إذا كنتم من سكان منطقة وسط البلد بالقاهرة أو من الزائرين العرب القاطنين بأحد فنادقها، فلا بد من أنكم لمحتم ذات مرة لافتة تعلو السوق الأشهر والأقدم في المنطقة، كُتب عليها بالعربية "سوق باب اللوق" بجوار الفرنسية "Marché De Bab-el-louk" وتاريخ إنشائه الذي يعود إلى عام 1912.
وسط ميدان الفلكي الشهير الذي يقع بالقرب من مبنى الجامعة الأمريكية القديم بمنطقة وسط البلد، يقبع السوق العتيق الذي تبلغ مساحته 6200 متر مربع، ويقع ضمن دائرة أملاك عائلة حسين أحمد عيسى التي تشمل عدة عقارات بالمنطقة ومناطق أخرى.
105 أعوام قد مرت على بناء السوق على أيدي المهندسين الألمان بأموال فرنسية على غرار أسواق "لا هال/ La Halle" الباريسية الأصل، وتعني الكلمة بالعربية "القاعة"، علماً أن هذا النوع من الأسواق يمتاز بشكل الجمالون أعلاه "السقف الهرمي".
الباحث والمصور الفرنسي "باسكال جاريت" كان ضمن أشهر من تناولوا السوق كموضوع، وأنشأ موقعاً فرنسياً خاصاً باسم السوق العتيق www.bab-el-louk.org.
ولأن المبنى المهيب قد بني في العهد الملكي لمصر قبل قيام ثورة 23 يوليو عام 1952، فقد كان اليهود المصريون يتمتعون بكامل حقوقهم كمواطنين، وهو الأمر الذي تغير مع ثورة يوليو، وكانوا يشتهرون بالعمل في التجارة والمشروعات الكبيرة، فقد أسس السوق يهودي مصري يُدعى يوسف أصلان قطاوي وشاركه فيه ملاك آخرون من الأجانب.
قطاوي وشركاه أنشأوا شركة مساهمة سُميت بـ"شركة أسواق الخضار العمومية المصرية المساهمة" وكان متوسط بدل إيجار المحل التجاري في أوائل الأربعينيات هو 12 جنيهاً في السنة.
وطبقاً لعبد الرحيم محمد، 82 عاماً، مالك مطبعة صغيرة عتيقة بالدور العلوي من السوق، فإن الصحفي المصري الشهير مصطفى أمين ورسام الكاريكاتور محمد عبد المنعم رخا، كانا يستأجران معاً غرفة في أوائل أربعينيات القرن الماضي مقابل جنيه واحد شهرياً، ويضيف "عبد الرحيم" أن الأحوال تغيرت بحلول العام 1944 بعدما اشترى الشركة رجل يدعى "حسين أحمد عيسى" وأجرى حينها بعض التعديلات الإيجارية وتم تغيير العقود المُبرمة مع المستأجرين بكتابة اسمه كمالك السوق الجديد بدلاً من يوسف قطاوي وشركائه.
وسط أكوام من الكتب وأوراق الجرائد الصفراء القديمة، ومجموعة من البطاقات الخاصة بزبائن المطبعة يجلس الرجل الثمانيني على مكتبه الخشبي القديم ويبدو عليه بعض آثار الأتربة، ويقول: "بعدما اشترى حسين عيسى السوق أجرى عدة إصلاحات، فأنشأ بالبدروم الذي يقع تحت الأرض ما يسمى بـ"وابور الثلج" وهو مصنع صغير أعد خصيصاً لتجهيز الثلج، إلى أن تلفت محتوياته وأُهملت بعد وفاة عيسى عام 1949.
يحكي الرجل مسترجعاً ذكريات الزمن وبجواره مروحة كهربائية صغيرة 3 ريشة لم تعد تُصنًع هذه الأيام، قائلاً "بعد وفاة حسين جاء ولده سيد حسين ليرث السوق، ويُجري عدّة إصلاحات هيكلية أخرى من أهمها تعلية الطابقين الثاني والثالث بعد أن كان السوق يتكون من دور أرضي ودور أول فقط".
الأدوار العليا التي استحدثت، استخدمت كورش لصناعة الأحذية والحقائب الجلديّة واشتهر السوق شهرة كبيرة بهذه الصناعات وكان يأتي إليه الزبائن وأصحاب المحلات الصغيرة من كل المناطق المجاورة، بحسب عبد الرحيم، مشيراً إلى أن الدور الثاني ما زال به العديد من أصحاب الورش الصغيرة للمصنوعات الجلدية كالأحذية والحقائب النسائية والرجالية.
أول مول تجاري في مصر
فوزية التي أسست محلها الصغير فى 1980 بالدور الثاني من السوق تقول لرصيف 22 إنها كانت تعمل في البداية في تصنيع وبيع الحقائب الجلدية، لكن بعدما تغير الحال عملت في مجال الملابس. وتضيف "سوق باب اللوق يعتبر أول مول تجاري في مصر، وتخصص أساساً في إنتاج وبيع المصنوعات الجلدية من حقائب بجميع أنواعها وأغراضها، للأحذية والأحزمة، واختصت الأدوار العليا بورش ودكاكين صغيرة للتصنيع والدور الأرضي لبيع ما يُنتج". "أيام الملك فاروق كان هناك مكان لمرور الترام، وأصبح السوق حينها بمثابة "مول" كبير تُباع فيه البزات القديمة والمستعملة"، تقول فوزية، وتضيف أن الأحوال قد تغيرت كثيراً وبدأ الركود الاقتصادي في الزحف بسبب ارتفاع الأسعار، بجانب اتجاه المصريين لشراء الملابس والمنتجات الجاهزة من المصانع الكبيرة، وعدم اللجوء لورش التصنيع اليدوية الصغيرة التي تنتج منتجات أجود، لكن عادات المستهلكين تغيرت بحسب قولها.الثورة وحريق السوق
تشير صاحبة محل الملابس حالياً، إلى أن النيران التهمت أجزاءً كبيرة من السوق عقب ثورة 25 يناير وتحديداً يوم 22 نوفمبر بالتزامن مع الأحداث المعروفة بـ"محمد محمود الأولى" والاشتباكات التي حدثت بين المتظاهرين وقوات الأمن، وحينها سُرقت بعض المحال التجارية وتلفت البضائع. وبحسب فوزية، يأتي العديد من طلاب الجامعة الأمريكية إلى السوق لتنفيذ وتصوير أفلام تسجيلية عن السوق، ويزوره باستمرار بعض الصحفيين والباحثين والمصورين الأجانب، ومن جهة أخرى فالأجانب والعرب يعتبرون من الزبائن الدائمين على السوق لشراء معظم مستلزمات الطعام من خضروات ولحوم وأسماك، في المنطقة التي تشتهر بوجود الأجانب فيها.نزاعات الملكية
السوق الشهير له تاريخ نزاعي طويل يمتد بامتداد عمره الذي وصل إلى 105 أعوام، يقول اللواء محمود عيسى أحد ورثة عائلة عيسى الذين وصل عددهم إلى 88 وريثاً، إنه بعد وفاة سيد حسين عيسى وكثرة أعداد الورثة وزيادة النزاعات فيما بينهم، خاصة بعد أن تدهور حال السوق وأصبح المستأجرون لا يدفعون بدل إيجار المحلات، تم تعيين صلاح عيسى شقيق والده كأول حارس قضائي لدائرة الأملاك. ويشير إلى أن سوء الإدارة أدى لرفع دعاوى قضائية لسحب الحراسة القضائية وإسنادها له بجانب سيدة أخرى من العائلة، وبالفعل وافقت المحكمة ثم حدثت انقسامات أخرى ظلت قائمة حتى عام 2004 وانتهت بتعيين حارس قضائي جديد من المحامين المُقيدين بجداول وزارة العدل المصرية، وتكون وظيفته تولي مهام الإدارة وتحصيل وتوزيع لإيجارات المحلات."يجب أن ندرس قيمته التاريخية لاثبات أنه يستحق التطوير لإقناع الدولة بذلك، بدلاً من هدمه وبناء سوق جديد"يشكو اللواء المتقاعد من سوء إدارة المحامي المُعيّن على دائرة الأملاك، ويضيف أن هناك تعديات تمت في السوق بالإضافة لتنازلات مستأجري المحلات لآخرين بدون علم المالك وبدون وجه حق "والحارس الحالي لم يعترض على ذلك في مقابل الاستفادة المادية"، على حد قوله.
الحكومة: السوق تاريخي لكنه ملكية خاصة
بعد أن كان السوق يُكنس ويرشّ في العهد الملكي 3 مرات يومياً، تتراكم به الآن القاذورات ولا تجد من يزيلها، خالد بهجت نائب رئيس حي عابدين وهو الحي التابع للسوق، يرى أن السوق ملكية خاصة وبالتالي ليس للحكومة علاقة به، إلا أن العديد من مستأجري المحلات أبدوا اعتراضهم على ما وصفوه بالإهمال الحكومي المتعمد، فهم يرون أن ملكيته الخاصة لا تعني تركه بلا صيانة أو إهمال تنظيفه دورياً، فالملاك لهم حق الإدارة والملكية، أما الحي فله دور إشرافي بتجميع القمامة وصيانة الصرف الصحي وحل مشاكل انقطاع المياه. لم يتلق المُلاك أية عروض لتطوير السوق سواء من الحكومة أو من رجال أعمال أو من جهات مانحة، ويتمنى اللواء عيسى أن يعرض أحد عليه مقترح للتطوير، كما يقترح استصدار تعليمات أو حكم لإدارة السوق على غرار نظام قانون "اتحاد الشاغلين" بحيث يستطيع المالك تحصيل قيمة شهرية للصيانة والمساهمة في تطوير وصيانة المبنى.تهديد الهدم
تقول سهير حواس أستاذة العمارة بكلية الهندسة جامعة القاهرة، عضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، إن السوق صُمم على غرار عدة أسواق كانت في عدة مناطق في العالم في تلك الفترة، فمصر كانت سبّاقة في دخول عصر التصميمات الحديثة والإنشاءات الحديدية، لكن الحال تغير كثيراً بعد إزالة محطة مترو باب اللوق التي كانت بجوار السوق وكانت محطة رئيسية يأتي إليها التجار والمواطنون من المناطق كافة لشراء مستلزماتهم بأسعار تنافسية. وتضيف في حديثها لنا أن إزالة محطة المترو بجانب انتشار "السوبر ماركت" أو الأسواق الكبيرة المجمعة على الطريقة الحداثية أدت لإزاحة التركيز عن السوق العتيق وانحسر حجم التردد عليه تدريجياً إلى أن أصبح كما هو حاله الآن، فهو يعاني حالياً أشد المعاناة بسبب انتشار التعديات عليه والبناء المخالف، فضلاً عن انحراف نشاطه الرئيسي لتصبح ممراته عبارة عن أكشاك صغيرة، كما تم طمس واجهاته الأربع التي كانت تمثل مداخله الرئيسية. وتشير حواس إلى أن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري لا يستطيع فعل شيء حيال السوق حالياً، لسببين أولهما أنه ملكية خاصة، وثانيهما أن الجهاز وظيفته هي مجرد مراجعة الأعمال التي تتم عليه من الشق الفني فقط، لأنه من المباني ذات التراث المعماري المميز، إذ يقع ضمن جداول الحصر طبقاً للقانون رقم 144 لسنة 2006 فلا يجوز هدمه تماماً ولا تغيير معالمه إلا من خلال لجنة فنية متخصصة تشرف على عملية تطويره. وتطالب أستاذة العمارة الدولة برصد ميزانية لتطوير السوق ذي التراث المعماري المميز، أو طرحه لدخول مستثمر أجنبي ومصري لانتشاله من عثرته بالتعاون مع المالكين، ويمكن أن يتدخل اتحاد البنوك أيضاً لتوفير الميزانية اللازمة لتطويره، مع مراجعة الموقف القانوني لمن يشغلونه حالياً لأن بعضهم استولى على المحلات بوضع اليد، وتُركت كل هذه المشاكل سنوات عديدة ولم يتدخل أحد فتفاقمت، لكن على الدولة تصحيح الأوضاع قبل فوات الآوان. "يجب أن ندرس قيمته التاريخية أولاً لاثبات أنه يستحق التطوير لإقناع الدولة والمستثمرين بذلك، بدلاً من هدمه وبناء سوق جديد" تقول حواس، وتشير إلى أن البعض قد طرح فكرة هدمه من منطلق أنه غير ذي جدوى، وأن تكلفة تطويره ستحتاج ميزانية ضخمة، إذ من الأسهل هدمه واستغلال مساحته التي تتعدى 6 آلاف متر مربع في سوق أو مول جديد، لكنها تؤكد أنه لا يجوز قانوناً التعدي عليه، كما أن توضيح حقيقة قيمته هي مسؤولية مشتركة بين الأطراف المعنية حتى يعود إلى سابق عهده، فالنموذج الفرنسي له تم تطويره ولم يترك هكذا مثلما حدث في مصر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع