شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الإله البشري" وما وراء اللغة: الحركة الحروفية وأسرار الكون في 3 مراحل إنسانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 11 يونيو 201805:30 م
لماذا تخاف الموت وأنت عين الخلود؟ كيف تحتار في ظلمة القبر وأنت نور الله؟ كانت مجموعة دراويش متصوفة يرددون هذه الأبيات المنسوبة للصوفي الشهير جلال الدين الرومي، فوقعت على أذني فتى يجلس في حلقة علم، اسمه فضل الله نعيم الاسترآبادي. اضطرب فضل الله، وبدأ يتسائل حول ما إذا كان الإنسان هو جوهر الخلود ونور الله فعلا؟ وعرف أن هذه الألفاظ لا تعني معانيها الظاهرية، وأنه لكي يعلم معانيها الحقيقية الباطنة، فلابد أن يجتهد ويمارس رياضات تعبدية صوفية شاقة. كان ذلك في مقاطعة استرآباد الإيرانية، حيث ولد فضل الله عام 740هـ (1339 - 40 م)، وتحول مع الوقت إلى واحد من الشخصيات التي أثرت بقوة في التاريخ الإسلامي، بعد أن أسس مدرسة روحية قدمت تفسيرات جديدة، غير تقليدية، عن بدء خلق الإنسان ومراحل تطور البشرية، وكيف ستنتهي، كما قدمت تفسيرا لشكل العلاقة بين الله والإنسان، وازنت خلاله بين كون الإنسان مجرد مخلوق "في التصور التقليدي"، وبين كونه ابنا لله عند البعض. الباحث الباكستاني شاهزاد بشير، أعد دراسة بعنوان "شفرات الكون منذ بدء الخلق حتى نهاية العالم: الحركة الحروفية والروحانيات في العصور الإسلامية الوسطى - Deciphering the Cosmos from Creation to Apocaiypse: The Hurufiyya Movement and Medievai isiamic Esotericism"، تناول فيها سيرة فضل الله الاسترآبادي والحركة التي أسسها والتي سميت بـ"الحروفية"، والتي كادت أن تسيطر على الدولة العثمانية وهي في أوج قوتها، حيث كان السلطان محمد الفاتح يميل إليها وعلى وشك أن يكون جزءا منها. وتقوم المدرسة الحروفية التي أسسها فضل الله على فك شفرات الكون ومعرفة حقيقته من خلال المعاني الباطنية للحروف اللغوية، والمثير في النظرية وفي مؤسسها، أنها رغم غرابة الطرح الذي تقدمه، إلا أن لها جذور ضاربة بقوة في النصوص الإسلامية المقدسة، وفي الشروحات والتفاسير الكبرى لدى المسلمين، كما سنرى.

فضل الله: "صاحب التأويل" وسليل النبي

وينقل شاهزاد عن السيرة الحروفية، أن فضل الله ابن "القاضي" نعيم الاسترآبادي المنسّب إلى النبي محمد، وإلى الإمام السابع للشيعة الإثنى عشرية موسى الكاظم، قضى فترة في عبادة وانقطاع عن الناس، وبعدها انطلق إلى مكة للحج ثم عاد متنقلا بين عدة مدن في فارس وما حولها، لابسا خرقة التصوف، موغلا في زهده حيث الملبس المتواضع والترفع عن كل الشهوات. MAIN_Fazlallah-Astarabadi خلال هذه الفترة رأى فضل الله 3 أحلام منامية، كان لها تأثير كبير على مسيرته الروحية، الأول رأى خلاله المسيح الذي أخبره أن 4 علماء مسلمين فقط عبر العصور وصلوا إلى أعلى درجة من الصدق ونكران الذات، وهم إبراهيم بن أدهم، أبو اليزيد البسطامي، سهل بن عبد الله التستري، والبهلول. في الحلم الثاني ظهر له النبي سليمان وسأله عما إذا كان يتعرض لمضايقات من الوزير الخواجة تاج الدين، فأكد له فضل الله ذلك، وبناءً عليه أمر سليمان الهدهد بجلب هذا الفاسق وتركه للموت بعد توبيخه... وبهذان الحلمان شعر فضل الله أن لديه علما وحماية نبوية، بحسب شاهزاد. الحلم الثالث كان هاجسا حول مكانته (فضل الله) في التسلسل الروحي العالمي، حيث رأى نجما شديد السطوع في الشرق، يبعث بشعاع من الضوء إلى عينه اليمنى، واستمر تدفق الضوء على عينه حتى أفرغ النجم ضوءه بالكامل فيها، وتلا ذلك صوتا يسأله عما إذا كان يعرف طبيعة هذا النجم؟ فرد فضل الله بأنه لا يعلم، فأخبره الصوت الذي يناديه أن هذا النجم يرتفع مرة واحدة كل بضعة قرون. أصبح شائعا بين الناس أن فضل الله الاسترآبادي يستطيع التأويل وتفسير الأحلام حتى لقب بـ"صاحب التأويل"، وأكسبه ذلك مكانة كبيرة بين المجتمعات التي عاش بها، بين خوارزم وأصفهان وإريز وغيرها، ودعم تلك المكانة انتسابه لسلالة الأئمة الإثنى العشرية المعصومين من الخطأ (بحسب المعتقد الشيعي)، كما أثقله تعلمه المبكر للأدب، ومعرفته بالعربية بالإضافة للفارسية، وكذلك كان لديه اطلاع على العلوم الإسلامية الأساسية، بحسب ما تروي كل الأدبيات الحروفية. فكرة الوحي عن طريق الرؤى المنامية أصيلة في الفكر الإسلامي، منذ النبي محمد مرورا بصحابته وتابعيه وخلفائه؛ فبنص الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، أن ابن عباس قال إن النبي كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له". وكثير من الروايات تدل على أن النبي كان يوحى إليه في منامه كثيرا، وكذلك كان الصحابة يقصون عليه أحلامهم ويفسرها، واعتبر البعض أن تفسير الأحلام علم مستمد من القرآن والسنة، وعلى رأسهم التابعي محمد بن سيرين المتوفى عام "110هـ - 729م" صاحب موسوعة "تفسير الرؤى والأحلام".

"ظهور الكبرياء" والاطلاع على أسرار الكون

بعد هذه الأحلام الهامة شهد فضل الله، وهو في مدينة تبريز، مايسمى بـ"ظهور الكبرياء" أو "مظاهر المجد الإلهي"، في رمضان 775 هـ، 1374م، وهي من الأساسيات في العقيدة الحروفية التي نظمها فضل الله في عدة كتب باللغة الفارسية، وهي "جاودان نامه بزرگ، جاودان نامه كوچك، نوم نامه، عرش نامه، وصيت نامه، محبت نامه". وفي تلك اللحظة الكاشفة، كُشف الحجاب لفضل الله واطلع على أسرارٍ هائلة، منها معاني الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن مثل "ألر، ألم، كهيعص..."، وكذلك فهم السر الكامن وراء بعض عبادات وطقوس الإسلام كالصلاة والصيام. عاد فضل الله إلى أصفهان بعد التجلي، وبعد تردد أعلن دعوته التي تنبع من الوحي الذي يتلقاه، واستجاب لها 8 مقربون منه، وتوسعت الدائرة لتشمل عددًا أكبر فأكبر في السنوات اللاحقة، ومع اتساع حجم الحركة ظل المجتمع الحروفي مقسما بين مجموعة صغيرة من الصحابة المقربين، وكتلة أكبر من الأتباع العاديين. خلال حياته كان فضل الله بين أنصاره بمثابة النبي أو المهدي المنتظر... وفي كتابه "نوم نامة" يقول: "رأيت أن ملابسي بيضاء ونقية ونظيفة للغاية، هذه كانت كل ملابسي وهي ملابس الإمام المهدي، وهذا يعني أنني كنت أعلم أنني هو". بعض أتباعه يشيرون إليه باعتباره المهدي في بعض الأحيان، ومن المحتمل أن هذا الأمر قد ازداد رواجا بعد إعدامه، على يد ميرانشاه بن تيمور لنك مؤسس الدولة التيمورية. أمضى فضل الله الأربعة عشر عاما الأخيرة من حياته في دعوته، متنقلا بين مدن كثيرة في المشرق الإسلامي، وكانت أيامه الأخيرة في مقاطعة شاماخي ( موجودة في أذربيجان الآن)، بعد سجنه هناك بناء على أوامر ابن تيمور لنك. بعض المصادر الحروفية تؤكد أن ميران شاه كان قد أفرج عنه قبل الإعدام واعتذر له عن سجنه، لكن مصادر من خارج الحركة أكدت أن فضل الله دعاه إلى رسالته فرفضها وأعدمه بعد ذلك، بحسب شاهزاد. وقيل إن هاجسا كان لديه حول إعدامه، فقد شاهد حلما سجله في كتاب "نوم نامه"، رأى خلاله أنه يُعدم بناء على أوامر من "المشلول"، واتضح لاحقا أن المقصود به كان "تيمور"، ونلاحظ هنا اتفاق الوزن بين الكلمتين.

الحروفية بين بواطن الحروف وصورة الله

إعدام فضل الله كان له بعدٌ سياسيٌّ، فهذا الزعيم الروحي صاغ نظرية جديدة حملت تهديداً للنظام الإسلامي السائد، وصنعت من صاحبها سيداً للبشرية كلها، وهو أمر يقلق أي حاكم، إضافة إلى تزايد شعبيته داخل الدولة التيمورية التي امتدت من العراق غرباً إلى حدود الصين شرقاً، ومن الهند جنوبا حتى دول جنوب روسيا الحالية وتركيا. تصور الاسترآبادي لبدء الكون، يشير إلى أن الله كان فردا، وكان لديه رغبة في أن يُعرف فخلق الكون في 6 أيام، وإلى هنا لا يوجد خلاف مع التصور الإسلامي العام. الخلاف العميق والذي يمثل عقيدة أساسية لدى الحروفية يبدأ من تفسيرهم لآية "الرحمن على العرش استوى"، حيث يعتبرون أنها تشير إلى خلق آدم؛ فالجلوس هو "مجاز عن خلق الله لصورة كاملة لنفسه" من طين، هذه الصورة الإلهية (آدم) عُلِّمت أسماء الأشياء، ما يعني أن الله وهبه "العلم" وهو الصفة الأساسية للألوهية، ليصبح آدم كليا صورة لله في الشكل والمحتوى. ويفسر "الحروفية" آية "وعلم آدم الأسماء كلها"، بأن الأسماء هي عبارة عن 32 حرفاً استمدت منها الحروفية اسمها. ويعتبر الحروفية أن الرسالات السماوية هي لغات فوقية "إلهية" تمثل لبنات في فهم الكون، وأن ما استقبله آدم في لحظة الخلق (32 حرفا) هو القدرة على فهم لغة إلهية، يمكنه من خلالها استيعاب الكون وأسراره. كما يعتبر أنصار فضل الله أن جميع البشر لهم القدرة على اكتساب هذه اللغة الإلهية، التي تستطيع فهم ما ورائيات اللغات التقليدية؛ لأنهم جميعا من أصل آدم، وهذا هو الشيء نفسه الذي يميزهم عن جميع المخلوقات الأخرى. وتلك الفكرة تعكسها حقيقة أن فم الإنسان يشتمل على اثنين وثلاثين من الأسنان، وأنه قادر على إنتاج اثنين وثلاثين صوتاً متبايناً. ولذلك اعتبر فضل الله أن اللغة الفارسية بحروفها الاثنين والثلاثين هي الأقرب لقيمة مساوية بين اللغات العادية واللغة الفوقية الإلهية، أو ما وراء اللغات، استنادا لحديث منسوب إلى النبي بأن العربية والفارسية هما لغتا أهل الجنة، بحسب شاهزاد. إن أسبقية اللغة للخيال والفهم، باعتبارها سبقت خلق آدم، يمكن فهمها بسهولة؛ لأن الأفكار المجردة لا يمكن فصلها عن اللغة، حتى جوهر الأشياء المادية، يكمن في المفهوم اللغوي الذي يشملها وليس في وجودها العنصري. الاستنتاج الأكثر أهمية من هذه الحجة بالنسبة للحروفية، هو أن الكون في الأساس حدث لغوي، وباعتبار أن الله هو الخالق فقد امتلك اللغة الفوقية، ومكن بعض البشر من الحصول عليها.

تاريخ البشرية في 3 دورات

وقسم فضل الله التاريخ الكوني إلى 3 دورات، الأولى تبدأ من آدم حتى محمد، والثانية تبدأ من علي بن أبي طالب حتى حسن العسكري الإمام رقم 11 لدى الشيعة الإثنى عشرية، أما المرحلة الثالثة فتبدأ به نفسه. واعتبر فضل الله أن كل مرحلة من المراحل الثلاث شملت نضوجا أكثر من الأخرى، فكلما تقدم البشر تاريخيا كلما اقتربوا من الصورة الإلهية، وبالتالي اعتبر نفسه (فضل الله الاسترآبادي) الأقرب للكمال الإلهي، شكلا ومحتوى؛ فهو المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا وإنصافا بعد أن يستبد بها الطغاة. وتعتبر الحروفية جَسَد فضل الله وعاء الرسائل الاثنين والثلاثين؛ فهو آدم الحقيقي الذي شكله الله على هيئته ووهبه كل صفاته، وكل من سبقه من الأنبياء والأولياء والقديسين ملزمون بالسجود أمامه، فهو بمثابة اندماج لكل الأشكال والمعارف في شخص واحد. وكذلك فإن أصحاب فضل الله لهم مكانة خاصة بين البشر يوم القيامة، فمعرفتهم وإيمانهم به بمثابة خلاص لهم.

فضل الله والحروفية: جذور في التراث الإسلامي

إذا جاز أن نعتبر أهم ما نادى به فضل الله هو ألوهية الإنسان، وقدرته على فهم ما ورائيات الحروف، فإننا نرى أن دعوته كانت معبرة عن أفكار شائعة لدى المجتمعات الإسلامية. فألوهية الإنسان تتماس مع ما دعى به الصوفي الشهير أبومنصور الحلاج (858 : 922م - 244 309هـ)، الذي آمن بأن الله خلق آدم على صورته، حيث اعتبر أن الله تجلى لنفسه في الأزل فرأى ذاته وأحبها فخلق آدم حبا في نفسه، وفي هذا يقول الحلاج، بحسب ما جاء في كتابه "الطواسين":

سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا لخلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب

وهنا يشير الحلاج إلى ما يعتقده في الطبيعة الإلهية، حيث يقسمها إلى طبيعة "لاهوتية" أو إلهية و"ناسوتية" أو بشرية، ويتلاقى ذلك مع ما يؤمن به المسيحيون عن طبيعة المسيح، باعتباره صورة بشرية للرب. أما التفسير الماورائي للحروف فهو أمر تعج به الأدبيات الإسلامية، ومنها ما جاء في تفسير ابن كثير لافتتاحية سورة البقرة (ألم)، حيث يقول: إن هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا، دارت فيها الألسن كلها، وليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى. ويضيف: فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله. وللحروف الأبجدية "أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت"، تفسير عند الصحابي عبدالله بن عباس "ابن عم النبي"، مرتبط بقصة آدم وخروجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض. حيث يقول: "أبجد": أبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، "هوز": فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، "حطي": فحطت عنه خطيئته، "كلمن": فأكل من الشجرة ومن عليه بالتوبة، "سعفص": فعصى آدم فأُخرِج من النعيم إلى النكد، و"قرشت" فأقر بالذنب وسلم من العقوبة، بحسب ما نقل العز بن عبدالسلام في كتابه المفسّر للقرآن "اختصار نكت الماوردي". ومن العلماء المسلمين من طوعوا الحروف إلى أرقام، ومن الأرقام فكوا شفرات واكتشفوا أسرارا، فجعلوا لكل حرف رقما:

أ / 1، ب / 2، ج / 3، د / 4، هـ / 5، و/ 6، ز/ 7، ح/ 8، ط / 9، ي/ 10، ك/ 20 ، ل/ 30، م/ 40، ن/ 50، س/ 60 ، ع/ 70، ف/ 80 ، ص/ 90، ق / 100، ر/ 200، ش/ 300، ت/ 400... فإذا أرادو أن يكتبو اسم الجلاله "الله" كتبو 66، وهي ناتج مجموع أرقام حروف الله، إذ أن:

أ: 1، ل: 30، ل:30، هـ: 5، فتصبح المعادلة: 1 + 30 + 30 + 5 = 66.

وممن تناولوا هذا العلم، الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال". ونقل القرطبي في كتابه "التذكرة" عن الصحابي عبد الله ابن مسعود، أن المهدي يخرج في آخر الزمان من المغرب الأقصى، يمشي النصر بين يديه أربعين ميلاً، راياته بيض وصفر، فيها "رقوم" فيها اسم الله الأعظم مكتوب، فلا تُهزم له راية. وفسرت كلمة "رقوم" بأنها تشير إلى علم الحروف وارتباطه بالأرقام، ما يدل على أن علم الحروف موجود منذ عهد الصحابة.
كادت أن تسيطر الحركة الحروفية على الدولة العثمانية وهي في أوج قوتها، هنا بعض تصوراتها للإنسان والكون
تختلف رؤيا الحروفية بشكل جوهري عن غيرها من المعتقدات الإسلامية في تفسيرها لآية "الرحمن على العرش استوى"، أنّ آدم أصبح كلياً صورة لله في الشكل والمحتوى

إعدام "الإله"

يرجح شاهزاد أن إعدام الاسترآبادي أدى إلى انقسام أتباعه إلى فريقين، فمنهم من ادعى أن رؤية فضل الله كانت بمثابة مواجهة مع الله ورؤيته وجهاً لوجه، ومن هنا استنتجوا أنهم كانوا في الجنة بالفعل حين قبلوا بمبادئ الحروفية، وبما أنهم في الجنة فقد سقطت عنهم الصلاة والصيام وكل العبادات، وأصبح كل شيء مباحاً لهم، ولا يوجد شيء ممنوع. في التصور الإسلامي السني، اتفق على أن الله يكشف عن وجهه يوم القيامة لعباده الصالحين بعد أن يدخلهم الجنة فيرونه، مصداقاً لآية "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة". وجاء في البخاري ومسلم أن النبي سؤل: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟" قالوا: لا يا رسول الله . قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا. قال: "فإنكم ترونه كذلك". بعض من أبناء الحركة في تبريز غالوا في الأمر وادعوا أن لهم الحصول على أي ممن يريدون من متع، والشيء الذي لا يستطيعون الحصول عليه هو من حقهم أيضاً، وعليهم السعي جاهدين لإخراجه من أيدي الآخرين للاستيلاء عليه مهما كان. أما الفريق الآخر فقد أولوا نصا من سورة الروم يقول "فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ"، حيث توقعوا أن فضل الله رفع إلى السماء وسوف يعود إليهم مرة أخرى في خراسان ثم يسافر إلى مكة المكرمة، ثم ينضم مرة أخرى مع أتباعه في موقع إعدامه في الأنجاق، قبل استدعائه إلى غزو القسطنطينية، التي لم يكن المسلمون قد دخلوها بعد. بناءً على هذ التصور نشط الحروفيون وقادتهم ابنة فضل الله "كليمة الله"، التي قُمعت أنشطتها وقتلت في تبريز على يد جهان شاه حاكم كاراكويونلو.  بعد مقتل ابنة فضل الله، نقل الحروفيون نشاطهم إلى الدولة العثمانية الفتية في هذا الوقت، ووصلوا إلى السلطان محمد الفاتح الذي اهتم بمذهبهم، ما تسبب في قلق صدر الدولة الأعظم محمود باشا أنيلوفيتش، وخاف الأخير أن يتكلم عنهم بسوء كي لا يغضب منه السلطان فلجأ إلى حيلة. استدعى محمود باشا أحد أشهر علماء الشريعة الإسلامية في هذا التوقيت فخر الدين عجمي إلى بيته، وطلب منه أن يتوارى خلف جدار وينصت إلى حديثه مع زعيم الحروفية، الذي أظهر له محمود ميلا إلى عقيدته، فاطمئن الرجل وتحدث بأريحية عن فكرة ألوهية الإنسان، وهنا ظهر عجمي الذي لم يستطع تمالك أعصابه، وسب زعيم الحروفية وحركته. ثم ذهب عجمي إلى المسجد الجديد في أدرنه، وأذن المؤذن لصلاة استثنائية، وصعد عجمي المنبر وخطب في الناس وكفّر أتباع فضل الله الاسترآبادي واصفا إياهم بالزنادقة، وقال إن من يقتلهم له عظيم الأجر والثواب عند الله. يقول شاهزاد: أعطيت الأوامر لإعداد نيران هائل، وألقي فيها بقائد الحروفيين أولا ثم تلاه إعدام من تبقى منهم. وبعد هذه النكسة تشتت أتباع فضل الله الاسترآبادي ولكنهم وجدوا مأوى لهم داخل الطريقة الصوفية البتكاشية في تركيا، والتي صارت الحروفية جزءا من عقيدتها حتى الآن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image