مظلومية تاريخية حشرت المهاجرين واللاجئين (والمصطلحان يتبدلان حسب ما تقتضيه ظروف السياسة والاقتصاد في بلدان الاستضافة) في خانتين أساسيتين: إما ضحايا أو مجرمين… أما "اللاجئ-المهاجر الجيّد" فظهر في التغطية الإعلامية كحالة مستجدة واستثنائية وأقرب إلى الصدفة.
الفوز في مباراة ما، إنقاذ طفل من الموت أو العثور على مبلغ مالي ثم إعادته… سلوكيات إنسانية يرافقها في الأحوال العادية ثناءٌ وشكر، لكن عندما تصدر عن مهاجر أو لاجئ تنكسر صورة "الضحية/ المجرم" النمطية ويتحوّل صاحب الفعل إلى أشبه بـ"كائن أسطوري".
ويحصل أن يرافق تلك الأسطرة نقاش مفتوح يستحضر آثار الحروب والاستعمار والاستغلال... ويظهر مخزون عميق من عقد الدونية أو الفوقية بين أجزاء العالم المختلفة.
النقاش حول "المهاجر الجيد" والمهاجر "السيئ" تكثف مؤخراً، بعد فوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم، وما صاحب ذلك من تعليقات عزت الإنجاز إلى القارة الإفريقية التي يتحدر منها أغلبية لاعبيه، كان أبرزها تهنئة مقدم برنامج "The Daily Show" الأمريكي تريفور نوا القارة الإفريقية بالفوز ورد الفعل الفرنسي عليه.
النقاش حول فضل فرنسا على اللاعبين مقابل فضل إفريقيا على فرنسا، والنقاش بشأن الهوية الفرنسية نفسها وصراع اليمين واليسار حولها، قد يُعَدّ صحياً… لكن اللافت فيه، وما يهمنا هنا، هو السؤال حول "المهاجر الجيّد": متى يمكن أن نقول عن المهاجر/ اللاجئ إنه ذو قيمة؟ وهل يحق لنا ذلك أصلاً؟
فضلٌ لـ"الزرق" أم "السود"؟
"للفوز آباء كثر"، على ما قال جون كينيدي مرة. ومع فوز فرنسا بكأس العالم للمرة الثانية، ركّز كثر على هوية لاعبي المنتخب الذين يتحدّر ثلثاهم من إفريقيا. مثال على ذلك، وصف بينييل جوزف على موقع "سي أن أن" فوز فرنسا على كرواتيا بأنه "فوز لجميع المهاجرين"، بينما غرد صنداي أوليسيه (مدرب المنتخب النيجيري السابق) بالقول: "أخيراً فازت إفريقيا بكأس العالم لكن بألوان فرنسية"، وكتب نائب الرئيس الكيني يقول إن "المنتخب الإفريقي الوحيد يصل إلى النهائيات". ولكن أكثر مَن أثار الجدل كان المقدم الأمريكي الساخر تريفور نوا الذي استدعت تهنئته للقارة الإفريقية بالفوز رسالة اعتراضية من السفير الفرنسي في واشنطن جيرار آرو قال فيها إن "اللاعبين جميعاً، ما عدا اثنين، ولدوا في فرنسا وتعلموا في فرنسا، وهم مواطنون فرنسيون بطبيعة الحال". ونبّه السفير الفرنسي إلى أن ما يقوله نوا يعني نزع الشرعية عن فرنسية اللاعبين بشكل يدعم ما يروّجه اليمين المتطرف حول أنه "لا يمكنك أن تكون فرنسياً إلا إذا كنت أبيضَ". لم يسكت نوا. رد على رسالة السفير مدافعاً عن فكرة أن اللاعبين هم "أفارقة وفرنسيين" في الوقت نفسه، ومنتقداً تكريس فكرة "المهاجر الجيّد" كما جرى في حادثة المهاجر الكيني الذي حصل على الجنسية الفرنسية لأنه أنقذ طفلاً، وقال: "عندما تسلق الشاب المبنى وأنقذ الطفل أصبح فرنسياً، لكن تخيلوا لو أنه أسقط الطفل من أعلى، لكان بطبيعة الحال إفريقياً!". في رد السفير الفرنسي ما يبرره، وفي رد نوا، الذي قال إن الكلام الذي صدر عنه كصاحب أصول إفريقية منطقي لكنه لو صدر عن رجل أبيض لكان مذموماً، ما يبرره كذلك، ولو أن الأخير سقط في العديد من المغالطات ومنها الاحتفاء بالتنوع الأمريكي، مُخرجاً إياه من سياقاته التاريخية والحالية. وشغل النقاش العديد من المحللين. كتبت كارين عطية في "واشنطن بوست" أن "مخاطر تسليط الضوء على فضل إفريقيا بالفوز تشكل خطراً على المهاجرين أنفسهم". كيف ذلك؟ هذا الاحتفاء، حسب عطية، يكرس فكرة أن "المهاجرين السود عليهم أن يكونوا كائنات خارقة للطبيعة ليستحقوا الانتماء إلى المجتمع الأبيض". الأمر نفسه أشار إليه غريغوري بييرو، لكنه ذهب بعيداً بالقول إن "فرنسا، وليس المنتخب فحسب، تدين بكل شيء لإفريقيا"، انطلاقاً من تاريخ الدولة الأوروبية الاستعماري في القارة السمراء. في المقابل، وجد باتريك غاثارا في سعي إفريقيا إلى انتزاع حصة من هذا الفوز أمراً خطراً كذلك، ولكن أسباب الخطر التي استعرضها تختلف عن الأسباب التي قدّمتها عطية. برأيه، "يتيح هذا الاحتفاء بفوز إفريقيا فرصة لقادة القارة السمراء غير الكفوئين للتباهي بإنجازاتهم، بدلاً من السعي إلى أن يفسّروا لمواطنيهم أسباب اضطرار أبناء تلك القارة للهجرة والمخاطرة بحياتهم في البحر من أجل اختبار النجاح في دول أخرى". يستذكر غاثارا ما حصل عام 2008، مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض كأول رئيس أمريكي أسود. حينها احتفلت كينيا بهذا الإنجاز، وأعلنت يوم انتخاب أوباما يوم عطلة رسمية. يقول الكاتب إن أوباما لو بقي في كينيا لما كان له أن يصبح ما أصبح عليه، داعياً كينيا والدول الإفريقية الأخرى إلى بدء البحث عن أجوبة لمشاكلها وفساد حكامها بدلاً من ركوب موجة الفوز الذي شارك بتحقيقه مَن فرّوا هرباً منها."مهاجر جيّد"/ "مهاجر ناكر للجميل"... محاذير "أسطرة" المهاجرين
يعكس النقاش أعلاه جانباً من الحقيقة وجانباً آخر من الاستعلاء المتحايل على تاريخ الاستعمار، لكنه يفتح الباب أمام سؤال أساسي: "متى يكون المهاجر ذا قيمة؟". قد يحمل ما قدّمته الكاتبة مايف هيغينز في مقال نشرته صحيفة "الغارديان" جانباً من الإجابة. تقول هيغينز، التي تكتب عن شؤون الهجرة واللجوء، بشكل واضح: "لا ينبغي أن تصنف أحداً بأنه ذو قيمة فقط لأنه قام بشيء قيّم بالنسبة لك". وتضيف أنها سُعدت بفوز فريق فيه مهاجرون من أنغولا والجزائر والكاميرون والمغرب والكونغو وزائير، ولكن مهلاً فـ"مَن يقوم بالتركيز على فوز هؤلاء باعتباره قضية هجرة، يساعد من دون قصد القوميين البيض على تعزيز نظريتهم بأن هناك قيمة أكبر لحياة إنسان دون آخر".تسليط الضوء على فضل إفريقيا بفوز فرنسا بكأس العالم يشكل خطراً على المهاجرين، لأنه يكرّس فكرة أن "المهاجرين السود عليهم أن يكونوا كائنات خارقة للطبيعة ليستحقوا الانتماء إلى المجتمع الأبيض"
الاحتفاء بفوز إفريقيا بكأس العالم، بعد فوز المنتخب الفرنسي به، هو فرصة لقادة القارة السمراء غير الكفوئين للتباهي بإنجازاتهم، بدلاً من السعي إلى أن يفسّروا لمواطنيهم أسباب اضطرار أبناء تلك القارة للهجرةتتباهى هيغينز ساخرة بأنها من فئة "المهاجرين الجيّدين"، فقد حصلت على جائزة "آلكسندر هاملتون" التي تحمل اسم أحد مؤسسي الولايات المتحدة، لمساهمتها القيمة في مانهاتن ونيويورك، وتقول ساخرة أيضاً: "بصفتي أفضل مهاجرة في المدينة، هل يمكنني أن أطلب منكم وقف تقسيم اللاجئين بين جيّد وسيء… رددوا ورائي: لست مهاجراً جيداً أو سيئاً، أنا مجرد إنسان". وكتبت هيغينز: "هاملتون نفسه كان مهاجراً، وعلينا أن نعترف باستثنائيته، ولاعبو المنتخب الفرنسي مهاجرون، ولا بد أيضاً من أن نعترف باستثنائيتهم التي قدّموها من خلال الحظ والموهبة والعمل الشاق، ولكن التوقيت مثير للقلق. بينما كان يتابع العالم إنجازات هؤلاء، غرق خلال شهر يونيو أكثر من ألف شخص كانوا يحاولون الهرب من إفريقيا إلى أوروبا عبر البحر. حصل ذلك بينما كان العالم يتابع اللعب الجميل، وبينما كان ترامب يحذّر أوروبا من ‘عار اللجوء’ ومن ‘خطره على ثقافات المجتمعات الحاضنة’". تجاهل العالم حوادث الظلم اللاحقة بالمهاجرين، كما تجاهل أن هؤلاء جميعهم جيّدون إذا ما قيسوا بميزان حسناتهم على اقتصاد الدول المضيفة. ولكن، والكلام لهيغينز، فإن التمييز بين اللاجئين ليس فقط أمراً لاأخلاقياً بل هو أمر منافٍ للعلم، فـ"نحن لا نعرف أياً من هؤلاء قد يصبح استثنائياً في المستقبل". الأمر أبسط من فوائد الاقتصاد والإنجازات وفقاً للكاتبة، فـ"أن يكون مطلوباً منك بشكل دائم إثبات حقك بالحصول على بديهيات الكرامة الإنسانية لهو أمر مرهق وظالم، فعندما تجرد الآخر من إنسانيته تتجرد منها بدورك، وحين تعطي للإنسان قيمة فقط لأنه ذو قيمة بالنسبة إليك سواء في العلم أو الرياضة أو الاقتصاد، وتنسى أن قيمته الأساسية تنبع من كونه إنساناً، "ستحصل لك أمور سيئة جداً". في السياق ذاته، قد تكون شهادة الإيرانية دينا نايري المطوّلة التي تحكي فيها عن صراعها من أجل التأقلم ومحاولاتها المستمرة لإثبات استحقاقها للوطن الجديد (أمريكا)، والأهم عن إشعارها الدائم بضرورة إظهار الامتنان الأبدي لمَن استضافها، شديدة التعبير. تعرّف نايري نفسها ساخرة كـ"لاجئة ناكرة للجميل"، وتقول: "في النهاية، لم نكن بالنسبة إلى هؤلاء الأمريكيين إرهابيين أو إسلاميين متطرفين أو مجرمين عنيفين. منذ البداية، علموا أننا عائلة مسيحية هربت من أولئك المتطرفين. وهم، كمجموعة بروتستانتية، قبلونا وأنقذونا. ولكن كان ثمة شروط خفية لهذا القبول، كان ذلك هو السر الذي علينا أن نستخلصه بأنفسنا: كان علينا أن نكون ممتنين دائماً". وتضيف في مكان آخر: "إنجازاتي يجب أن تُنسب إليّ وحدي. لا يجب سؤالي عما إذا كنت أستحق مكاني، عبر إظهاري كما لو كنت رهاناً جيداً… ما قامت به أمريكا كان واجباً إنسانياً بديهياً، واجب كل إنسان وُجد في غرفة آمنة بفتح الباب لمَن يهرب من الخطر. واجبه أن يفتح لنا، حتى ولو لم نقدّم له قصص نجاح بطعم السكر، حتى لو بقينا لاجئين عاديين، في بعض الأحيان مزعجين أو نشعر بالإرباك". وتختم نايري بالقول: "لأن حياة كل شخص لا يمكن أن تُعَدّ بمطلق الأحوال استثماراً سيئاً، وحتى لو لم يكن هناك دائنون يدقون الباب، فلا دين يجب أن يُدفع. هناك فقط بقية من حياة، قصص تنتظر أن تُعاش، الكثير من الأيام الفوضوية، الجشعة، العادية التي تنتظرنا هناك لتبديدها" (يمكن الاطلاع على شهادة نايري المترجمة كاملة هنا).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه