ما أن انتهت السلطة في مصر، أو كادت، من عملية "شرعنة" تقييد الإعلام التقليدي وحصار منصاته وتأميمها، حتى بدأت تمهّد لعملية جديدة تمكّنها من "لجم" الإعلام البديل الذي تعتبره مصدراً للصداع تجب السيطرة عليه.
فحديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن رصد نحو 21 ألف شائعة في غضون ثلاثة أشهر، بمعدل 9.7 شائعة في الساعة، وقوله إن هذا الأمر يشكّل التحدي الأخطر الذي تواجهه البلاد، ما هو إلا حلقة من حلقات العملية الجديدة.
تضارب الإحصاءات
تصريحات السيسي عن الشائعات ليست الأولى من نوعها. فتحت قبة البرلمان المصري، سبق أن حذّر النائب محمد ماهر حامد مما سماه نشر الشائعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مطالباً بضرورة غلق الصفحات والمواقع التي تسخر من الدولة المصرية وتثير الفتن ضدها. الكلام نفسه كرّره بصيغة أخرى النائب محمد العقاد، مشيراً إلى أن مصر لم تتعرض منذ فترة حكم محمد علي لكم الشائعات الذي تعرّضت له في الشهور الأخيرة، وإلى رصد تقارير لتعرض الدولة لأكثر من 60 ألف شائعة في الشهور الثلاث الأخيرة، تهدف جميعها إلى ضرب الاستقرار والتشكيك في المؤسسات المصرية والنيل منها. لم تلتفت صحف القاهرة إلى التضارب بين أرقام الشائعات التي ذكرها السيسي (21 ألفاً) وبين الأرقام التي ذكرها النائب (60 ألفاً) ولم يتحقق أي صحافي من الأساس العلمي الذي اعتمدت عليه الأجهزة لرصد هذا الكم الهائل من الشائعات، ولم يتساءل مقال واحد عن السبب الحقيقي لانتشار الشائعات، لو صحت تلك الأرقام. بدل ذلك، عزفت وسائل الإعلام بمعظم منصاتها على ذات النغم فنشرت تقارير ودبّجت مقالات تدعم وتؤيد كلام القيادة بعناوين مثل "حقيقة أكاذيب السوشيال ميديا"، "فيسبوك يتحول إلى منصة شائعات"، "خلوا بالكم.. هدفهم إحباطكم"، "شائعة كل 7 دقائق.. التدمير باليأس والأمل"، إلخ.استهداف "السوشال ميديا"
الحملة التي دشنها الرئيس والنواب وروّج لها الإعلام المصري تهدف إلى غلق الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعي ووضع قيود جديدة على حرية الرأي والتعبير تطال الفضاء الإلكتروني لتُضاف إلى القيود التي حاصرت الإعلام التقليدي، بحسب مراقبين ومغردين تساءلوا عن السبب في انتشار هذا العدد الهائل من الشائعات لو صحت الأرقام التي ذكرها السيسي. "المجتمع الذي يواجه 21 ألف شائعة خلال ثلاثة أشهر هو بالضرورة مجتمع يعاني من احتكار السلطة للمعلومات، واستلاب حقه في المعرفة بسن قوانين مقيدة لحرية التعبير والإعلام والصحافة والإبداع والنشر، ومعاقبة كل مَن يغرد خارج السرب"، كتبت الصحافية خيرية شعلان على صفحتها على فيسبوك، مضيفة: "لو صح هذا الإحصاء فإنه يحسب عليها (السلطة) ولا يضيف لها، بل إنه يرسم صورة أليمة لمجتمع مصاب بانسداد حاد في منافذ الاتصال والتواصل العامة والخاصة". وعلّق الكاتب ورئيس التحرير الأسبق لـ"المصري اليوم" أنور الهواري على حديث السيسي بقوله: "حديثُكَ عن غزارة الإشاعات في عهدك، شهادةٌ منك ضدّك"، مؤكداً في منشور على فيسبوك أنه" إذا تدفقت المعلومات الصحيحة، في التوقيت السريع، دون حجب ودون رقابة ودون تشويه ودون تحريف، ماتت الشائعات الكاذبة، والأقاويل المغرضة، والدعايات المسمومة في مهدها، دون مجهود يذكر، فالشائعات لا تلعب في عقل فيه معلومات". عادة ما تحمّل السلطة "أهل الشر" مسؤولية نشر الفتن والشائعات، بهدف "إثارة البلبلة ونشر الفوضى وعدم الاستقرار وصناعة الإحباط وفقدان الأمل بين الشعب"، بحسب ما يكرر المسؤولون المصريون، فهل تملك جماعة الإخوان المسلمين أو تنظيمات العنف القدرة على صناعة الشائعة ونشرها؟شائعات "أهل الشر"
قبل سنوات، تحديداً عام 2010، وقبل الانتخابات البرلمانية التي جرت في ذاك العام بشهور، نشرت جريدة "الشروق" المصرية وثيقة إخوانية تتضمن قواعد "الحرق السياسي للخصوم"، وإطلاق الشائعات ضد المنافسين قبل الانتخابات، وإعادة تدوير تلك الشائعات بشكل منظّم حتى تتحول مع الوقت إلى حقائق متداولة بين الناس في المقاهي والأسواق. وعام 2012، نشرت جريدة "التحرير" المصرية دراسة أخرى لمفتي الجماعة حينها عبد الرحمن البر يُشرّع فيها ما وصفه بـ"التترس" بالجاهليين من ناصريين ونصارى وليبراليين في قوائم الجماعة الانتخابية التي خاضت بها معركة انتخابات برلمان 2012. مستنداً إلى القاعدة الفقهية "الضرورات تبيح المحظورات"، برر البر للإخوان أن تستخدم عدداً من الوسائل الديمقراطية كالانتخابات والتظاهرات وتأسيس حزب الحرية والعدالة حتى تصل إلى مرحلة التمكين ثم إقامة دولة الخلافة. تبيح جماعة الإخوان الكذب وتطلق الشائعات "في سبيل الله" لتحقق هدفها "إسقاط النظام القائم وإقامة الدولة الإسلامية". فعلت ذلك قبل ثورة يناير 2011 وبعدها وتفعله الآن، لكن هل الجماعة وحدها مسؤولة عن انتشار الشائعات واعتماد الجماهير عليها بديلاً عن المعلومة.شائعات السلطة
يقول الأستاذ الجامعي والعضو السابق في حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، الدكتور أحمد دراج، إن "الشائعات لمَن يفهم لا تنتشر إلا في أجواء الصوت الواحد والتعتيم والكراهية والقهر".مؤشرات كثيرة آخرها تدوير ماكينة الإعلام الموالي للسلطة لحملة التحذير من الشائعات التي تستهدف إسقاط الدولة، بعد خطاب السيسي الأخير، تنذر بأن السلطة قررت بعد السيطرة على الإعلام التقليدي غلق ثغرة مواقع "التنفيس" الاجتماعي
السيسي يتحدث عن 21 ألف شائعة تستهدف مصر، ونائب يتحدث عن 60 ألف شائعة... لم يتحقق أي صحافي من أسباب تضارب الرقمين أو من الأساس العلمي الذي اعتمدت عليه الأجهزة لرصد هذا الكم الهائل من الشائعات، وقلة قالوا: "الشائعات لا تلعب في عقل فيه معلومات"أما الكاتب الصحافي عبد الله السناوي فيرى أن "سوء ظن السلطة وفقدانها الثقة يجعلها تتعامل مع أي نقد أو تأفف من القرارت الاقتصادية باعتبارها شائعة"، مؤكداً أنه "لو صح الرقم الذي أعلنه الرئيس عن الشائعات فالمسؤولية تقع على أجهزة الدولة التي تحاصر الإعلام وتحجب المعلومة والخبر وتضيّق على الرأي، وهو ما يدفع المواطن إلى البحث عن وسائل بديلة". واستدعى عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي شائعات صدرت عن مؤسسات وأجهزة تابعة للسلطة وإعلامها بعد 30 يونيو 2013، منها على سبيل المثال لا الحصر، اختراع اللواء إبراهيم عبد العاطي جهاز لعلاج فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي عُرف إعلامياً بـ"جهاز الكفتة" وأعلنت عنه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة قبل أربع سنوات، ثم اكتشف الجميع أنه "كذبة كبرى" عرّضت مصر لفضيحة، ما دعا نقابة الأطباء إلى إحالة الأطباء المسؤولين عن الجهاز المزعوم إلى التحقيق. واستدعى آخرون شائعة "أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي" التي أطلقها الإعلامي محمد الغيطي المقرّب من النظام وأثارت سخرية كبيرة عام 2014.
مجلس المراقبة
تملك السلطة في مصر ترسانة من القوانين التي تمكّنها من إطباق قبضتها على مواقع التواصل الاجتماعي كما تمكّنت من إحكام السيطرة على الإعلام التقليدي. ولم تكن المادة 19 من قانون تنظيم الصحافة والإعلام الذي أُقرّ قبل أيام في مجلس النواب هي المادة الأولى التي من شأنها إتمام عملية "لجم" الإعلام البديل. تتيح المادة المذكورة حظر أي موقع إلكتروني شخصي أو مدونة شخصية أو حساب شخصي على وسيلة للتواصل الاجتماعي يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف متابع أو أكثر، بدعوى نشر أخبار كاذبة أو التحريض على مخالفة القانون أو الحضّ على العنف أو الكراهية أو إذا كان ينطوي على تمييز بين المواطنين أو يدعو إلى التعصب أو يتضمن طعناً في الأعراض أو سباً أو قذفاً أو امتهان للأديان السماوية أو العقائد الدينية. ومنحت هذه المادة للمجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام الحق في اتخاذ الإجراء المناسب حيال المخالفة وله في سبيل ذلك وقف وحجب الموقع أو المدونة أو الحساب المشار إليه. ولم تذكر الآليات التي تمكّن المجلس من حجب حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لشركات عالمية. "المشرع البرلماني تركها للائحة التنفيذية التي ستضعها الحكومة بالاشتراك مع المجلس ونقابة الصحافيين بعد التصديق على القانون"، يقول عضو في المجلس.السجن في انتظارك
في الوقت نفسه، يحتوي قانون العقوبات على ترسانة من المواد التي تعاقب بالحبس والغرامة "كل من أذاع عمداً أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب بين الناس أو إلحاق الضرر بالمصلحة العامة، أو روج لتغيير مواد الدستور أو أهان مجلس الشعب أو الهيئات النظامية أو سب موظفاً عاماً أو نشر أخباراً وشائعات كاذبة بسوء قصد"، بحسب ما جاء في المواد 102، 102 مكرر، 184، 185، 186، و188، والتي اتجهت النية عام 2014 لتعديلها لتتوافق مع مواد الدستور التي حظرت الحبس في قضايا النشر، إلا أن مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحريات في قضايا النشر دخل ثلاجة البرلمان ولم يخرج منها حتى هذه اللحظة. قد يصعب غلق مواقع التواصل الاجتماعي على الطريقة الكورية الشمالية أو الصينية، فالعملية في مصر أعقد لأن النظام المصري يسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع شركات الاستثمار الدولية، وغلق مواقع التواصل يؤثر على سمعته، إلا أن المجلس الأعلى للإعلام، ووفقاً للمادة 19 من قانونه، يملك صلاحية إحالة شكاوى وتقديم بلاغات إلى النيابة العامة ضد الحسابات والمواقع الشخصية التي يعتبرها مخالفة للقانون، وهو ما جعل البعض يتعامل معه باعتباره "محتسب على بوستات المصريين". في مطلع فبراير الماضي، أصدرت النيابة العامة بياناً قالت فيه إن النائب العام أمر المحامين العامين ورؤساء النيابات بمتابعة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي واتخاذ إجراءات جنائية ضدها إذا قامت ببث "أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة". وتابعت أن الأمر الذي أصدره النائب العام يأتي "في ضوء ما تلاحظ مؤخراً من محاولة قوى الشر النيل من أمن وسلامة الوطن ببث ونشر الأكاذيب والأخبار غير الحقيقية من خلال وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي". بيان النائب العام، وقانون الإعلام والصحافة الجديد، وترسانة المواد السالبة للحريات في قانون العقوبات، مع تدوير ماكينة الإعلام الموالي لحملة التحذير من الشائعات التي تستهدف إسقاط الدولة بعد خطاب السيسي الأخير، كل ذلك ينذر بأن السلطة أطبقت على المجال العام في مصر، وقررت بعد السيطرة الكاملة على الإعلام التقليدي غلق ثغرة مواقع "التنفيس" الاجتماعي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...