا. كان الماء قد وصل إلى صدر أبي. وكنتُ ماسكًا بعنقِه بقوّة. كان الماء مالحًا. كنّا واقفين، وطويلو القامات كانوا يبتعدون أكثر فأكثر. أمّي تلوّح لنا بيدها. كانت مستندة إلى سيّارتنا الحمراء وتشير إلى شيء ما. : ماذا تقول؟ : تقول عودا. كان الماء يهبط شيئًا فشيئًا. عدنا وكانت أمّي تكبر ثانية. وصل الماء إلى ظهر أبي، وأنا ما زلتُ على كتفِه. قلت: إذًا هنا ليس أيّ مكان. قال أبي: هنا هو البحر؛ البحر ليس أيّ مكان.
كانت الرحلة من طهران إلى شمال إيران حيث بحر "قَزوين"، عام ١٩٧٣. ترجمة عن الفارسية: مريم حيدري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com