سور طيني يتوسطه باب خشبي ضخم، وفي قلب الباب باب آخر أصغر، يطلق عليه الفلاحون المصريون "خوخة"، تستطيع النفاذ منه بكامل جسدك، وبعدها تجد أمامك فِناءً به شجرة ضخمة، ربما كانت شجرة توت، وفي هذا الفناء منزل ريفي قديم، وبجواره غرفة منفصلة عنه، لها بابها المستقل.
بعد أن دخلنا من الباب وتجاوزنا الفناء، أدخلنا الشاب الذي فتح لنا "الخوخة" إلى الغرفة المنفصلة. كان الجو حارا، وكنا قد مشينا بالدراجات الهوائية أنا وصديقين لمدة نصف ساعة أو أكثر، ولكن بمجرد أن دخلنا بدأ العرق يجف، وغشيتنا السكينة، بلا مكيف هواء ولا حتى "مروحة سقف".
هل علينا هواء لا نعرف من أي اتجاه أتى، لكنه رقيق، يحمل رائحة غير مفهومة ولكنها مريحة، وحينها تذكرت "آلة الزمن" التي تخيلها هربرت جورج لويز في روايته.
لقد غادرت الألفية الجديدة وسافرت إلى بيت مصري ريفي من فصيلة منقرضة، ولم يبقَ منه إلا هذه النسخة التي تقف مبتسمةً غير مكترثة، ويجوز أن تكون ساخرة، ولكنها حنونة، تشعر بداخلها أن جسدك مستقر في رحم أم.
الغرفة ذات جدران من الطوب اللبن ومطلية بطلاء جيري، إذا نسيت وأوكأت رأسك عليها تجد لدانة تشبه وسادة قطنية، ولو أنها بالطبع أكثر صلابة.
تقريبا، كان طين الجدران هو الذي يبث الرائحة التي تشعر أنها رائحة النسخة الأولى للإنسان، رائحة آدم الذي مالبث أن تحول إلى دم ولحم وعظم، ولازال بجسده أثر من طين.
بالغرفة نافذتان كبيرتان، طول الواحدة قد يعادل طول إنسان في عمر الصبي على الأقل، تشبه نوافذ المساجد العتيقة، وعلى الحوائط الأربعة صور لأناس مبتسمين، كلهم يرتدون ملابسا مصرية فلاحية قديمة، ويبدو عليهم الزهد.
بعد قليل دخل الغرفة الشاب الذي فتح الباب محضرا إلينا أكوابا من الشاي، رغم أننا لم نطلبه وحتى أنه لم يسألنا إن كنا نريد مشروبا آخر. وبعد أقل من دقيقة هلَّ علينا رجل مسن، ذو قامة تحاول أن تكون منتصبة، نحيلة نسبيا، متوسطة الطول، حليق اللحية، لا تدري أهو أبيض الوجه، أم أنه قمحي اللون ولكن شيئا ما أضاءه، يرتدي عمامة بيضاء وجلبابا لا أتذكر لونه.
ها هو الإنسان الذي طالما حدثني عنه صديقي وأثار فضولي لأراه، ها هو المعتكف في منزله منذ 30 عاما منقطعا عن الناس، الذي اقترب سنه من الثمانين ولم يتزوج.
خلاصة ما فاجئني به الشيخ عبدالحميد في هذه الجلسة، أن النبوة هي ناتج اجتهاد وكذلك الولاية، وأن "الخالق" -اسم الله الدارج على لسانه- لا يختص شخصا أوعائلة أو سلالة بشرية بشيء إلا نتيجة عمل، لأننا جميعا أولاده، ويعدل بيننا في العطايا والحساب.
لا يتكلم الشيخ في الدين بمنطق "الحرام والحلال" و"الحدود والكفارات"، ويضيق بالكلام حول هذه الأمور.
كذلك فقد أكد أن الهدف من كل الرسالات والحكمة من بعث الأنبياء ووجود الأولياء "شيء واحد" تدور حوله كل الأشياء، ألا وهو الأدب ودماثة الخلق، يقول نصا: "كل هذه الأشياء هدفها الوحيد أن يكون البشر مؤدبين مع بعضهم البعض، لأن الخالق أسمى من أن ينتظر منا عبادة، ولكن العبادة تهذبنا".
حينها لم أكن أقرأ كثيرا لمن ينادون بألوهية الإنسان أو أن الإنسان هو ظهور من مظاهر الله، ولم أكن أدرك الجاذبية التي ترتبط بين الإنسان والكون، وبين الإنسان وما يُحب، حينها كان تخيلي للذات الإلهية نابع من تصور كلاسيكي لا يتجاوز ما يردده مشايخ وزارة الأوقاف.
كلام الشيخ أخذني لطموح كبير، فإذا كان كل منا يستطيع أن يرقى إلى مرتبة الأنبياء والأولياء، فما المانع أن أرتقي إلى أي شيء أحبه، طالما أن الاجتهاد في الحب هو الفيصل.
أثناء جلوسنا مع الشيخ أذّن المغرب، فطلب منا وكأنه يخيرنا أن نذهب إلى المسجد لنصلي ثم نعود إليه... ذهبنا وعدنا، وسألت صديقي: لماذا لم يخرج معنا ليصلي في المسجد؟ أو على الأقل كان يمكن أن يؤمنا في صلاة جماعية بالغرفة؟ فذكّرني صديقي بأنه لا يخرج من المنزل، ولا يصلي في جماعة، وإنه كذلك لم يراه يصلي مطلقا.
انتهت جلستنا مع الشيخ وقبل أن نخرج وزّع علينا أوراقا مقواة، بها أذكار وصلوات، هي الورد الذي يلتزم به مريدوه، ومكتوب في نهايته: يقرأ الورد مرتين يوميا، مرة في الصباح (لم يقل بعد صلاة الفجر)، وأخرى بعد صلاة المغرب، مع قراءة 3 أجزاء من القرآن يوميا.
الورد لا يحتوي على أذكار غير مستساغة، فكلها تشبه القرآن، ولكن أغلبها يقال 100 مرة، وصيغتين للصلاة على النبي، وفي نهاية الوِرد دعاء يهب فيه المريد ثواب ما قرأه لمجموعة من الأنبياء والأولياء والصالحين، واللافت أن على رأسهم الشيخ عبدالحميد، قبل الحسن والحسين وزينب أولاد علي بن أبي طالب، وقبل الخضر وأحمد البدوي وإلياس، والنبي محمد، وقبل آدم وحواء.
أخذته وقبل أن أنصرف قلت له: ادْعُ الله لي
فرد: إن شاء الله، ولم يدعُ
صديقي أخبرني أنه يرفض الدعاء لأحد!
بعد أقل من أسبوع ذهبنا مجددا، ولكن ليلا، لنجد الغرفة تعج بالناس، الذي يجلسون على الأرض وفوق الأرائك وعلى عتبة الغرفة، فأفسح لنا البعض وحاولوا أن يسعونا بينهم.
كان الجميع صامتا بينما هناك رجل خمسيني يرتدي جلبابا أبيض، يجلس بجوار الشيخ عبدالحميد على أريكته، ويقرأ من "الفتوحات المكية" السفر الشهير للصوفي البارز محيي الدين بن عربي، وبعد كل مقطع يقرأه يقاطعه الشيخ ليشرح ما قرأ، ولكنه عادة لا يلتزم بشرح ما قاله ابن عربي، وإنما يستخدمه للدخول في قضايا أخرى.
لتنتهي الجلسة وقد تشعب الرجل في العديد من القضايا والمواعظ، وقد نسمع همسا من بعض الحاضرين بأنه أجاب عن الأسئلة التي تدور في صدورهم قبل أن يسألوها، خلال شرحه لابن عربي، وأنه كان ينظر لكل واحد منهم أثناء حديثه عما يخصه.
في وقت معين يتوقف الرجل عن القراءة نهائيا، ويختم قراءته بقوله "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل"، وحينها يأخذ الشيخ استراحة ويدخن سيجارة مع ارتشافه الشاي أو القهوة، وقد يداعب أحد الحضور بكلمات من هنا أو هناك، تحمل طابعا مرحا في الغالب.
بعد هذه الاستراحة يبدأ الجزء الثاني من الجلسة، ويفتتحه الشيخ بطلبه من الحضور أن يسألوه إن كان لديهم ما يسألونه عنه.
في هذا الجزء من الحديث، يستحيل أن تستمع إلى أسئلة فقهية حول الحرام والحلال وخلافه -إلا لو كان المريد زائرا جديدا- وإنما إلى مشاهدات وتأملات كونية ورؤى منامية يريد أصحابها تفسيرها، ويجيب عنها الشيخ بأريحية واستفاضة، وغالبا يتعزز وضع المريد في عيون زملائه بعظمة الرؤى التي يراها، ولكن الشيخ الروحاني قد يقرع المريد على رأسه أحيانا إذا أحس فيه بالغرور أو بشيء غير منضبط.
في مرة قال له أحد المريدين، وكان من أقرب الناس إليه منزلة، إنه يرى النبي محمد يوميا في منامه، فضحك الشيخ في سخرية، وقال: "الكفار شاهدوه رأي العين ولمسوا جسده... ليس من المهم أن تراه ولكن أن تجتهد كما اجتهد!". وهنا ذكر قصة اجتهاد النبي إبراهيم وتأمله في الكواكب والنجوم والكون كله حتى عرف الله، وحكى عن تعبد النبي محمد في غار حراء واجتهاده الذي أدى لنزول الوحي عليه.
هو صاحب كرامات، يؤمن مريدوه بأنه قد يقرأ ما بداخلك ويجيب عن سؤالك رغم أنك لم تسأله. لا يمسك نقودا بيده ولا يمضي على أوراق ولا علاقة له بالحداثة إطلاقا. ترك أراضيه وأملاكه لآخرين يديرونها، ومن بعض ريعها يشترون له ما يستر جسده ويكرم ضيفه فقط.
كنا عام 2006، وكنت أعاني من تعثر في الصحافة، وعدت من القاهرة التي قهرتني إلى قريتي في محافظة الغربية، لأعيش موجة اكتئابية خنقت روحي، وجعلتني أبحث عن أيّ متنفس ولو بداخلي على الأقل.
رحب بنا "الشيخ عبدالحميد"، هكذا ينادونه، وقال لنا إنه في العادة لا يقابل مريديه إلا ليلا، ولكنه خرج إلينا نهارا لأنه يعلم أن بيننا من يزوره لأول مرة، ثم طلب منا أن نسأله عما نريد، بعد أن أشعل سيجارة، وطلب منا أن ندخن إذا أردنا.
ما هذا الشيخ الذي يدخن؟ّ! ألم تُنبح أصوات مشايخ الكاسيت ومن خلفهم مشايخ الأزهر ودار الإفتاء، وهي تحذر من حرمانية التدخين! هكذا حدثت نفسي.
لم أتكلم، فسأله أحد الزملاء عن شيء لا أتذكره، ولكن الرجل خرج من السؤال بسرعة، ليخوض في حديث حول حكمة الخالق في خلق الكون، وما وصفها بالجاهلية التي تعيشها البشرية، وأخذ يتكلم ولا ينظر إلا لي فقط، وكأنه نسي من معي، أو يريد أن يقول لي: أدرك أنك مللت من العالم وجئت هنا لتسافر، وأنا موافق على نقلك لأي مكان أو زمان تحب لتتنزه.
لا يعطي الشيخ عبدالحميد انتباها كبيرا لفكرة التشريعات والأحكام، وقد يخالف الاتجاه الشرعي العام أحيانا ولا يتكلم في الدين بمنطق "الحرام والحلال" و"الحدود والكفارات"
خلاصة ما فاجئني به الشيخ عبدالحميد في هذه الجلسة، أن النبوة هي ناتج اجتهاد وكذلك الولاية، وأن "الخالق" -اسم الله الدارج على لسانه- لا يختص شخصا أوعائلة أو سلالة بشرية بشيء إلا نتيجة عمل، لأننا جميعا أولاده، ويعدل بيننا في العطايا والحساب.
لا يتكلم الشيخ في الدين بمنطق "الحرام والحلال" و"الحدود والكفارات"، ويضيق بالكلام حول هذه الأمور.
كذلك فقد أكد أن الهدف من كل الرسالات والحكمة من بعث الأنبياء ووجود الأولياء "شيء واحد" تدور حوله كل الأشياء، ألا وهو الأدب ودماثة الخلق، يقول نصا: "كل هذه الأشياء هدفها الوحيد أن يكون البشر مؤدبين مع بعضهم البعض، لأن الخالق أسمى من أن ينتظر منا عبادة، ولكن العبادة تهذبنا".
حينها لم أكن أقرأ كثيرا لمن ينادون بألوهية الإنسان أو أن الإنسان هو ظهور من مظاهر الله، ولم أكن أدرك الجاذبية التي ترتبط بين الإنسان والكون، وبين الإنسان وما يُحب، حينها كان تخيلي للذات الإلهية نابع من تصور كلاسيكي لا يتجاوز ما يردده مشايخ وزارة الأوقاف.
كلام الشيخ أخذني لطموح كبير، فإذا كان كل منا يستطيع أن يرقى إلى مرتبة الأنبياء والأولياء، فما المانع أن أرتقي إلى أي شيء أحبه، طالما أن الاجتهاد في الحب هو الفيصل.
أثناء جلوسنا مع الشيخ أذّن المغرب، فطلب منا وكأنه يخيرنا أن نذهب إلى المسجد لنصلي ثم نعود إليه... ذهبنا وعدنا، وسألت صديقي: لماذا لم يخرج معنا ليصلي في المسجد؟ أو على الأقل كان يمكن أن يؤمنا في صلاة جماعية بالغرفة؟ فذكّرني صديقي بأنه لا يخرج من المنزل، ولا يصلي في جماعة، وإنه كذلك لم يراه يصلي مطلقا.
انتهت جلستنا مع الشيخ وقبل أن نخرج وزّع علينا أوراقا مقواة، بها أذكار وصلوات، هي الورد الذي يلتزم به مريدوه، ومكتوب في نهايته: يقرأ الورد مرتين يوميا، مرة في الصباح (لم يقل بعد صلاة الفجر)، وأخرى بعد صلاة المغرب، مع قراءة 3 أجزاء من القرآن يوميا.
الورد لا يحتوي على أذكار غير مستساغة، فكلها تشبه القرآن، ولكن أغلبها يقال 100 مرة، وصيغتين للصلاة على النبي، وفي نهاية الوِرد دعاء يهب فيه المريد ثواب ما قرأه لمجموعة من الأنبياء والأولياء والصالحين، واللافت أن على رأسهم الشيخ عبدالحميد، قبل الحسن والحسين وزينب أولاد علي بن أبي طالب، وقبل الخضر وأحمد البدوي وإلياس، والنبي محمد، وقبل آدم وحواء.
أخذته وقبل أن أنصرف قلت له: ادْعُ الله لي
فرد: إن شاء الله، ولم يدعُ
صديقي أخبرني أنه يرفض الدعاء لأحد!
بعد أقل من أسبوع ذهبنا مجددا، ولكن ليلا، لنجد الغرفة تعج بالناس، الذي يجلسون على الأرض وفوق الأرائك وعلى عتبة الغرفة، فأفسح لنا البعض وحاولوا أن يسعونا بينهم.
كان الجميع صامتا بينما هناك رجل خمسيني يرتدي جلبابا أبيض، يجلس بجوار الشيخ عبدالحميد على أريكته، ويقرأ من "الفتوحات المكية" السفر الشهير للصوفي البارز محيي الدين بن عربي، وبعد كل مقطع يقرأه يقاطعه الشيخ ليشرح ما قرأ، ولكنه عادة لا يلتزم بشرح ما قاله ابن عربي، وإنما يستخدمه للدخول في قضايا أخرى.
لتنتهي الجلسة وقد تشعب الرجل في العديد من القضايا والمواعظ، وقد نسمع همسا من بعض الحاضرين بأنه أجاب عن الأسئلة التي تدور في صدورهم قبل أن يسألوها، خلال شرحه لابن عربي، وأنه كان ينظر لكل واحد منهم أثناء حديثه عما يخصه.
في وقت معين يتوقف الرجل عن القراءة نهائيا، ويختم قراءته بقوله "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل"، وحينها يأخذ الشيخ استراحة ويدخن سيجارة مع ارتشافه الشاي أو القهوة، وقد يداعب أحد الحضور بكلمات من هنا أو هناك، تحمل طابعا مرحا في الغالب.
بعد هذه الاستراحة يبدأ الجزء الثاني من الجلسة، ويفتتحه الشيخ بطلبه من الحضور أن يسألوه إن كان لديهم ما يسألونه عنه.
في هذا الجزء من الحديث، يستحيل أن تستمع إلى أسئلة فقهية حول الحرام والحلال وخلافه -إلا لو كان المريد زائرا جديدا- وإنما إلى مشاهدات وتأملات كونية ورؤى منامية يريد أصحابها تفسيرها، ويجيب عنها الشيخ بأريحية واستفاضة، وغالبا يتعزز وضع المريد في عيون زملائه بعظمة الرؤى التي يراها، ولكن الشيخ الروحاني قد يقرع المريد على رأسه أحيانا إذا أحس فيه بالغرور أو بشيء غير منضبط.
في مرة قال له أحد المريدين، وكان من أقرب الناس إليه منزلة، إنه يرى النبي محمد يوميا في منامه، فضحك الشيخ في سخرية، وقال: "الكفار شاهدوه رأي العين ولمسوا جسده... ليس من المهم أن تراه ولكن أن تجتهد كما اجتهد!". وهنا ذكر قصة اجتهاد النبي إبراهيم وتأمله في الكواكب والنجوم والكون كله حتى عرف الله، وحكى عن تعبد النبي محمد في غار حراء واجتهاده الذي أدى لنزول الوحي عليه.الشيخ عبدالحميد: "الرسالات وبعث الأنبياء ووجود الأولياء، جميعها، هدفها الوحيد أن يكون البشر مؤدبين مع بعضهم البعض، لأن الخالق أسمى من أن ينتظر منا عبادة، ولكن العبادة تهذبنا".
"النبوة هي ناتج اجتهاد وكذلك الولاية"، والخالق "لا يختص شخصا أوعائلة أو سلالة بشرية بشيء إلا نتيجة عمل، لأننا جميعا أولاده، ويعدل بيننا في العطايا والحساب"
الثري الأزهري الزاهد
بعد شهور عدت إلى القاهرة من جديد، ولم أعد أتردد على الشيخ عبدالحميد، ولكني قريبا أي بعد سنوات طويلة كنت أكتب مقالا عن "العزوبية في الإسلام"، وفي بحثي وجدت حكايات من التاريخ العربي لمتصوفة زاهدين خلدتهم الكتب، فتذكرت أن هناك رجل يشبههم لازال قائما في دنيانا فقررت أن أكتب عنه، وهنا بدأت البحث من جديد، عن إجابات لسؤالين مهمين: من هذا الرجل؟ وكيف أصبح هكذا؟ وصلت إلى رقم هاتف أحد المريدين وكلمت الشيخ من خلاله واستأذنته في الكتابة عنه فلم يرفض، ثم تحدثت مع أقرب مريديه وأكبرهم سنا، ومنهم من تربطهم به قرابة عائلية، لأجمع منهم حكايته هو لا حكايتي معه. هو عبدالحميد عبدالمحسن عبدالحميد موسى حسين محمود، جده كان شيخ قبيلة "البهجة" التي تقطن محافظتي الغربية والمنوفية بمصر، والمولود عام 1928. الشيخ عبدالحميد ولد لقبيلة غنية تمتلك ما يقرب من 6 آلاف فدان، ومنها كان جده عمدة قرية "كفرالعرب" المجاورة لمدينة طنطا، ولكنها أسرة شهيرة بالتصوف وحب العلوم الدينية، وكانت لعمته أحوال غريبة، ويعتقد البعض أنها كانت من الأبدال، الذين تسكن أرواحهم أكثر من جسد في وقت واحد (بحسب المعتقد الصوفي). حفظ عبدالحميد القرآن والتحق بمعهد طنطا الأحمدي الأزهري، المواجه لمقام السيد أحمد البدوي "القطب الصوفي الشهير"، وأكمل به تعليمه الثانوي ليلتحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ويتخرج منها ليعيّن إماما وخطيبا بمسجد في "أبوتيج" بمحافظة أسيوط في صعيد مصر. ويُحكى أنه فعل هناك الأفاعيل، حيث تحولت القرية التي كان مسؤولا عن مسجدها من بلدة للثأر والدم، إلى بلدة للعُبّاد، ألقى أهلها الأسلحة ليمسكوا بالمسابح، وكان كبار القوم منهم يحضروه مجالسهم العرفية لإصلاح قبائل وعائلات على بعضها، وكانت كلمته نافذة بينهم. في عام 1970 توفي الرئيس جمال عبدالناصر ورفض الشيخ عبدالحميد أن يصلي عليه صلاة الغائب، فانقلبت الدنيا هناك ووشى به رجال الاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الوحيد بمصر في هذا الوقت) لدى جهاز المباحث العامة، فأقنع عبدالحميد الضابط الذي كان يحقق معه بأن "ناصر" صُلّيت عليه الجنازة حاضرة، ولا معنى لصلاة الغائب عليه، فتركه الضابط، ولكن لسبب غير معروف عاد بعدها بعام أو عامين إلى كفرالعرب تاركا أبوتيج، ورافضا العودة إلى هناك أو العمل في وزارة الأوقاف عموما، ولا زال هذا الأمر لغزا إلى الآن. في السنوات التي قضاها في أبوتيج أتاه الوِرد متقطعا، وأغلب أجزائه جاءت في رؤى منامية، واكتمل برؤية أمليت عليه خلالها عبارة "لا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد"، ومن أملاه (البعض يقول إنه النبي محمد) قال له إن هذه العبارة هي "ختام الورد وحزامه". بعد العودة لكفرالعرب كان يخطب في مسجد القرية، وكانت له أحوال غريبة، جعلت البعض يتهكم منه أحيانا، فقد كان يدعو للملائكة "جبريل، إسرافيل، ميكائيل..."، فتعجب الناس الذين يعرفون أن الملائكة لا يخطؤون ويعيشون بالجنة وبالتالي فلا معنى للدعاء لهم، إلا أنه كان يفعل ذلك ولا يبرر للناس سبب دعائه. أحد أتباع الشيخ عبدالحميد حكى لي أنه صلى العصر خلفه مرة في هذه الفترة، فقضى 45 دقيقة "ساعة إلا ربع" في 4 ركعات، كان من الممكن الانتهاء منها في 5 دقائق فقط، مشيرا إلى أن تلك المرة كانت آخر مرة يصلي فيها معه، ولم يشاهده يصلي بعدها، إلا أنه يوقن أنه يصلي. وفي منتصف السبعينيات انقطع عن الناس، ولم يعد يخرج من المنزل، وتقلبت أحواله، ففي فترة لم يكن يصافح الناس "رجالا أو نساءً"، وبعدها بفترة بدأ يصافح الرجال فقط، وبعدها بفترة بدأ يصافح النساء، فكان يصافح الرجال باليد اليمنى والنساء باليد اليسرى، وبعد مدة بدأ يعطي يده لمن يصافحه ليقبلها. أما الآن فهو يرفض مصافحة أحد، ويرى مريدوه أن كل هذه الأحوال لها أسرار روحية لم يبح بها الشيخ لأحد. في هذه الفترة كان لا يحلق شعر رأسه ولا لحيته ولا يغير ملابسه، بشكل جعل أهله يضيقون به، وبعد فترة شاهد أهله رجلا مهيبا يقتحم عليه خلوته ويمزق له ملابسه، والشيخ مستسلم له، ثم خلع رداءه وعمامته وألبسهما للشيخ عبدالحميد واحتضنه لدقائق بسيطة، ثم أخرج جلبابا آخر من لفافة كانت معه، فلبسه وانصرف دون أي حديث. بعد هذا الموقف تغير الشيخ عبدالحميد، فحلق لحيته وقص شعره، وبدأ يرتدي ملابسا نظيفة ومهندمة باستمرار، ومنذ ذلك الحين "ثمانينيات القرن الماضي تقريبا" بدأ المريدون يزدادون ويترددون عليه، وبدا الشيخ أكثر ترحيبا بالناس، وكذلك بدا مقنعا لهم بخوارق وكرامات تجري على يديه. يقول أقرب مريديه (الأستاذ عبداللطيف خليل) إنه في هذه الفترة كان يقرأ في كتاب الفتوحات المكية لابن عربي عن "خرقة التصوف"، وكان يبحث عن تجسيد لها، فعلم بما حدث للشيخ عبدالحميد، ووجد أن ماحدث له ينطبق على ما تعريف ابن عربي لـ"خرقة التصوف". سألت عبداللطيف عمن ألبس خرقة التصوف للشيخ عبدالحميد؟ ولماذا ذكرت أنك كنت تقرأ في هذا التوقيت لابن عربي تحديدا، ولماذا يتخذ الشيخ عبدالحميد "الفتوحات المكية" تحديدا، منهجا يتحدث من خلاله إلى الناس؟ لم ينفِ عبداللطيف أن يكون ابن عربي هو من ألبس خرقة التصوف للشيخ، وكذلك لم يؤكد، ولكنه قال إن الشيخ عبدالحميد يحمل رسالة مركبة، جزء منها خِضرِي (نسبة للخضر) وهو الجزء الخاص بأحوال الشيخ الغريبة، التي لا علاقة لها بما يعتاد الناس أن يفعلوه، وجزء منها شرعي أخذه عن الصوفي أحمد البدوي، مشيرا إلى أن الجمع بين الجزأين صعب.انطباعات أخيرة
أستطيع تلخيص انطباعي عنه بأنه يؤمن بالمنهجية الفردية، التي سلكها الصوفية الأوائل، ويدل على ذلك عدم صلاته في جماعة، وعدم تشديده على مريديه في هذه النقطة، وكذلك فإنه لم ينتظم في جماعة أو طريقة، ولم يحاول أن يؤسس طريقة إلى الآن ويبني فيها تراتب إداري، رغم كثرة مريديه. لا يريد أن يخلق من نفسه واسطة بين مريديه وبين "الخالق"، فلم يُشاهَد وهو يدعو لأحد، وكذلك فهو دائم التحفيز على الرياضة الروحانية. -رغم ما سبق من ميل فردي فهو يضفي تقديرا كبيرا للأولياء، وكثيرا ما طلب من مريديه - في حالات محددة - أن يقرؤوا الورد في أضرحة تخص أولياء. -يصفه عبداللطيف خليل، أحد أقدم مريديه وأكثرهم قربا وتعلما منه، بأنه "محمدي عيسوي" نسبة إلى النبييَن محمد وعيسى. -الرجل خضري المزاج، ولا يعطي انتباها كبيرا لفكرة التشريعات والأحكام، وقد يخالف الاتجاه الشرعي العام أحيانا، ولكن بما لا يضر ببشر "الهدف أن نكون مؤدبين". - هو من فصيلة الصوفية المتبتلين كرابعة العدوية وأحمد البدوي وغيرهما.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...