البلاد التي تحتكّ فيها أقلية مسلمة بأكثرية بوذية بدأت تعيش اليوم فوضى دينية نتيجتها العنف. عاصمة الإرهاب البوذي اليوم هي بورما، تعيش في أزقّتها مجموعات بوذية مسلّحة لا تعرف الرحمة ومجتمع مسلم منحصر بين عنف السكّان المحليين وصمت الحكومة نفسها. كيف لطائفة مبنيّة على السلام والمحبة أن تعتدي على أقلية مسالمة؟ وكيف آلت الأمور لأن تتحول العلاقة البوذية- المسلمة إلى ساحة مفتوحة للأصولية؟
بورما وسريلانكا دولتان يجمعهما حقدٌ تجاه المسلمين، برغم أن كلتيهما لا تواجهان خطر التشدد الإسلامي. في سريلانكا، يتحدث المجتمع البوذي عن مقاطعة الشركات الإسلامية، والوقوف في وجه ازدياد عدد المنتمين إلى الإسلام بخطوات تصاعدية يدعو لها أعضاء من المنظمة السيلانية بودو بالا سينا Bodu Bala Sena التابعة لرهبانبوذيين متشددين. أما في بورما، فالعلاقة بين الطائفتين تأزّمت وارتكبت مجازر عدة بحق المسلمين، على أيدي منظمة 969 التي يترأسها Ashin Wirathu، بن لادن بورما. اندلعت الأحداث في منتصف عام 2012 إثر حادثة اغتصاب ومقتل شابة بوذية على يد مسلم. أدّت الحادثة إلى اشتباكات عنيفة أسفرت عن مقتل 200 شخص وتشرّد الآلاف من المسلمين التابعين لجماعة روهينغيا Rohingya، أكثر الأقليات اضطهاداً في العالم وفق الأمم المتحدة. منذ ذلك الوقت وحالة التعصب الديني في تفاقم، متسببة بمقتل العشرات في كل عام.
السلطات في سريلانكا وميانمار تتعامل بصمت تام مع العنف الذي تشهده البلاد، وكأنها تشكل غطاءً سياسياً وأمنياً لما يجري. اقترحت الحكومة في ميانمار سلسلة قوانين تساهم في التضييق على الأقليات، مثل تحريم الزيجات بين الأديان وفرض حظر على التحولات الدينية والحد من معدل الولادات، بدعمٍ من Mabatha (مجموعة رهبان بوذيين متطرفين). أصبح الإسلام مركزاً لكره البوذيين في ميانمار، وهؤلاء لا يخشون إظهاره من خلال العنف الجسدي والمعنوي، "الإسلام هو إيمان الحيوانات مع معدلات ولادات خارجة عن السيطرة" هي يافطة رفعت بوجه مندوبي منظمة التعاون الإسلامي لدى زيارتهم ميانمار العام الماضي.
الديانة البوذية وطقوسها الإيمانية مرتكزتان على حبّ الآخر وحبّ النفس. كما قال بوذا"الكراهية لا تقابل بالكراهية، بل تقابل بالمحبة وحدها، هذا قانون أبدي قديم". فلسفةٌ عريقة لم يعد يعيرها بعض الرهبان البوذيين وأتباعهم أي اهتمام. لكن يبدو أنها ليست المرة الأولى التي تطعن العقيدة البوذية فيها. بحسب المؤرخ ألان ستراثرن Alan Strathern، إن الديانة البوذية هي مثل غيرها من الأديان، سرعان ما تمضي اتفاقاً مع الشيطان، أي بمعنى آخر مع سلطة الدولة، فما إن ينتاب الإنسان شعور قويّ من التفوّق الأخلاقي على غيره، يصبح واجباً أن يحمي ويعزز إيمانه ومعتقداته، بأي ثمن. هكذا يقال إن دوتوغمانو Dutugamanu أحد أهم ملوك سريلانكا في القرن الثاني ق.م.، حمل معه بقايا بوذية مقدسة في رمحه وأخذ 500 راهب معه في حربٍ ضد ملك غير بوذي. وفي بضع حقبات من التاريخ، مارس البوذيون العنف والقتل بهدف حماية العقيدة البوذية.
بالعودة إلى بورما وسريلانكا، فإنّ قسماً كبيراً من البوذيين يشعرون أن على دولهم أن تتحد في وجه التشدد الإسلامي العالمي الذي يهدد ديانتهم. وجهة نظر يشرحها مطوّلاً موقع Transcultural Buddhism في مقال تحت عنوان "لا مستقبل للبوذية في أسلمة العالم". يتحدث المقال عن الرعب الذي يعيشه من لا ينتمون إلى الدين الاسلامي، إثر الهجوم الوحشي الذي قامت به الدولة الإسلامية على الأقلية اليزيدية في العراق، ويقارن البوذيين باليزيديين لكونهم لا ينتمون لـ"أهل الكتاب"، ومصيرهم إما اعتناق الإسلام أو الموت. من خلال ذلك المقال، يحاول الموقع تبرير أعمال العنف التي يمارسها البوذيون ضد المسلمين، وكأنها معركة استباقية للكارثة التي قد تصيبهم إذا ما مسّهم الإسلام الأصولي.
في وجهة نظرٍ أكثر حضارية، يعتبر المدوّن الناشط عامر حسين أن الأزمة الحالية بين الديانتين البوذية والمسلمة مرتكزة على عدم وجود تفاهم بين أتباع هاتين الديانتين، وأن العائق الأساسي أمام تأسيس حوارٍ إيجابي هو لاهوتي، فالإيمان بالله الواحد هو محور العقيدة المسلمة بينما تعتبر الطوائف البوذية الإيمان الإلهي على علاقة بسعيٍ خاص لتحقيق النيرفانا في أكثر من حياة. برغم تلك النقطة الأساسية، يرى المدوّن أن نقاط التشابه بين الديانتين قد تكون كافية لإقامة حوارٍ بناء، مثل مبدأ محاسبة الإنسان على أعمال الخير والشر، إذ الجحيم والجنة لدى الإسلام، تقابلهما الكرما لدى البوذية، التي تؤمن بأن عمل الخير يكُافأ عليه في حين يعاقب فاعل الشر. يذكر المدوّن آية من القرآن الكريم تقول "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون"، كبرهان على أن العقيدة المسلمة هي أيضاً مع الحوار والانفتاح للديانات الأخرى.
ألكسندر بيرزين Alexander Berzin ، الخبير الأمريكي والأستاذ في البوذية التيبتية،يعتبر أن التقارب بين اليوذية والإسلام أكبر من ذلك، فبعض الباحثين المسلمين يرجّح إمكانية أن يكون النبي "ذا الكفل" المذكور مرتين في القرآن، يشير إلى بوذا، و"الكفل" إلى قوم بوذا الصالحين، وأن شجرة التين في القرآن تشير إلى شجرة البودهي التي تحتها أظهر بوذا تنويره. باحثان إسلاميان من القرن الحادي عشر سمّيا بوذا "نبياً" عند زيارتهما الهند للكتابة عن أديانها، معتبريْن أن القانون الإسلامي قد اعترف بكون البوذيين "أهل كتاب" خلال الحكم العربي للسند بين القرنين الثامن والعاشر، ومنحوهم بذلك الوضع الشرعي والحقوق التي كانت تعطى لليهود والمسيحيين.
في خطابٍ له في الجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي عام 2010، قال الدالاي لاما أن بعض المسلمين من التبت أخبروه أن المسلم الحق يجب أن ينشر الحب والرحمة بين كل المخلوقات، وأن المسلم الذي يكون سبباً في إراقة الدماء لن يكون مسلماً بعد ذلك، والجهاد في معناه العميق هو مجاهدة النفس للتغلب على كل المشاعر السيئة مثل الغضب والكراهية. من هنا، ندرك أن الاتجار السياسي- الاجتماعي- الديموغرافي بالأديان يقف مرةً أخرى خلف عداءٍ جديد بين ديانتين تستطيعان التعايش بسلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...