في حي المنيل، حيث الهدوء هو الصفة الرئيسة للمكان وأصحابه وحتى زواره، استيقظ الأهالي على مشهد مغاير، على صرح فني جديد يتهاوى. إنه سينما فاتن حمامة التي وقفت من قبل شاهدة على إبداعات نجوم كثر، وهي تسقط اليوم في مشهد مأسوي.
حالة كبيرة من الغضب انتابت المصريين على اختلافهم فور علمهم بقرار الهدم، غير أن اللواء محمد زين العابدين، رئيس حي مصر القديمة، رد على موجة الانتقادات التي صاحبت قرار الهدم، بأن المبنى ملكية خاصة لعدد من الأهالي وليس ملكية عامة أو تابعاً للدولة، ومن ثم لا يوجد أي عائق أمام هدمه.
كما نفى ما تردد بخصوص أثرية المكان، وشدد على أن المبنى غير مدرج بقائمة مباني التراث المعماري التي يحظر هدمها.
خندق واحد
الفنان والسينارست محمود البزاوي كان أول المندفعين فكتب على صفحته عبر "تويتر": "الهدم طريق للخراب، عشان نفضل ماشيين في سكتنا اللي دايما طريقها الخراب وهي أن مفيش حاجة ليها قيمة في مجتمعنا غير الفلوس". وتلاه المخرج مجدي أحمد علي فكتب في "فيسبوك": "هل يتحرك أحد لوقف هدم مزيد من دور العرض بدلاً من البناء؟ وهل من سبيل لإنقاذ الذكريات ولحظات البهجة التي منحتها (ميراندا) لطفولتنا المغدورة؟". فيما دخل أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية على الخط ووصف عملية الهدم بأنها "إهدار للتاريخ". وأكد النقيب في مداخلة هاتفية لبرنامج مساء dmc أنه لا يمانع الاستثمار لكن لا بد من الحفاظ على السينما، مؤكداً أن النقابة تطالب ليل نهار بإقامة دور عرض في كل المحافظات ضمن الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب والتطرف فكرياً."الهدم طريق للخراب، عشان نفضل ماشيين في سكتنا اللي دايما طريقها الخراب وهي أن مفيش حاجة ليها قيمة في مجتمعنا غير الفلوس"
"حاولت كثيراً أن أقنع نفسي بالمبررات التي يسوقها السادة المسؤولون لهدم أو إغلاق أي دور عرض فني، لكني فشلت لأن ما يقولونه لا يستقيم مع أي منطق أو واقع"وقالت المخرجة ماجي أنور، رئيسة ومنظمة مهرجان فاتن حمامة السينمائي، إنها حاولت على مدار أربع سنوات إيقاف محاولة الهدم، عن طريق حق الانتفاع من المالك الأصلي، أو حتى الشراء، ولكن كل محاولاتها فشلت. وأضافت: "كررت طلب استغلال السينما أو شرائها بالمشاركة مع شركائي الأوروبيين حتى نحافظ على مبنى السينما كما هو، ولكن أيضًا لم يرد علينا أحد، حتى وجدنا جدران السينما تنهار في ليلة واحدة".
هدم التاريخ
في يوم 29 ديسمبر عام 1984 تم افتتاح سينما فاتن حمامة لأول مرة، بقرار من وزير الثقافة وقتها عبد الحميد رضوان، كان الحدث فريداً، فلأول مرة يعرف المصريون سينما قطاع عام من الدرجة الأولى باسم إحدى نجمات السينما المصرية. اختارت وزارة الثقافة فاتن حمامة تقديراً لها على مشوارها الفني الممتد، وفي ليلة الافتتاح حضرت "سيدة الشاشة" إلى جوار العشرات من الشخصيات البارزة في المجتمع، لتقص شريط السينما، التي اعتمدت على أحدث ماكينة للعرض، جاءت خصيصاً من ألمانيا. كانت السينما تتسع لنحو 1100 شخص، وهو رقم كبير مقارنة بدور العرض الآن، وفى ليلتها الأولى شهدت الدار عرض فيلم "عندما يبكي الرجال" الذي لعب بطولته النجم الكبير فريد شوقي. مرت سنوات، كان للسينما فيها مفعول السحر على جمهورها من شتى الفئات، حتى جاء يوم 31 يناير عام 2015، وأعلن رسمياً إغلاق السينما، إذ فوجئ الجمهور بلافتة "للبيع" تتصدر الواجهة، وقيل وقتها إن فترة تعاقد الشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائي التي استأجرت السينما قد انتهت، وبالتالي لا بديل سوى بيع السينما. وعلى مدار ثلاثة أعوام متلاحقة، تدهورت حالة المبنى حتى تحول لمخزن للأغراض القديمة ومكان لركن الدراجات البخارية، وهو الأمر الذي لم يلق قبولاً لدى أصحاب الدار، فقرروا بيع الأرض، ليتكرر من جديد سيناريو بيع دور العرض القديمة وتحويلها إلى أبراج سكنية ومشاريع استثمارية لجنى المزيد من الأرباح.ما هو السبب؟
الناقد الفني كمال القاضي علق على ما جرى وقال لرصيف22: "هدم سينما فاتن حمامة ليس حدثاً عابراً ولا يجب أن يكون كذلك، القضية بالأساس قضية اجتياح للمشروعات الثقافية من قبل أشباح يفككون المنظومة الثقافية والفكرية التي تأسست في الستينيات، وكان لها الفضل الأكبر في تعميق المشروع التنويري الحضاري الأهم في القرن العشرين. فقد أنجزت ثورة يوليو كل الصروح الثقافية التي أنتجت الإبداع المصري، وكانت نموذجاً يحتذى به في المنطقة العربية، لقد أنشأت ثورة يوليو أكاديمية الفنون والمؤسسة العامة للسينما التي أنتجت بدورها أهم الأفلام السينمائية التي كانت سفيراً للثقافة المصرية في الخارج، والمدهش أنه في الاحتفال بذكرى ثورة يوليو يتم العمل للتخلص من المنجزات الثقافية بشكل فج بما يعني أن كل تراثنا الثقافي بات في خطر إذ عرفت معاول الهدم طريقها إليه" . أما الشاعر والناقد عبد الفتاح سالم فقال: "السينما دائماً هي مرآة أي مجتمع، فإنك تستطيع أن تتعرف على المجتمع من خلال أعماله الفنية، والسينما الخاصة به، لذا فإن تشييد دور العرض أمر مهم للغاية، ولا بد أن تنظر له كل الدول بعين الجدية، وتبدأ في بناء هذه الدور، للتعرف على المجتمعات المختلفة". ويتابع لرصيف22: "هدم دور العرض يؤثر بالسلب على ثقافة المجتمع، فيحوله إلى مجتمع جامد لا مرونة فيه، فالسينما هي إحدى القوى الناعمة، واليوم نحن نقتل القوى الناعمة، ونغلق حلقة الوصل بيننا وبين المجتمعات الأخرى، ناهيك بكون هدم دور العرض والأماكن المعروفة والتي أصبحت رمزاً من رموز المكان الذي تقع فيه، يعني هدم هوية المكان وماهيته. إن الفن هو أسمى ما يمكن أن ينتجه الإنسان، ولولا وجود الفن في حياتنا لأصبحنا أصناماً غير قادرة على الشعور والبحث عن الجمال وتذوقه، وفهم معانيه ورسائله. فالفن رسالة تربية وتنشئة للكبار قبل الصغار، فكيف نهدم إحدى وسائل التربية، التي من الممكن أن تكون سبباً في التعامل مع الأزمات بطريقة جيدة تبعد تمام البعد عن الوحشية والعنف؟". وقال المخرج أحمد راضي إن قرار هدم سينما فاتن حمامة لن يكون الأخير، وأضاف لرصيف 22: "العالم كله يتوسع في إقامة دور العرض وبالتالي علينا أن لا نتخلف عن هذا الركب، ونقيم المزيد من دور العرض، لا أن نقف لها بالمرصاد، ونتركها عرضة للبيع والشراء، لتحقيق المكاسب المادية، خصوصاً أننا نؤكد دوماً أن الفن قوة ناعمة، والسينما تحديداً أسهمت فى تكوين الشخصية المصرية، وأثرت فيها بدرجة كبيرة".صعيد بلا سينما
إذا تصفحت المواقع الفنية الكبرى حول العالم، تلفت انتباهك الأخبار المتداولة بين الحين والآخر عن افتتاح دور جديدة للعرض، من منطلق أن السينما سلاح سحري قادر على التغيير والتأثير بل النفاذ إلى القلوب والعقول، بينما هنا ما زلنا نقف في منطقة رمادية بين التأكيد على أهمية السينما وواقع مرير يفرض هدم دور العرض وإغلاقها دون أي تعويض، حتى باتت محافظات كاملة في صعيد مصر بلا سينما أو مسرح. وقال الصحافي عزت البنا وأحد أبناء محافظة المنيا: "مسألة الهدم شيء مشين في جبين الثقافة المصرية". وقال المخرج إسلام محمود أحد أبناء محافظة الأقصر: "حاولت كثيراً أن أقنع نفسي بالمبررات التي يسوقها السادة المسؤولون لهدم أو إغلاق أي دور عرض فني، لكني فشلت لأن ما يقولونه لا يستقيم مع أي منطق أو واقع". وأضاف لرصيف 22 : "محافظة بنى سويف،!التي تحتضن حوالى 5 ملايين مواطن، لا توجد بها أي سينما، بعد إغلاق سينما النصر وسينما قصر الثقافة الصيفي، ما دفع الناس إلى السفر إلى محافظات أخرى لمشاهدة الأفلام الجديدة. نفس الأمر تكرر في أسيوط، حيث تعرضت سينما "رينسانس" للتخريب والدمار على يد الجماعات المتطرفة بعد فض اعتصام رابعة، وبالرغم مما قيل وقتها إن السينما تخضع لعمليات الترميم لتحديد موعد لافتتاحها، إلا أن الشائعات التي تتردد هناك تفيد بأن المبنى بيع لأحد رجال الأعمال لتحويله إلى مول تجاري".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...