خلال افتتاح منتدى أوسلو للحرية نهاية الشهر الماضي، أثيرت قضيتان جدليتان حول الحرية، أولهما قول البعض إن ثمة مجتمعات غير جاهزة للديمقراطية! والثانية: هل أمريكا دولة حرة ولماذا لا ينتقدها الناشطون في قضايا الحرية مثلما ينتقدون غيرها؟ ثمة علاقة بيننا نحن العرب وبين هاتين المسألتين، فالحرية والديمقراطية فقدتا قدراً من شعبيتهما بعدما نجحت الثورات المضادة في تحويل ثورات الربيع العربي الى حروب أهلية وقتل وموت ودمار. بيننا مثقفون سلطويون مستفيدون، وآخرون منهزمون يقولون إن الديمقراطية غير مناسبة لنا! وذهب بعضهم للقول إن العقل العربي أصلاً غير جاهز لها. ويمضي الليبرالي منهم إلى الحديث عن التراث الإسلامي وافتقار تاريخنا إلى تجارب ديمقراطية لتبرير قوله، أما السلفي الحكومي منهم فلديه مادة هائلة من أقوال فقهاء تحرّم الديمقراطية وتعتبرها تعدياً على حق الله في التشريع، نفس الاستشهادات التي تستخدمها القاعدة وداعش. ولكن كليهما يقف على طرفي نقيض ومستعد لقتل الآخر.
وبالطبع، المدنيون هم الضحايا ومعهم أفكار الحرية والعدالة والمشاركة والعيش الكريم. أما مسألة أمريكا وانتهاكها للحرية فهي قميص عثمان، يرفعه أعداء الحرية في العالم العربي، ومعه ذلك القول المزعوم لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون: "عندما تتعرض بلادي للخطر، لتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم"، وهو قول كُذّب عشرة آلاف مرة ولكن لا يزال السلطويون العرب يستخدمونه بدون حياء لتبرير الجرائم التي يرتكبها كل يوم طغاتهم المفضلون. في كلمته الافتتاحية، عرج مؤسس المنتدى ثور هالفورسن على سؤال "هل الديمقراطية غير مناسبة لبعض الشعوب؟"، وهو سؤال يستحق أن يوصف بالأحمق.
في رده على ذلك، استخدم هالفورسن حقائق جلية لشعوب انقسمت بين نظام دكتاتوري وأخرى تعيش ديمقراطية مزدهرة، أبرزها جنوب وشمال كوريا. فالشعب الكوري واحد بثقافة واحدة وكان أيضاً شعباً واحداً حتى قبيل سبعة عقود. بالطبع ثمة فارق هائل بين الديمقراطية في كوريا الجنوبية التي أضحت أساس الحكم، ومدى تغلغل ثقافة الاستبداد في الشمال حيث يقف الشعب على جنبات الطريق ينوح ويلطم بينما جثمان الدكتاتور يمر أمامه، ولا يتردد في اليوم التالي من التصفيق والتهليل لابنه الذي يتسلم الحكم من بعده في جمهورية تسمي نفسها "ديمقراطية شعبية". إنها قوة الحزب الواحد وإعلامه وبندقيته. الصين نموذج آخر.
لا يوجد فرق ثقافي بين تايوان الديمقراطية وبين الصين الأم التي يحكمها بصرامة حزب واحد، بل إن كثيرين من أبناء تايوان قدموا من الوطن الأم فراراً من الشيوعيين بعد انتصارهم هناك. مَن استقر في تايوان اعتمد الديمقراطية كنظام حكم فتمرس عليها، مثل الكوريين الجنوبيين، ولم تكن ديمقراطيتهم الوليدة كاملة، ولكنها اليوم بعد عقود صارت ديمقراطية فعالة. الشاهد هنا أن العرب قادرون على إجادة الديمقراطية، شرط أن يمارسوها ويقبلوا بنتائجها. فعدم القبول بنتيجة الانتخابات هو ما أسقط التجربة الديمقراطية في مصر وليبيا. الديمقراطية هي أن تقبل بالنتيجة حتى لو أفضت إلى فوز رئيس تبغضه مثل الرئيس المصري المنقلب عليه محمد مرسي والأمريكي دونالد ترامب.
جمال خاشقجي في رصيف22: كمال شرط "تحريم الخروج على ولي الأمر منعاً للفتنة" الذي يتحدث عنه السلفيون ينطبق أكثر على الحاكم المنتخب
جمال خاشقجي في رصيف22: علاقتنا بالجدل حول مدى مصداقية الحرية في أمريكا وتحوّل بعضنا إلى نوام تشومسكي في المجالس والمقاهي، ينطبق عليه المثل الشعبي "فقير ويتشرط" فنحن لا ننعم بديمقراطية ولا حرية وننشغل بنبش صور التقصير في أمريكا!ترامب بات محل سخرية ونقد من قبل قطاع كبير من شعبه، ويتمنى ملايين الأمريكيين لو يسقطونه. ولكن هناك ملايين آخرين ودستوراً ومؤسسات تمنع "الخروج" عليه بالقوة. انتبهت للتو إلى المعنى الحقيقي لذلك المفهوم السلفي العتيق "تحريم الخروج على ولي الأمر منعاً للفتنة". إن كمال هذا الشرط المنطقي ينطبق أكثر على الحاكم المنتخب مثل دونالد ترامب، خاصة أن الدولة الأمريكية الديمقراطية وفرت أدوات "شرعية" لإسقاط الرئيس وهي الانتخابات القادمة بانتخاب غيره. ولمَن لا يطيق صبراً، وفّر الدستور الأمريكي سلسلة إجراءات دستورية يمكن من خلالها "خلع" الرئيس، وهي مسألة مطروحة بقوة هذه الأيام في أروقة الحكم الأمريكي.
هذه الحقائق الأمريكية تنقلني إلى الموضوع الجدلي التالي الذي أثير في جلسة افتتاح منتدى الحرية في دورته العاشرة، وذلك عندما سأل أحد الحضور عمّا إذا كان المنتدى يرى أن الولايات المتحدة لا تزال ضمن خريطة الدول الحرة؟ وضوح الرؤية جيد، وهو المنطق الذي استخدمه دون مجاملة رئيس المنتدى ثور هالفورسن، وهو موصوف بأنه مدافع عن الديمقراطية والحرية ومنتقد لأي انتقاص لها يأتي من اليسار أو اليمين، إذ رد بدون مجاملة أن الولايات المتحدة بلد حر "فطالما أنه تجري فيها انتخابات حرة ويحكم فيها القانون، ويتمتع مواطنوها بحرية التعبير والصحافة فهي بلد حر".
السائل لم يقتنع وأخذ يعدد بعض التجاوزات على الحرية التي تحصل في أمريكا، وأحسب أن أكثر من قارئ سيوافقه ويضيف مستشهداً بتأثير الشركات الكبرى والمال السياسي، ولوبيات الضغط، وسينتهى إلى العنصرية ضد السود وإبادة الهنود الحمر! لذلك أعجبني رد المعارض الروسي جيري كاسباروف. نعم، هو بطل الشطرنج العالمي الذي كان على المنصة كرئيس لمنظمة حقوق إنسان ويبدو أنه شريك أساسي في منتدى أوسلو. قفز بحماسة وغضب مشيراً إلى أن جزءاً من جسده، لا يمكن ذكره في المقال، "كما لو أصابه حريق" وأضاف: "أنت تهرب من الحقيقة التي نريد أن نوضحها هنا وهي الحرية، هناك تجاوزات في الدول الديمقراطية ولكن يمكن إصلاحها، الشعب الأمريكي يستطيع تغيير ممثليه في انتخابات نوفمبر القادمة (ينتخب نصف أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وقتها) ولكنني لا أستطيع أن أغيّر (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين". علاقتنا بالجدل حول مدى مصداقية الحرية في أمريكا وتحول بعضنا إلى نوام تشومسكي في المجالس والمقاهي، ينطبق عليه المثل الشعبي "فقير ويتشرط" فنحن لا ننعم بديمقراطية ولا حرية وننشغل بنبش صور التقصير في أمريكا! الكلمة الأخيرة هي أن العرب جاهزون للديمقراطية حتى لو كانت "سيئة"، مثل الأمريكية منها، والحق أنها ليست سيئة بل هي الأفضل، فمنذ تأسيس الولايات المتحدة قبل أكثر من 200 عام لم تتعطل الانتخابات فيها مطلقاً بل جرت بانتظام كل عامين، العرب بحاجة إلى شيء كهذا كي يخرجوا من قعر زجاجة لبثوا فيها ألف عام وأكثر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...