المشهد الموسيقيّ، عربياً وعالمياً، كغيره من مجالات الحياة، مهيّمَنٌ عليه من قبل الرجال، فتركيبة الفرق مكوّنة من عازفين رجال، مقارنة بغياب شبه تامّ للموسيقيّات النساء.
تحضر النساء في المشهد الموسيقيّ بالغناء أكثر منه بالعزف الآلاتي، وفي بلادنا، أغلبيةُ المغنيّات يحترفن الغناء الكلاسيكي والتراثي، أكثر من مشاريع موسيقيّة حديثة، بنسبٍ متفاوتة بالطبع.
لا شكَّ هناك استثناءات، فمؤخراً، ومع عصر الإنترنت وبعد الثورات العربيّة، تكسّرت تابوهات وقيود عديدة، ما زاد نسبة الموسيقيّات العازفات والمشاريع الموسيقيّة النسائيّة المعاصرة، صاحبها مقولة جديدة على مستوى الكلمة، اللحن، كذلك الأداء.
خلال هذا التقرير، تحدثنا مع موسيقيّات من لبنان، فلسطين، سورية ومصر، عن المشهد الموسيقيّ في بلدانهن، والهيّمنة الذكورية عليه، وخبرتهن الموسيقيّة، ومحاور أخرى.
للمرأة أثرٌ أكبر على المستمعين
فرح قدّور، موسيقيّة من لبنان، تعزف على البزق، بدأت على العود قبل 4 سنوات، غير أن صوت آلة البزق وحجمها جذباها، إلى جانب أهميتها في الموسيقى المشرقيّة الكلاسيكيّة والشعبيّة. ترى فرح أن حضور النساء عبر التاريخ كان أغلبه غنائياً، بسبب ارتباط هذا الفنِّ بحياة المرأة اليوميّة، وعاداتٍ كالأعراس، الزرع وأغاني نوم الأطفال (التهاليل)، من ناحية أخرى، ضيق مساحة تنقّل المرأة والحدّ من طاقتها أديا إلى انخفاض عدد النساء العازفات. وعن أكثر الأنماط الموسيقيّة التي تعزفها النساء، تقول فرح "إن اختلاف الأنماط الموسيقيّة المتداولة في مجتمعنا ليس جندرياً بقدر ما هو فكري وطبقي" مضيفةً "على سبيل المثال، الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة هيّمنت بشكلٍ كبير على مجتمعنا وأصبحت الخيار الأوّل للتعلّم، سواء من النساء أو الرجال. الخلفيات كثيرة، الاستعمار أوّلها، فكرة أن هذه الموسيقى "راقيّة" و"أنيقة"، هناك خلفيّة متعلّقة بالمرأة تحديداً، هي أن الآلات الغربيّة مثل البيانو، الغيتار وغيرها، "ناعمة" تُناسب الفتيات". إلا أنّ فرح تؤكد عودة الموسيقى المشرقية إلى قائمة الخيارات في العقد الأخير، وانعكاس ذلك على الأنماط التي تُعلّم "وازدادت أعداد عازفات وعازفي آلات العود، البزق، الناي وغيرها بشكل ملحوظ. لكن الأهمية تكمن في المحتوى الموسيقيّ، في الكفاءة والموهبة، بغضّ النظر عن كون العازف امرأة أو رجل". تتابع "من الناحيّة الاجتماعيّة، يمكن للمرأة أن تترك أثراً أكبر عند المستمعين، كون المشهد غيرَ مألوفٍ، فيشدّ الانتباه نحوها أكثر، بالتالي نحو المحتوى الذي تقدّمه". لكن بشكل عام، لا تحبّذ فرح الذهاب باتجاه الفرق الموسيقيّة النسائيّة "لأننا بشكل أو بآخر، قد نصبّ الاهتمام على فكرة الجندرة، وعلى ميزة وجود المرأة بعيداً عن المحتوى الموسيقي الذي يشكّل العنصر الأهمّ". أما سبب تكوُّن غالبية الفرق الموسيقيّة من العازفين الرجال، تعلله فرح بما ذكرته سابقاً "أنّ النساء مغنيّاتٌ أكثر من كونهن عازفات، تاريخياً واجتماعياً"، تضيف "من الأسباب أيضاً أن أغلب الفرق الموسيقيّة تعمل في فترة الليل، ما يشكّل صعوبة حقيقيّة للنساء في مواجهة الأهل والمجتمع في هذا الجانب، الذي ما يزال مشكلةً حتى يومنا، طبعاً بنسبة أقل". تشير عازفة البزق إلى نسبة عاليّة من النساء اللواتي يعلمنَ ويعزفنَ لكن لا يشاركن في فرق "لأسباب دينيّة أو اجتماعيّة، كونهن أمّهاتٍ لأطفال مثلاً، ونقيس على ذلك أسباباً عدّة". تختم حديثها قائلة "الأمر الأكيد هو أن نسبة النساء العازفات، والمتواجدات في فرق موسيقيّة، تزداد مع الوقت، وهذا عامل مبشّر جداً".حضور النساء عبر التاريخ كان أغلبه غنائياً، بسبب ارتباط هذا الفنِّ بحياة المرأة اليوميّة، وعادات كالأعراس، الزرع وأغاني نوم الأطفال
نانسي منير موسيقية مصرية لا تعترف بوجود منافسة بين الرجال والنساء في الغناء، لأن المرأة تغني بمساحات صوتيّة مختلفة عن الرجل
"لا أعترفُ بوجود منافسة مع الموسيقيّين الرجال"
نانسي منير موسيقيّة مصرية، تعزّف على آلة الكمان، إلى جانب البيانو، الغيتار، باص، كاوالا (ناي مصريّ) وغيرها. اختارت أن تتقن العزف على آلات موسيقيّة عديدة، لإيمانها بأهمية ذلك، حتى لوّ لم تعزف عليها جميعها أمام الجمهور، لكن هذه المعرفة تساعدها في التوزيع الموسيقيّ. تعلِّل سبب حضور أغلبية النساء في الغناء مقارنة بالعزف، بأن المرأة تغني بمساحات صوتيّة مختلفة عن الرجل "بالتالي، ليس هناك مجال للمنافسة، كأنها تلعب آلات أخرى، بافتراض أن الصّوت آلة، فالنساء يعطين مساحة صوتيّة مختلفة تماماً عن الرجال، لكن هناك من يعزفنَ على آلات مختلفة مؤخراً، فتعرّفت من خلال الإنترنت على فتيات يتعلمن على غيتار باص والدرامز وآلات أخرى كان يعزف عليها الرجال أكثر، خصوصاً أنها تتطلب مجهوداً بدنياً وعضلات" تضحك نانسي. امتداداً للنقطة أعلاه، تشعر نانسي أنه بشكل عامّ من غير المفروض التفكير بالأمر من الناحية الجندريّة "حتى بوجود منافسة مع الرجال، أرفض الاعتراف بها، لأنه أوّل طريق لكسب مساحة في المجال وإنكار هذه المنافسة والتعامل بشكل احترافي وحرفي مع ما أقدّمه". تتابع "بالنسبة لي، المسألة أصعب في التوزيع الموسيقيّ، فليس دائماً يقبل الموسيقيّون الرجال الاستماع إلى رأي فتاة، خاصّة لو قصيرة القامة!" تضحك، مضيفةً "لكن الأفضل عدم التفكير بهذا الشكل، لأنه سيعرقلني، بل أفكر كيف أجهز جيداً لعرض موسيقي، وأكون واثقة من التوزيع ومن نفسي، أن تكون أفكاري مرتبة يحلّ مشاكل عديدة، حتى لو كانت الفرقة كلّها نساء أو رجال". أن تكون تركيبة الفرق الموسيقيّة بأغلبيتها رجال، لا يعني لنانسي شيئاً "بإمكاننا أن نفكر بشكل تحليلي بأغلب المشاريع الموسيقيّة الناجحة في مصر، سنجد أن الأكثر نجاحاً هي مشاريع موسيقيّة فرديّة تقودها نساء، وأمام الفرق تحديّات أخرى مثل الهويّة الموسيقيّة للفرقة وغيرها". تتابع "على قاعدة أكبر، هناك فرق كثيرة خارج المنافسة من الناحية الفنيّة، كما أنّ المشهد الموسيقيّ في مصر تتصدره مشاريع موسيقيّة فرديّة نسائيّة، بغض النظر عن الفرق الكبيرة التي أغلبها موسيقيّون رجال موجودة على الساحة منذ 15 عاماً، لكن خلال السنوات الأخيرة، لوّ بحثنا بالإنتاجات الموسيقيّة، سنجد أن الحضور شبه متعادل حسب رأيي"."عزف المرأة خاضع لنظرة المجتمع"
تعزف الموسيقيّة رامة بدارنة، 16 عاماً، من فلسطين، على آلة القانون، ومنذ الثالثة من عمرها، كانت تسمع كثيراً موسيقى عربيّة في البيت. تضيف "كنت أستمع إلى عازفين مثل منير بشير، أنور برهام وأغاني وديع الصافي، فيروز، صباح فخري، وأم كلثوم. وعندما قررت اختيار آلة موسيقيّة وأنا في السابعة من عمري، كان مزاجي يميل إلى آلة عربيّة شرقيّة". بداية، أرادت رامة أن تتعلّم على آلة الكمان الشرقيّ، كان التسجيل لها مغلقاً، ومفتوحاً لآلة القانون، وكانت عندها أصغر طالبةِ قانون في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى. ترى رامة أن النساء موجودات في حقل الغناء أكثر منهن في العزف، أما انطباعها النابع من متابعة المشهد الموسيقي الفلسطينيّ، هو أن العازفات المهنيّات واللواتي يشاركن بعروض موسيقيّة عددهن قليل جداً. "إذا نظرنا إلى الفرق الموسيقيّة في الداخل الفلسطينيّ أو الضفة، أو عازفي العروض الفرديّة أو الفرق الموسيقيّة المختلفة، أيضاً في الأعراس، نلاحظ غياباً شبه كاملٍ للعازفات" تتابع رامة "ربما السبب هو البيئة الاجتماعيّة التي تُحدُّ من تحركات المرأة وتجعلها محصورة، العزف يحتاج إلى مواظبة، تواصل وتدريبات ومشاركات والتزامات كبيرة، وإذا أراد المجتمع المرأة التي تربي فقط بالبيت، فهذا التفكير يخلق رهبة وتردداً بممارسة العزف مهنياً". تشير العازفة الفلسطينية إلى فتيات يتعلمنَ العزف على آلات موسيقيّة "لكن ذلك يكون في الصغر ويتوقف مشوارهن مع دخول الجامعة، الخطوبة ومن ثم الزواج". بناءً على ذلك، ترى رامة أن الغناء يكون مختلفاً "لأنها هي صاحبة القرار أكثر. تتواجد بمكانة مركزيّة، تقود العمل، وواردٌ أن يكون الغناء مصدر رزقها. وفي حال المغنيّات، أعتقد أن وجود هذا العدد يعود لانفتاح الأهالي بأن تكمل بناتهن الغناء". تعتبر رامة أن المغنية في فلسطين غير قادرة على الغناء كيفما تشاء "الموجود حالياً هو أداء أغانٍ كلاسيكيّة، وطنيّة وملتزمة بشكل عام. ومن ببالها أن تؤدي غناءً استفزازياً، ستلقى نقداً ومعارضة، لذلك غناء النساء محصور بأنماط معيّنة. فهذا النوع من الغناء يحافظ على عمل المرأة وتشجيع الناس لها، ولا يخلق حروباً". تتابع "كما أن الغناء التراثي عليه إجماع، لذلك لا نرى مغنيّات أعراس ولا عازفات، ولأن هذه المهنة تحتاج إلى سهرات ليليّة، لذا لن تكون أوقاتاً كثيرة في بيتها. الغناء في الأعراس يبقى لساعات متأخرة، وأغلب أجوائها ذكوريّة". "بشكل عام، دور المرأة بالعزف والغناء خاضع لنظرة المجتمع، والنتيجة أن اللون الموسيقيّ، النمط، والكلمة، كلّها خاضعة لمعايير المجتمع أيضاً". بهذا تنهي رامة حديثها."للمرأة طريقتها في التعامل مع الآلات الموسيقيّة"
تعزف الموسيقيّة لمى قاسم، من لبنان، على آلتي العود والرّق، وإلى جانب حبها لتاريخهما وجمال صوتيهما، اختارتهما لعدم وجود عنصر نسائيّ حاضر وكافٍ للعزف عليهما "ذلك في ظلّ إيماني الكبير أن للمرأة طريقتها الخاصّة في التعامل مع الآلات الموسيقيّة". ترى لمى أن حضور النساء في الغناء أكثر منه في العزف، بسبب النظرة التقليديّة السائدة في مجتمعاتنا والقائمة على حصر دور المرأة في المجال الموسيقي بالغناء "إلى جانب تهميش دورها الموسيقي بشكل قاطع في بعض المجتمعات المحافظة، على اعتبار أنّ صوتها "مُحرّم" على الرجال". بما يتعلّق بالأنماط الموسيقيّة التي تحضر فيها النساء أكثر، تقول لمى "لا زالت الموسيقى الغربيّة والأجنبيّة، في لبنان، بنظري تحتلّ المرتبة الأولى بالإقبال النسائي عليها، لأسباب عديدة، منها، الفجوة الثقافيّة تجاه تراثنا، النظرة العمياء عند بعض اللبنانيّين تجاه الثقافة الغربيّة على أنها ثقافة التطوّر والانفتاح". تعرج لمى على العلاقة القويّة بين النساء المغنيّات وأغاني التراث، خاصّة في البلاد العربيّة "لا شكّ أن التراث الموسيقي في مجتمعاتنا، والقائم على التناقل الشفهي بين النساء، خصوصاً بالأعراس أو مواسم الزرع والحصاد وغيرها، بحاجة لعنصر نسائي أكبر اليوم في ظلّ ندرته. من جهة أخرى، إن مواصلة الطريق التي بدأتها العوالم بالعصر القديم، هو استكمال مهمّ لهذا الإرث المتبقي لنا". كما لدينا نظرة تقليديّة تحصر دور المرأة في المجتمع ببعض الأعمال، أيضاً كان العزف الموسيقي محتكراً فقط على الرجال دون سبب منطقي. ذلك ماتؤكده لمى، مضيفةً "هذه النظرة لا تزال سائدة حتى يومنا هذا، رغم تحسّن الأوضاع بشكل بطيء، حتى ضمن فرق موسيقيّة تطرح مواضيع مجتمعيّة جندريّة مثل "مشروع ليلى"، وهنا لا يوضع اللوم على الفرقة نفسها، طالما أن نسبة إقدام المرأة على التعلّم على آلة موسيقيّة هي أصلاً ضئيلة". غيثاء الشّعار، موسيقيّة من سورية، تعزف على آلة العود، ومقيمة في برلين. ترى أن حضور النساء في الحالة الموسيقيّة، خاصّة بالعزف، ينطبق على كافة الجوانب الحياتيّة للحالة العربيّة، حيث ينحصر دور المرأة بالإنجاب، حسب تعبيرها. تضيف "توجد عازفات موسيقى جيدّات، لكن الضوء مسلط على العازف الرجل دائماً، ولهذا علاقة بالتربيّة أوّلاً، كما الجوّ الاجتماعيّ المتطلب من المرأة أكثر من الرجل، خاصّة بما يتعلّق بالمستقبل والأسرة وتربيّة الأطفال، هناك قضايا أسريّة الرجل متخلص منها". مشيرةً إلى رسائل غير مباشرة يمررها المجتمع للمرأة، بأن قدرتها على النجاح بما تفعل ضئيلة "هذا حاضر في الموسيقى وغيرها، نادراً ما تُمنح النساء فرصاً كي يلمعن ويعبّرن عن أنفسهن، لا بالموسيقى ولا بغيرها، هناك رسائل مخفيّة ومُحطِمة، من الأسرة، المدرسة والشارع: إنت ما فيكي، ما عندك قدرة، بالإضافة إلى السخريّة منها". تؤكد غيثاء وجود أزمة إضافيّة تؤثر على قلة وجود نساء في الحقل الموسيقيّ، وهي مركزيّة الفنّ، في سورية مثلاً، حيث أن التعليم الموسيقيّ الاحترافيّ في المدن المركزيّة فقط، وقلائل من يتحملون تكاليف التعليم الموسيقي، بالمقابل أيضاً الحركة المحدودة للنساء. تتابع "إضافة إلى الحالة الدينيّة الطاغيّة اليوم، ففي بعض المدن، تعليم الموسيقى حرام، وعلى البنت أن تتعلم ما يريد المجتمع منها فقط، وبالعموم، الفنّ مُهمَل، وأحياناً ممنوع، والموسيقى غير مهمة، كل هذه عوامل مؤثرة على المجتمع عامّة، فما بالك على النساء؟"رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين