في الوقت الذي كانت أوروبا، خلال العصور الوسطى، تشهد توزيع السلطة بين إمبراطور جرماني يمثل السلطة الزمنية من جهة، وبابا كاثوليكي يمثل السلطة الروحية من جهة أخرى، كانت بلاد الإسلام تُحكم بشكل مركزي بحت، إذ كانت جميع سلطات الدولة محصورة في قبضة الخليفة أو السلطان.
واستطاع الحاكم المسلم في معظم الأوقات أن يُحيّد القوة الدينية، أو يستأنسها ليقبع أغلب علمائها ورجالاتها تحت نفوذه المباشر.
ولكن هناك نماذج شذّت عن السائد وشهدت توزيع السلطة في البلاد الإسلامية بين زعيم ديني وقائد سياسي. فما هي الظروف التي أسفرت عن ذلك؟ وما كان مصير تلك التجارب في نهاية الأمر؟ وكيف أثّرت في البناء العقائدي عند أهم المذاهب السياسية في الإسلام.
الحرورية... تشاركية الحكم تدخل في بناء مذاهب الخوارج
النموذج الأول لتشاركية الفقيه والأمير في الحكم في التاريخ الإسلامي يعود إلى فترة من أكثر الفترات التاريخية الإسلامية ضبابية وتضارباً في الأقوال والروايات، وهي فترة خلافة علي بن أبي طالب. بحسب ما يذكره أغلب المؤرخين، وعلى رأسهم كل من ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، وابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ"، وابن كثير الدمشقي في كتابه "البداية والنهاية"، فإنه، وفي أثناء الاشتباكات التي جرت بين جيش العراق وجيش الشام في موقعة صفين عام 657 (37 هـ)، اعترض فريق من جيش العراق على قرار علي بن أبي طالب وقف الحرب وقبول التحكيم، وقام هؤلاء بترك معسكر العراقيين، فاعتزلوهم وساروا إلى منطقة حروراء الواقعة بالقرب من الكوفة، فعسكروا فيها، وصاروا يُعرفون باسم الحرورية نسبةً إليها. وتختلف المصادر التاريخية في تحديد عدد هؤلاء، فابن كثير مثلاً يذكر أنهم كانوا في حدود بضعة آلاف، بينما وردت روايات أخرى في مصنف عبد الرزاق والمعجم الكبير للطبراني تفيد بأن عددهم وصل إلى 24 ألف رجل. رمى الحروريون علي بن أبي طالب بالكفر والخروج عن شرع الله، ورددوا كثيراً عبارة "لا حكم إلا لله" حتى صاروا مشهورين بها، ووجدوا أنفسهم في مأزق حقيقي في ما يتعلق باختيار حاكم لهم، وذلك لأنهم كانوا في ذلك الوقت قد رفضوا كل أشكال السلطة القائمة في بلاد الإسلام. وعملوا على حل هذه الإشكالية عندما اختاروا، وللمرة الأولى في تاريخ المسلمين، أميرين أو إمامين، الأول كان أميراً للصلاة والثاني كان أميراً للحرب. وربما كان ذلك الاختيار متوافقاً مع طبيعة هؤلاء الحروريين وخلفياتهم الفكرية والعقائدية. فمعظم المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال تاريخ خليفة بن خياط، تؤكد على انخراط تلك الفئة في العبادة والزهد والتدين. ومن جهة أخرى فإن معظمهم كانوا من قبيلة تميم، شديدة البأس، والتي خاضت معارك دامية في فترة حروب الردة، وبعدها في فترة الفتوحات في بلاد الشام والعراق. ومن هنا صارت الأولوية عند تلك الفئة للدين والحرب. في ما يخص إمارة الصلاة، فقد تم اختيار عبد الله بن الكواء اليشكري، وهو أحد التابعين. ويذكر عباس القمي في كتابه "الكنى والألقاب" أنه كان كثير المناظرة مع علي بن أبي طالب، وكان دائماً ما يجادله ويسأله في تفسير معاني آيات القرآن. أما بالنسبة إلى إمارة الحرب، فقد اختير لها شبث بن ربعي التميمي، والذي يذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" خبر اشتراكه في العديد من الحروب والمعارك. هذه الإمرة الثنائية سرعان ما انقضت بعد شهور قليلة، وذلك عندما أرسل الخليفة الرابع ابن عمه عبد الله بن العباس ليناظر الحروريين، ويطلب منهم الرجوع مرة أخرى إلى جيش علي. يذكر الطبري في تاريخه أن أكثر الحروريين رجعوا إلى معسكر علي، وكان على رأس الراجعين كل من ابن الكواء وابن ربعي، ما جعل البقية الباقية من الخوارج تقوم باختيار عبد الله بن وهب الراسبي لقيادتهم روحياً وسياسياً، وظل في هذا المنصب حتى قُتل في موقعة النهروان عام 658 (38 هـ). وأثّرت تجربة الحكم الثنائي للحرورية كثيراً في البناء العقائدي للمذاهب القريبة من الخوارج، كالإباضية والصفرية على سبيل المثال، لأنها جعلتهم يرفضون شرط القرشية في الخليفة، كما دعتهم للقول بإمكانية تنصيب خليفتين في وقت واحد، أو القول بعدم وجوب تنصيب خليفة من الأساس كما ذُكر عن بعض فقهائهم مثل أبي بكر الأصم، بحسب ما يذكره القاضي أبو الحسن الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية".الدعوة المرابطية... فقيه مالكي وأمير من البربر
نموذج آخر شهد تشاركية في السلطة بين الفقيه والحاكم هو نموذج يعود إلى بدايات تدشين دولة المرابطين التي ظهرت في أواسط القرن الحادي عشر الميلادي، واستطاعت أن تفرض نفوذها على مساحات شاسعة في بلاد المغرب والأندلس. تُجمع المصادر التاريخية التي تذكر كيفية قيام تلك الدولة على أن الفضل في ذلك يعود إلى أحد الفقهاء المالكيين، وهو عبد الله بن ياسين الجزولي. بحسب ما يذكره ابن عذاري المراكشي في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب"، فإن عبد الله بن ياسين سافر إلى قبيلتي لمتونة وجدالة، وهما من القبائل البربرية التي كانت تسكن بلاد المغرب، وبدأ في شرح الأحكام الدينية والشرعية لسكان تلك النواحي عندما لمس جهلهم بها وابتعادهم عن فهم الدين الصحيح. أثار العمل الدعوي الذي قام به ابن ياسين غضب العديد من أبناء القبيلتين، فقاموا بطرده مع مجموعة من أتباعه، فرحل إلى منطقة معزولة عند مصب نهر السنغال. ومع زيادة شهرة ابن ياسين وسط القبائل، تدفق عليه عدد كبير من الرجال، وبدأ المعسكر الدعوي البسيط يتحول شيئاً فشيئاً إلى كيان سياسي منظم، عندها قام الفقيه بخطوة في غاية الأهمية، وهي إطلاق اسم المرابطين على جماعته الناشئة، إضافة إلى اختياره يحيى بن إبراهيم الجدالي قائداً سياسياً للجماعة.استطاع الحاكم المسلم في معظم الأوقات أن يُحيّد القوة الدينية، أو يجعلها تعمل لخدمته، ولكن هناك نماذج شذّت عن السائد وشهدت توزيع السلطة في البلاد الإسلامية بين زعيم ديني وقائد سياسي...
نموذج خارجي ونموذج سنّي مالكي ونموذج شيعي... عن فترات شهدت تقاسماً للسلطة بين الحاكم وبين الفقيه في التاريخ الإسلاميخطوة ابن ياسين وزّعت النفوذ والسلطة في الجماعة بينه وبين الجدالي، ليحتفظ هو بشؤون الدعوة والعبادات وما يتفرع عنهما من شرح للقرآن والأحاديث النبوية ومسائل فقهية، بينما يتفرغ الثاني لشؤون التعبئة العسكرية والحرب والجهاد. وبعد وفاة الجدالي، قام الفقيه المالكي بتعيين بديل له هو يحيى بن عمر اللمتوني. ومن الملاحظ أن اختياره في تلك المرحلة كان مبنياً على إدراك ووعي بظروف المرحلة الدقيقة التي تمر بها الجماعة، ذلك أن المرابطين في ذاك الوقت كانوا قد تحولوا إلى قوة عسكرية تستعد لغزو بلاد المغرب، وكان اختيار قائد عسكري من قبيلة لمتونة عاملاً يساعد في استقطاب رجال تلك القبيلة المعروفة بكثرة العدد وقوة الشكيمة. ورغم أن ظاهر الأمر يؤكد أن السلطة كانت موزعة بين الفقيه والأمير، إلا أن هناك عدداً من النصوص التي يتضح منها أن النفوذ الروحي لابن ياسين كان يمتد إلى الأمير نفسه. فبحسب ما يذكره ابن عذاري، قام ابن ياسين بضرب يحيى بن عمر بالسياط، عقاباً له على تهوره في إحدى المعارك، وخضع له الأمير وتقبل العقاب دون أن يبدي أي اعتراض. وظلت السلطة موزعة بين الرجلين حتى وفاة يحيى بن عمر اللمتوني، فقام ابن ياسين بتنصيب أخيه أبو بكر بن عمر في منصب أمير الحرب، واستمرت العلاقة بين الرجلين على أحسن حال، حتى قُتل عبد الله بن ياسين في إحدى المعارك في المغرب الأقصى عام 1059، ليتوحد حينها منصبا الزعامة الروحية والزعامة السياسية في شخص أبي بكر بن عمر.
الكركي وطهماسب... اللبنة الأولى لنظرية ولاية الفقيه
نموذج ثالث ينتمي إلى فضاء المذهب الشيعي الإمامي، ويتمثل في اشتراك الفقيه علي الكركي مع الشاه طهماسب في حكم الدولة الصفوية. بحسب المعتقدات التي كانت سائدة بين الشيعة الإثناعشرية، كان من المحرم تحريماً باتاً القيام بتأسيس أي سلطان سياسي في فترة غيبة الإمام المهدي المنتظر، ومعنى ذلك أن الشيعة الإثناعشرية منذ وقوع الغيبة الكبرى في عام 940 (329هـ)، لم يكن باستطاعتهم إقامة دولة مثلما هو الحال مع السنة أو الخوارج. وجدت الدولة الصفوية التي تبنّت المذهب الشيعي الإمامي الإثناعشري نفسها، بعد قيامها في القرن الخامس عشر الميلادي، فاقدةً للشرعية المذهبية، وهو الأمر الذي عانت من نتائجه كثيراً في ظل تنامي التيار الصوفي فيها، وازدياد نفوذه من جهة، وفي ظل عدائها المستفحل مع الإمبراطورية العثمانية التي قدّمت نفسها على أنها حامية لمذهب أهل السنة والجماعة من جهة أخرى. وجد الشاه طهماسب، وهو ثاني حكام الدولة الصفوية، نفسه أمام تلك المشكلة المعقدة بعدما تولى الحكم وهو في الحادية عشرة من عمره. وفي عام 1510، وفي محاولة منه للتغلب على ذلك الموقف الصعب، قام باستدعاء واحد من كبار علماء شيعة جبل عامل (في لبنان حالياً)، وهو الشيخ علي بن الحسين الكركي، المعروف بلقب المحقق الثاني، حسبما يذكر الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه "الطريقة الصفوية ورواسبها في العراق المعاصر". لم يكتفِ الشاه باستقدام الكركي إلى إيران فحسب، بل أقدم على خطوة في غاية الأهمية عندما قلّده منصب شيخ الإسلام، وعيّنه حاكماً شرعياً، واعتبره نائباً عن الإمام الغائب. وفي سبيل إقرار سلطة الفقيه العاملي، أصدر طهماسب مرسوماً إلى جميع نواحي إمبراطوريته، جاء فيه: "إن كل مَن يخالف حكم خاتم المجتهدين، ووارث علوم سيد المرسلين نائب الأئمة المعصومين ولا يتابعه، فإنه لا محالة ملعون مردود وعن مهبط الملائكة مطرود، وسيؤاخذ بالتأديبات البليغة والتدبيرات العظيمة"، حسبما أورد الكركي في كتابه "جامع المقاصد في شرح القواعد". وخلال فترة قصيرة، استطاع الكركي أن يشاطر الحاكم الصفوي نفوذه وسيطرته، وهو الأمر الذي يصفه الدكتور علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" بقوله: "الكركي أصبح هو الحاكم الفعلي في عهد طهماسب". أما عن نطاق سلطة الكركي فقد كان متسعاً إلى أقصى حد. فبحسب ما أورد العلامة محمد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني في كتابه "روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات"، بسط الفقيه الشيعي هيمنته على جميع الشؤون الدينية، وقام بنشر أصول وتعاليم التشيع في جنبات الدولة الصفوية، وخصص مبالغ طائلة من خزينة الدولة في سبيل تحقيق مشاريعه العلمية والدينية. وظهرت سلطة الكركي بشكل جلي عندما عارض طهماسب في مسألة قتل بعض علماء السنة، وكذلك عندما أمر بهدم الكثير من المساجد بدعوى أن اتجاه القبلة فيها غير صحيح، دون أن يلتفت إلى معارضة رجال الدين الإيرانيين. أما أكثر الأمور التي توضح تعاظم سلطة الفقيه العاملي فكانت قدرته على عزل بعض الوزراء وكبار رجال الدولة، وتعيين بدلاء لهم ممن يتفقون مع آرائه، حسبما يذكر المؤرخ الفارسي حسن بيك روملو في كتابه "أحسن التواريخ". ورغم أن العديد من الأسباب اجتمعت مع بعضها البعض، عقب وفاة الكركي عام 940، لتمنع تكرار تجربة حكم الفقيه مرة أخرى في الدولة الصفوية، إلا أن تجربة مشاركة الفقيه العاملي في السلطة بقيت علامة مميزة في الذاكرة الشيعية، حتى تمكن روح الله الخميني من استدعائها مرة أخرى عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ليستخدمها في سبيل بناء وتشكيل نظريته السياسية الداعية إلى ولاية الفقيه، وهي النظرية التي تُحكم بها إيران حتى هذه اللحظة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون