لا يجتمع اثنان من أبناء قطاع غزة للحديث عن الهجرة، إلا وتكون إسطنبول ثالثهما. ففكرة التوجّه إلى تركيا هرباً من واقع الحال في غزة أصبحت الشغل الشاغل للشباب الفلسطينيين خلال الشهرين الأخيرين، وإنْ لم يكن ذلك بدافع الإقامة، يكون بدافع المرور بإسطنبول كمحطة تسبق الانتقال إلى أوروبا.
واللافت في الأمر أن تركيا تشكّل منذ فترة طويلة قبلة للمهاجرين الفلسطينيين. لكن مؤخراً، بعد فتح معبر رفح البري الواصل بين مصر وقطاع غزة، بشكل شبه يومي، صار السفر إليها أشبه بموسم الحج.
في السابق كانت صيغة سؤال الغزيين على النحو التالي: إلى أين ستهاجر؟ أما اليوم فصارت: هل ستستقر في تركيا؟، بمعنى أن المرور بتركيا صار أمراً مسلماً به ولكن السؤال هو إذا كانت المحطة الأخيرة أو أن محطة أخرى ستليها.
فئة كبيرة من الأشخاص الذين استقروا في تركيا صارت الحرية والمساواة تعني لهم أكثر من الوطن والوجود. فتطلعات الشباب الفلسطينيين الذين ضجروا من الحياة السياسية في بلدهم ومن تعقيداتها ومن سوء الأوضاع الاقتصادية، أصبحت منصبة نحو البحث عن الاستقرار وتوفير فرص عمل بعدما بلغت نسبتا الفقر والبطالة أرقاماً قياسية.
"تعطّش للحركة"
ترى الإعلامية الشابة إسراء المدلل التي اتخذت مؤخراً من إسطنبول مقراً للإقامة أن أبرز الدوافع وراء توجهها إلى هناك، هو أن قوانين تركيا ليست مجهدة وصعبة كقوانين الدول الأوروبية، فهي تمنح إقامة لمدة سنتين، وتمكّن الشخص من فتح حساب مصرفي، ولا تضع قيوداً على العمل، فضلاً عن أنها تتتيح الفرصة لامتلاك مسكن، عدا أنه يمكن الحصول على جنسيتها ولكن لاحقاً وبشروط. ووفقاً لقانون الإقامة التركي رقم 29800 الصادر في العاشر من أبريل 2014، فإن جميع أنواع الإقامات متاحة لحاملي الجنسيات العربية بلا استثناء، ومن المتاح الحصول على إقامة قصيرة الأمد لمدة سنة من داخل تركيا، كما يمكن للعائلات أن تحصل على إقامة لمدة ثلاثة أعوام. أما المستثمر فيمكنه بحال استثمر مبالغ يحددها القانون أن يحصل على إقامة لمدة تصل إلى خمس سنوات، ويمكن لزوجته وأبنائه تحت سن 18 عاماً الالتحاق به. انتقلت المدلل قبل أشهر إلى تركيا وهي تعمل الآن في قناة (TRT) التركية الناطقة بالعربية. وعن أسباب اختيار الشباب الفلسطينييين لإسطنبول، تقول إنها متعلقة بسهولة الحصول على فيزا وبأنها لا تتطلب تكاليف باهظة، فضلاً عن أن هناك ترحيباً من الحكومة التركية بالفلسطينيين. تتحدث المدلل عن فكرة تحقيق الذات وتقول لرصيف22: "قبل أن أغادر قطاع غزة، كنت قد وصلت إلى مرحلة التعطش للحركة والبحث عن المعرفة. صعوبة الحياة والضغوطات المفروضة على الناس في غزة تفقد الشخص اتزانه وقدرته على التحكم بحياته واتخاذ القرارات، بينما هنا، البلاد مفتوحة وهذا يمكّنك من تحديد وجهتك، وتغيير نمط حياتك، والاستفادة من السياحة والأماكن التاريخية والطبيعية". برأيها، "في تركيا تتمكن من التعلم أكثر واكتساب الخبرات بشكل أوسع، وتستطيع بناء علاقات اجتماعية بشكل أكبر ومختلف بناءً على اختلاف وتعدد الناس والثقافات والمعتقدات". تعتقد المدلل أن "الشخص الذكي" هو الذي يستطيع مشاركة الآخر، وفي نفس الوقت يحافظ على هويته الخاصة أينما كان وفي أي بلد... فالاندماج في مجتمع جديد والانتماء إليه لا يعنيان أن ينسلخ الشخص عن وطنه". وتقول: "حين تكون غزة بخير نكون جميعنا بخير. نحن نحبها وقلوبنا معها، لكنها أتعبتنا وأرهقتنا وأثقلت أعمارنا بوطن معلّق على سارية الوهم، ونضال على دموع الفقراء واليتامى، ولم تدع الحياة تنمو دون تعطيل وموت بطيء. نحن مَن هرب من الضياع، نحن جيل الحروب والحصار المستمر منذ 11 سنة. أحلامنا أكبر من سياج حدودي وأجبن من طفل مسيرة العودة. لهذا كله نحن في تركيا الآن"."تحقيق الطموح"
للطبيب الشاب خالد شتات أسباب أخرى دفعته للخروج من قطاع غزة إلى تركيا والاستقرار هناك، فهو يبحث عن تحقيق طموحه في مجال الطب الذي يحبّه ويشعر أن هناك نقصاً في ما يتوافر في غزة في هذا المجال، ولذلك أراد إكمال مسيرته العلمية في الخارج. تخرّج شتات عام 2013 من كلية الطب في الجامعة الإسلامية، ويقول لرصيف22: "لعلي أنجح في إكمال النقص الحاصل في المجال الطبي في قطاع غزة، رغم قلة الإمكانيات". يروي أنه حينما تخرّج قبل خمس سنوات، "كانت فرص العمل نادرة والمقابل المادي شحيحاً، لذلك كان المنطقي من وجهة نظري اغتنام الوقت والعمر في اختصاص طبي في بلد مثل تركيا التي تخرج منها أطباء فلسطينيون معروفون". يعتبر شتات أن القواسم المشتركة بين الفلسطينيين والأتراك متعددة دينياً وتاريخياً وثقافياً، لكن الأهم برأيه هو "أن الأتراك ما زالوا يؤمنون بفكرة الوحدة الإسلامية التي انتهت بانهيار الخلافة العثمانية". ينجذب الطبيب الشاب لواقع أن القادة الأتراك خلال الـ18 عاماً الأخيرة أسهموا في نشر الوعي والترويج للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي، "الأمر الذي عزّز روابط التعاون بين الشعبين"، حسبما يقول."غزة أتعبتنا وأرهقتنا وأثقلت أعمارنا بوطن معلّق على سارية الوهم، ونضال على دموع الفقراء واليتامى، ولم تدع الحياة تنمو دون تعطيل وموت بطيء. نحن مَن هرب من الضياع. أحلامنا أكبر من سياج حدودي. لهذا نحن في تركيا الآن"
يعتبر بعض أبناء غزة أن القواسم المشتركة بين الفلسطينيين والأتراك متعددة دينياً وتاريخياً وثقافياً، لكن الأهم هو "أن الأتراك ما زالوا يؤمنون بفكرة الوحدة الإسلامية التي انتهت بانهيار الخلافة العثمانية"ويشير شتات إلى أن قصص نجاح بعض التجارب الشابة الغزية حفّزت آخرين على خوض التجربة. وعند الحديث عن قصص النجاح التي حققها فلسطينيون شباب مقيمين في تركيا، يحضر فنان الغرافيتي بلال خالد الذي استطاع أن يبرز موهبته الفنية خارج حدود غزة، بجانب عمله كمصوّر صحافي. يقيم خالد منذ نحو عامين في تركيا، واستطاع أن يعبّر من خلال فن الغرافيتي عما يعتبر أنه وحدة المصير بين الشعبين الفلسطيني والتركي، وعرى المحبة التي تربطهما، وأن يرسل رسالة تدعو إلى السلام وإنهاء الحصار في جميع بلدان العالم.
مغريات كثيرة
في تركيا، استطاع الصحافي الفلسطيني إسماعيل شكشك (يُعرف بإسماعيل كيا) أن يحصل على درجة الماجستير في تخصص له علاقة بالتلفزيون والسينما، وعمل محرراً في موقع "ديلي صباح" التركي. نجح شكشك الذي خرج من غزة قبل عدة سنوات لاستكمال دراسة الإعلام، في أن يصنع نجاحاً خاصاً وصار يظهر عبر الفضائيات بصفته مختصاً في الشؤون التركية، كما حصل على الجنسية التركية، وكوّن أسرة في إسطنبول. بجانب النجاحات، كبيرة كانت أو صغيرة، يبرز اهتمام الشباب والفتيات على حد سواء بالبحث عن الملابس التركية، وهو جعل عدداً كبيراً من المحال التجارية تهتم باستيراد الملبوسات التركية نزولاً عند رغبة الزبائن. وكتب الشاب الفلسطيني علي مواسي، جامعاً بين الجد والهزل، أن "عدد محلّات الجلابيب والحجابات التركيّة، أكثر من فروع "فوكس" و"رينوار" و"زارا" و"بول أند بير" و"جولف" و"بولو" مع بعض!". وأضاف في منشور على صفحته على فيسبوك: "عدد الفلسطينيّة اللّي زاروا إستنبول وأنطاليا وبودروم خلال حياتهم أكثر من اللّي زاروا القدس وإيلات والخليل... لمّا حدا بدّه يفتح مشروع ترفيهي جديد، بروح بفتح حمّام شعبي تعمل فيه الناس مساجات وساونا وجاكوزي وتكييس، والعرسان بصيروا يعملوا زيانتهم فيه، وبسمّيه حمّام تركي... لمّا الواحد يروح يشتري الذهبات، لازم لازم لازم الليرة العصمليّة تبقى تلعلع لعلعة".بين الإيديولوجيا والمصلحة
المغري في تركيا بالنسبة إلى بعض أبناء غزة ليس المسلسلات التركية المدبلجة إلى العربية وأبطالها، بل هو الارتباط الإيديولوجي بين حركة حماس التي تدير قطاع غزة وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية. يتحدث أستاذ علم الاجتماع السياسي حسام أبو ستة لرصيف22 عن توجه الشباب الفلسطينيين نحو تركيا مؤخراً، ويفسّر الظاهرة بعدة عناصر. يقول: "أصبحت تركيا في الآونة الأخيرة أهم ممرات العبور للهجرة بالنسبة إلى الفلسطينيين، وهذا ما يتضح من خلال كشوف السفر الأخيرة التي بيّنت أن تركيا تأتي في المرتبة الأولى في اتجاهات المسافرين من سكان القطاع، بل ولاتجاهات الفلسطينيين الذين يقيمون في دول الخليج والأردن وغيرها من الدول العربية الأخرى ويرغبون في الهجرة إلى دول أوروبية". فتركيا، كما يشرح أبو ستة تمتاز بقربها الشديد من المحطة الأوروبية الأولى للهجرة، أي اليونان، ويستطيع الفلسطينيون الحصول على تأشيرة دخول إليها بسهولة، عدا أن تكاليف التأشيرة مقبولة وتصدر بسرعة. ولا يخفي أبو ستة سبباً آخر هو "تساهل السلطات التركية مع المهاجرين الفلسطينيين ومع عمل الوسطاء الأتراك في تسهيل الهجرة، من خلال التغاضي بشكل أو بآخر عن نشاطات مثل الهجرة غير الشرعية التي تُعتبر مخالفة للأعراف والقوانين الدولية". ويعتبر أستاذ علم الاجتماع أن هذه الأمور عائدة إلى التقارب الملحوظ بين الحكومة التركية والسلطات الحاكمة في قطاع غزة. ويلفت إلى أن موضوع تأشيرة دخول الفلسطينيين شكّلت واحدة من محتويات وموضوعات الدعاية الانتخابية للمرشحين الأتراك لمنصب الرئاسة في الانتخابات الأخيرة. فقد تعهّد زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض كمال كليتشدار أوغلو برفع تأشيرات الدخول عن الفلسطينيين، بحال نجح، في لعب على وتر تعلّق الأتراك بالقضية الفلسطينية. ويذكّر أبو ستة بتوفير الحكومة التركية مئات المنح الدراسية للمراحل الدراسية المختلفة للطلاب الغزيين. كما يلفت إلى أن تركيا تنتهج منذ سنوات سياسات اقتصادية وسياحية ناجحة استطاعت استقطاب الكثير من رؤوس الأموال العربية بما فيها تلك التي يمتلكها فلسطينيون، لا سيما من رجال الأعمال الغزيين. ولكن، برغم كل ذلك، يُبدي أبو ستة اعتقاده بأن تركيا "لن تشكل بديلاً للمهاجر الغزي والفلسطيني بشكل عام عن الدول الأوروبية التي يطمح للوصول إليها من خلال المعبر التركي، إلا لأصحاب رؤوس الأموال".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...