يقول الكاتب هشام جعيط في كتابه "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، معلقاً على حركة الفتوحات الإسلامية المبكرة في صدر الإسلام وعصر الخلافة الراشدة، إنه "ما من شيء وحّد العرب كالفتح".
والحقيقة أن هذا الرأي صحيح إلى حد كبير، فقد كانت حركة الفتوحات الإسلامية هي الوسيلة التي حفظت الدولة الإسلامية الوليدة ورفعت من مكانتها وقوّت شوكتها، فدخلت القبائل العربية تحت لوائها وحاربت تحت رايتها وعملت على توسيع رقعة سلطانها ونفوذها.
وكانت مسألة السرعة الفائقة التي تمت بها الموجة الأولى من الفتوحات من أكثر الظواهر التي أثارت اندهاش الباحثين والمؤرخين. كما أن توقف تلك الفتوحات بشكل شبه كامل في النصف الثاني من عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان طرح أيضاً العديد من علامات الاستفهام والتعجب.
وجهة النظر التقليدية: الفتنة الكبرى أوقفت الفتوحات
بحسب وجهة النظر السائدة، بشكل علني أو ضمني مستتر، في كتابات العديد من المؤرخين المسلمين القدامى، ومنهم على سبيل المثال الطبري في تاريخه، وابن الأثير في الكامل، وابن كثير في البداية والنهاية، كان توقف حركة الفتوحات نتيجة منطقية لأحداث الثورة والفتنة التي اندلعت في أواخر حكم الخليفة الثالث. هذا الاعتقاد وصل إلى درجة من التواتر والذيوع إلى الحد الذي جعل الأغلبية الغالبة من رجال الدين والباحثين المعاصرين يسلمون ويصرحون به دون نقاش. فعلى سبيل المثال، يقول الشيخ محب الدين الخطيب (ت. 1969) في حاشيته على كتاب "العواصم من القواصم" لأبي بكر ابن العربي، معلقاً على دور الثوار في تعطيل حركة الفتوحات: "إنّ الشرّ الذي أقحموه على تاريخ الإسلام بحماقاتهم، وقصر أنظارهم، لو لم يكن من نتائجه إلا وقوف حركة الجهاد الإسلامي فيما وراء حدود الإسلام سنين طويلة لكفى به إثماً وجناية". كما يقر بهذا الرأي الباحث أحمد سعد العش، في كتابه "تدوين السنة النبوية"، عندما يقول: "كانت الفتوحات الإسلامية قد توقفت تماماً بعد نشوب الفتنة بين المسلمين، ومقتل عثمان بن عفان، وظلت هذه الفتوحات متوقفة في عهد علي بن أبي طالب، وكذا في الفترة التي قضاها الحسن بن علي في خلافة المسلمين". غير أن هناك وجهة نظر مخالفة ترى أن تعطل حركة الفتوحات بالأساس لم يكن نتيجة للفتنة، بل كان في الحقيقة سبباً لاندلاعها، ما يقتضي مناقشة نقطتين: الأولى، الأسباب المنطقية التي أدت إلى تعطل حركة الفتوحات؛ والثانية، الكيفية التي أثر بها ذاك التعطّل في اشتعال الثورة.لماذا تعطلت حركة الفتوحات زمن عثمان؟
سار عثمان على خطى السياسة العمرية في مسألة متابعة حركة الفتوحات وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية. وبحسب ما تذكره الدكتورة فاطمة جمعة في كتابها "الاتجاهات الحزبية في الإسلام"، استمر الخليفة الثالث في ما قام به عمر بن الخطاب من استخدام للقبائل العربية التي كانت قد شاركت في حركة الردة بعد وفاة الرسول، فجنّد أبناءها وأرسلهم ضمن الجيوش المرسلة إلى الجبهات المختلفة. وهذه السياسة تبدو منطقية، خصوصاً أن تلك القبائل زاد ارتباطها بالدولة في زمن عمر، بعدما شعر أبناؤها بأن مركزية الدولة وسلطويتها، والتي كانت سبباً رئيسياً في ردتهم وخروجهم عليها في زمن أبي بكر، هي نفسها سبب ما حصّلوه من مغانم وفيء وأملاك هائلة في زمن الخليفة الثاني. وعمل عثمان على استكمال حركة الفتوحات على الجبهات التي شاركت فيها جيوش المسلمين في السابق، فقام بفتح العديد من البلدان والأقاليم. غير أننا نلاحظ أن معظم المصادر التاريخية المهمة، مثل تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير، ذكرت أن جميع تلك الفتوحات حدثت في الفترة الواقعة بين عام 23هـ وهو العام الذي تولى فيه عثمان الخلافة وعام 27هـ، أي أن تلك الفتوحات استغرقت خمسة أعوام تقريباً من خلافة عثمان التي امتدت على مدار 12 عاماً. وهذا يطرح تساؤلاً: لماذا لم تقع فتوحات جديدة مهمة بعد عام 27هـ، رغم أن الفتنة الكبرى لم تندلع بشكل فعلي إلا في أواخر عام 35هـ؟بدأت مغانم الفتوحات تقل بشكل كبير منذ منتصف عهد الخليفة عثمان، فأدرك المحاربون المسلمون أنهم أخطأوا عندما رضوا بترك مكاسبهم العقارية التي كانت في أيديهم عقب فتح العراق والشام...
حدثت الفتوحات في عهد الخليفة عثمان في الفترة الواقعة بين عامي 23 و27هـ، فلماذا لم تقع فتوحات جديدة مهمة في السنوات السبع اللاحقة من خلافته؟إذا ما رجعنا إلى المصادر التاريخية، سنجد أن المسلمين اصطدموا في تلك الفترة بقوى جديدة لم يحسبوا حسابها من قبل. ففي زمن أبي بكر وعمر، كان العرب المسلمون يتوسعون في أقاليم وبلدان تسكنها شعوب حضرية زراعية ذات طبيعة هادئة مستقرة، كما أن الفرس والبيزنطيين الذين كانوا يفرضون سلطانهم ونفوذهم على تلك الأقاليم كانوا أكثر حضارة وتقدماً ورقياً من العرب الذين طبعتهم الصحراء القاحلة بطابعها القاسي العنيف، ما جعلهم يعتادون على الحياة الخشنة الصعبة وسط ظروف مناخية وبيئية قاسية وصراعات قبلية لا تنتهي. كان العرب إذن أكثر "وحشية" من الشعوب المجاورة لهم، وبتلك الصفة استطاعوا التمدد في تلك الأقاليم بسرعة مذهلة، وهو ما يتوافق مع ما أقر به ابن خلدون في مقدمته عندما قال "إن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها". ولكن في زمن عثمان، تغيّر الوضع كثيراً عن ذي قبل، فقد وجد المسلمون أنفسهم في وجه قبائل أشد بداوة من بداوتهم وأكثر تعصباً وعنفاً مما اعتادوا عليه في موطنهم الأول في شبه الجزيرة العربية. فعلى الجبهة المصرية، وجد المسلمون أنفسهم في مواجهة قبائل النوبة التي تستوطن جنوب مصر، وتتميز بالبأس الشديد والقوة والصرامة. وتوجد العديد من الروايات التاريخية التي تذكر أن عبد الله بن سعد بن أبي السرح، والي مصر، قام بمحاولة لغزو النوبة في عام 31هـ، ولكنه فوجئ بمقاومة النوبيين الشديدة لقواته، حتى أن الفريقين "اقتتلا قتالاً شديداً"، كما يذكر ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر وأخبارها". واضطر ابن سعد في النهاية إلى التراجع عن خططه التوسعية، ورجع إلى الفسطاط بعد أن كان قد وصل في خط سيره حتى حدود دنقلة، وقام بعقد هدنة واتفاق مع أهل النوبة على "أنهم لا يغزونهم، ولا يغزو النوبة المسلمين" وتم تبادل الهدايا بين الجانبين، بحسب رواية ابن عبد الحكم. ولعل الرواية التي يذكرها المؤرخ السابق، والتي تقول إن الصلح تم بعد أن هادنهم عبد الله بن سعد "إذ لم يطقهم"، تعبّر بوضوح عن الصعوبات التي لاقاها المسلمون أثناء قتالهم مع قبائل النوبة. أما على جبهة "إفريقية"، فإن المسلمين وجدوا أنفسهم يصطدمون بقبائل البربر القوية ذات البأس والشدة والعزم، والتي رفض أبناؤها الخضوع للعرب فوقفوا في وجههم وعطلوا حركة تقدمهم، وحشدوا حشودهم في مواجهة جيوشهم، واستطاعوا أن يُلحقوا بهم عدداً من الهزائم المتعاقبة، فلم يثبت سلطان المسلمين هناك ولم يتمكن الإسلام من دخول معاقل البربر الحصينة، حتى عهد موسى بن نصير في زمن خلافة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، في العقد العاشر من القرن الأول الهجري، بحسب الطبري في تاريخه. أما على جبهات القتال في أذربيجان، فقد وجد المسلمون أنفسهم في مواجهة قبائل الأتراك ذات العدد والعدة، والتي لطالما عرفت بقوتها الشديدة واندفاعها للقتال والحرب. ويذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ، أن المسلمين تعرّضوا لهزيمة قاسية أمام الأتراك عام 32هـ، وكانت المشكلة الأكبر أن تلك الهزيمة رفعت من الروح المعنوية للقبائل التركية وجيرانها من قبائل الخزر، ما أسفر عن تشجع الأتراك على قتال المسلمين. ويفسر ابن خلدون ذلك بقوله: "كان الترك والخزر يعتقدون أن المسلمين لا يُقتلون لما رأوا من شدتهم وظهورهم في غزواتهم، حتى أكمنوا لهم في بعض العياض فقتلوا بعضهم فتجاسروا على حربهم".
أثر توقف الفتوحات في اندلاع الثورة
يذكر الطبري في تاريخه أنه في بدايات عهد عثمان، كان هناك 40 ألف مقاتل في الكوفة يقومون بعمليات الغزو والفتح في مناطق الري وأذربيجان وأرمينية، وأنه في كل عام كان يتم حشد عشرة آلاف منهم للقيام بأعمال الغزو، وبذلك يكون نصيب المقاتل الواحد من المسلمين غزوة واحدة كل أربعة أعوام. وكان الكثير من المقاتلين المسلمين ينتظرون موعد مشاركتهم في الغزو بفارغ الصبر، لأن المغانم التي كانوا يغنمونها أثناءه كانت تمثل القسم الأكبر من دخلهم ومواردهم المالية والاقتصادية، ذلك أنه كان يتم توزيع المغانم على الجنود بشكل متساوٍ بعكس الأعطيات التي كانت توزع بمعايير الأسبقية في الإسلام والانتساب إلى قبيلة قريش، وهو الأمر الذي كان يعني أن الأغلبية الغالبة من الجند المقاتلين سوف تقل عوائدهم المالية بشكل كارثي، لكونهم أسلموا في وقت متأخر من جهة ولأنهم بعيدو الصلة عن قريش من جهة أخرى. وبحسب ما يذكر حسين مؤنس في كتابه "تاريخ قريش"، بدأت مغانم الفتوح تقل بشكل كبير منذ منتصف عهد عثمان. ويذكر كارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية"، أنه في تلك اللحظة التاريخية المهمة تحديداً، أدرك المحاربون المسلمون أنهم أخطأوا عندما رضوا بترك مكاسبهم العقارية التي كانت في أيديهم عقب فتح بلاد العراق والشام، وتخلوا عنها للدولة زمن الخليفة الثاني، وأحسوا بأن فضل الفتوحات الإسلامية إنما يعود إليهم في الأساس وبأنه لا فضل للدولة في ذلك، خصوصاً وأن الآلاف من الذين قُتلوا أثناء معارك التوسع المتلاحقة هم من قبائل ثقيف وشيبان وتميم والأزد، بينما لم تضطلع القبيلة الحاكمة، قريش، إلا بدور هامشي في تلك المعارك. هنا بدأت تلك القبائل تحاول منازعة سلطة الدولة القريشية المركزية، وظهر ذلك بشكل جلي عندما طلبوا من الخليفة عثمان أن يقتصر العطاء على المقاتلين وأصحاب الرسول فقط لا غير، وألا يتم إعطاء أية أموال لباقي المسلمين الذين لا يشاركون في الغزو، وهو الأمر الذي تفهمه عثمان ووافق عليه، حتى خطب فقال: "ألا مَن كان له زرع فليلحق بزرعه، ومَن كان له ضرع فليحلب، إلا أنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمَن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد"، حسبما أورد مسكويه في كتابه "تجارب الأمم". ولكن تلك المحاولات التي قام بها الخليفة لتسكين خواطر المحاربين الناقمين لم تأت أُكلها بعد أن احتشدت الكثير من العوامل السياسية والاجتماعية والقبلية بعضها مع البعض، واستطاعت في نهاية المطاف أن تُحدث تغييراً سياسياً هائلاً في الدولة الإسلامية، وذلك عندما اندلعت ثورة الأمصار في نهايات عام 35هـ، لتبدأ فترة الحرب الأهلية التي اعتادت المصادر التاريخية الإسلامية أن تشير إليها باسم "الفتنة الكبرى".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه