بحسب الباحثة والأستاذة بأكاديمية الفنون، رانيا يحيى فإن الموسيقى ارتبطت بالطقوس الدينية وأماكن العبادة منذ أزمنة بعيدة، وبالتالي لا تجد عازفة الفلوت المصرية أي منطق في تحريم بعض رجال الدين للموسيقى، معتبرة أن هناك عدة محاولات لفرض الخصومة بين الدين والموسيقى، أو بمعنى أدق التشكيك في مشروعية الموسيقى والغناء، مضيفة أن بعض الآراء المتشددة حاولت إثبات حرمانية الموسيقى ورفض الإسلام لها دون أسانيد قوية، رغم عدم وجود أي نص يحرمها في القرآن.
تقول يحيى أن هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد مشروعية الموسيقى وإباحتها في عهد النبي محمد، وما سبقه أيضاً من عهود.
وحتى ترد الباحثة على بعض رجال الدين الذين يحرمون الموسيقى بشكل عملي، قررت العمل على دراسة تتناول اهتمام الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص بفن الموسيقى.
الدراسة التي حملت عنوان "نغمات آيات الذكر.. موسيقى إلهية في كتاب كريم" تظهر أن الأديان احتضنت فن النغم، ولم تقف عقبة في سبيل تقدمه وتطوره، وأن دين الإسلام اتجه بهذا الفن إلى ما يكفل لنا السعادة، دون أن يتعارض ذلك مع الشريعة وأهدافها.
تعتبر الدراسة أن الإسلام كدين "يراعي واقع وطبيعة الإنسان التي فطرها الله على وجود الموسيقى بعناصرها في كل ما هو مجسد في الطبيعة حولنا، فمثلاً تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة ما هو إلا شكل من أشكال الإيقاع".
خلصت الدراسة التي اطلع عليها رصيف22 كاملة أن الإنسان يستطيع عن طريق الفن التحرر فكرياً من جميع الأفكار الهدامة والمتشددة التي تحث على نشر العنف والحقد والكراهية فتنشر سمومها لتتحول لأفكار إرهابية مظلمة تكسو العالم كراهية ودماراً.
الأذان وتكبيرات العيدين والمقامات الموسيقية
تظهر الباحثة المصرية في دراستها أن هناك علاقة وثيقة بين الأذان وبين المقامات الموسيقية، معتبرة أن الأذان ظل مجالاً للفن الموسيقى، منذ فرضت الصلاة على أمة محمد، بإقامته خمس مرات يومياً للنداء، تلبية لأحد أركان الإسلام والمتمثل في إقامة الصلاة، وذلك بأداء فردي دون مصاحبة آلية وباستخدام المقامات الموسيقية التي تؤثر فينا تأثيراً جلياً. تقول يحيي في دراستها "في الأذان غالباً ما تستخدم إحدى المقامات الممزوجة بالشجن والخشوع مثل البياتي أو الحجاز أو "الراست"، وإذا قام المؤذن بالخروج عن المقام والتحويل إلى آخر فكثيراً ما يكون من مشتقات المقام الأصلي، كنوع من الزخرفة والبراعة في الأداء، مع إضافة بعض الزخارف داخل الإيقاع الحر غير الموزون الذي يبنى عليه الأذان". تنتقل الدراسة من الأذان إلى تكبيرات العيدين، التي ترى الباحثة إنها بمثابة نشيد يؤديه جموع المصلين في أداء جماعي دون مصاحبة آلية، وتتسم بلحنها الثابت وإيقاعها الثابت الذي يتبع إيقاع الكلمات، ويستخدم فيه غالباً جنس واحد من البداية للنهاية لا يتغير. وبحسب يحيى فأن الجنس هو جزء من المقام، حيث تتكون المقامات الموسيقية الشرقية من جزأين أو جنسيين، هما جنس الأصل وجنس الفرع. أما المقام نفسه فهو الحالة المزاجية للجملة اللحنية، وكل جنس له أربع نغمات من المقام الموسيقي، والأصل هو النغمات الأربع الأولى، أما الفرع فهو هو النغمات الأربع الأخرى. في دراستها تتحدث يحيى عن أن هناك اختلاف بين التكبيرات والابتهالات التي تؤدى في الاحتفالات والمناسبات الدينية، والتي تعتمد على الابتكار من المبتهل، من حيث استخدام المقامات والزخارف اللحنية والإيقاع المتمثل في تقطيع الجمل والعبارات، فمن خلالها يستعرض المبتهل براعته في ارتجال الألحان والانتقال بين الطبقات الصوتية الحادة والمنخفضة مع الحرية في تغيير المقامات، ولهذا فهي تتشابه مع الموال الذي يرتكز على التقاسيم الحرة في الموسيقى. تلفت يحيى أن إنشاد المتعبدين والصوفيين داخل حلقات الذكر، والذي ازدهر في بعض مراحل الحضارة الإسلامية وكانت وظيفته تهذيبية وأخلاقية وتطهيرية ودعوية، دائماً ما كانت تسيطر عليه بعض المقامات الموسيقية."يقوم مرتل القرآن باستعراض مهاراته الأدائية في التلاوة من خلال استخدام المقامات الموسيقية التي تساعده على تطويع التنغيم لخدمة المعنى، وذلك عن طريق وضع زخارف لحنية دون إسراف، كمد بعض الكلمات أو الأحرف والتشديد عليها لإيضاح معناها"
الإنسان يستطيع عن طريق الفن التحرر فكرياً من جميع الأفكار الهدامة والمتشددة التي تحث على نشر العنف والحقد والكراهية فتنشر سمومها لتتحول لأفكار إرهابية مظلمة تكسو العالم كراهية ودماراًأما عن القصائد والموشحات الدينية التي كانت تتلى في أحياء الموالد وبعض الاحتفالات الدينية، فهي تستخدم أسلوب فنياً تبادلياً بين المنشدين والبطانة، والمنشدون هم مجموعة المشايخ الذين يتلون القرآن وينشدون التواشيح والقصائد، وقد يكون المنشد شيخاً واحداً فقط أو عدة شيوخ، وتقوم البطانة وهم مجموعة من الرجال يتميزون بجمال الصوت بالرد عليه أو عليهم. ترى يحيى في دراستها أن هذه الطريقة تتشابه مع الأساليب الغنائية التي تعتمد على وجود المذهب والكوبليه، حيث تقوم البطانة بأداء المذهب، ثم يعاود المنشد أداء الكوبليه بارتجال وإبداع ويستخدم المنشد المقام الموسيقى الذي وضعت فيه القصيدة، وإذا أتيح له الارتجال فيقوم بلمس مقام قريب يشابه مع المقام الأصلي، قبل أن يعود له مرة أخرى، وتختتم غالباً بأداء المنشدين والبطانة معاً، وأحياناً تصاحب هذه التواشيح آلات موسيقية كالدفوف.
التنغيم في القرآن
تنتقل الباحثة في دراستها إلى تنغيم آيات القرآن عن طريق التلاوة، والتي تستخدم فيها المقامات الموسيقية بشكل دائم من قبل المقرئين، وترى يحيى أن هذا التنغيم هو ما يؤثر بشكل إيجابي في جموع المسلمين، وينتج عنه الرغبة لدينا لسماع الآيات، وخاصة إن كانت من أحد المشايخ والمقرئين الذين يتمتعون بجمال الصوت. تقول يحيى "يقوم المرتل باستعراض مهاراته الأدائية في التلاوة من خلال استخدام المقامات الموسيقية التي تساعده على تطويع التنغيم لخدمة المعنى، وذلك عن طريق وضع زخارف لحنية دون إسراف، كمد بعض الكلمات أو الأحرف والتشديد عليها لإيضاح معناها". وتوضح أن الانتقال وتغيير المقام أثناء التلاوة فهو غير محدد بمعايير أو قواعد موسيقية ثابتة بل يرجع لذوق المقرئ وإحساسه، حيث يعمل على زيادة جذب انتباه السامع وتشويقه. "كثيراً ما يقف المقرئ عند المقام الأساسي، ثم يتحول منه إلى مقام قريب، وقد يلامس مقامات أخرى سريعاً ويعود للمقام الأصلي مع وضعه للزخارف اللحنية على بعض الكلمات أو الأحرف بطريقة جمالية نابعة من رغبته في توصيل أداء وإحساس معين للمتلقي". لكن توضح الباحثة أن الإيقاع لا يتسخدم بصورته المتعارف عليها أثناء التلاوة القرآنية، لكن الأمر يتم عن طريق تقطيع المفردات اللفظية خلال عملية التلاوة وأحكام التجويد، فلكل مقرئ أسلوبه من حيث أماكن التنفس وكيفية تقطيع الآيات. ويعتمد الترتيل القرآني على الارتجال اللحظي من المشايخ تبعاً لأحاسيسهم دون وضع قوالب محددة.عن نجوم المقامات في القرآن
تعتبر الدراسة أن فن الموسيقى، سواء شئنا أم أبينا يعتبر جزء أصيل من مكونات الشعائر الدينية، وتتحدث الباحثة في الجزء الأخير من الدراسة عن نماذج من المشايخ الذين أجادوا استخدام المقامات الموسيقية في تلاوتهم وتجويدهم للقرآن، أو كما تصفهم الباحثة، بهؤلاء الذين "طافوا العالم بأسره من خلال حناجرهم الذهبية" ومنهم بحسب الدراسة أبو العينين شعيشع، ومحمود خليل الحصري، وطه الفشني، وعبد الفتاح الشعشاعي، ونصر الدين طوبار، ومحمد الطبلاوي، ومصطفى إسماعيل، وأحمد نعينع، وسيد النقشبندي الذي تصفه الباحثة بأستاذ المداحين والمبتهلين. تشبه الباحثة صوت الشيخ محمد رفعت بآلة الكمان، وتقول أن صوته ملائكي قادر على ضبط الأحكام برقة واقتدار، أما الشيخ محمد صديق المنشاوي فمن ناحية فنية فهو صاحب صوت رخيم، وتميز باستخدامه بكثرة لمقام النهاوند، أما الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فكان اعتماده على النفس الطويل والانتقال من المساحات المنخفضة والمتوسطة بسهولة ويسر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...