"انتظر حتى تصبح جائعاً لتقول شيئاً ما، انتظر حتى تشعر بالألم الذي يجعلك تتحدث".
لا شك أن القصة كلها تبدأ من العقل الباطني، فالكتابة هي الوسيلة التي يلجأ إليها بعض الأشخاص لترجمة مشاعرهم من أجل أن يشفوا من جراحهم ويتمكنوا من رؤية الأمور بموضوعية.
ففي المواقف الصعبة التي يطغى عليها الغضب، الحزن، الظلم، اليأس... يجد البعض أنفسهم وحيدين، فيشكون للورقة أمرهم ويبوحون لها بأسرارٍ قد يعجزون عن التّفوه بها لأي شخص.
الكتابة للشفاء جسدياً
في العام 1986، اكتشف أستاذ علم النفس "جيمس بينيبكر" أمراً غير مألوف، يمكن أن يلهم جيلاً كاملاً من الباحثين لإجراء مئات الدراسات. فبحسب موقع "بي بي سي"، فقد طلب "بينيبكر" من طلابه تمضية 15 دقيقة وهم يكتبون عن أكبر صدمةٍ مروا بها في حياتهم، أو أصعب وقتٍ اختبروه، بشرط أن تكون كتابتهم عميقة ونابعة من القلب. وبعد 4 أيام، أعاد تكرار هذه التجربة التي لم تكن سهلة على الإطلاق، إذ بدأ واحدٌ على الأقل من أصل 20 طالباً في البكاء خلال الكتابة، واللافت أنه عندما سُئل هؤلاء هل يرغبون في الاستمرار بالكتابة أم لا، كانوا يختارون دوماً مواصلة التجربة. في الوقت نفسه، كانت هناك مجموعة أخرى من الطلاب تمارس تمرين الكتابة لنفس المدة، لكنهم كانوا يكتبون ليصفوا الأشياء المحيطة بهم، مثل الشجرة أو غرفة النوم. وكان "بينيبكر" يراقب طوال 6 أشهر عدد المرات التي زار فيها هؤلاء الطلاب المركز الصحي، فلاحظ أن المشتركين الذين كتبوا عن مشاعرهم قاموا باستشاراتٍ طبيةٍ أقل من غيرهم.ماذا عن علاقة الكتابة بجهاز المناعة؟
اهتم الخبراء في علم النفس والأعصاب بالعلاقة بين الكتابة التعبيرية وعمل الجهاز المناعي، فعملت الدراسات على معرفة مدى تأثير الكتابة على بعض الأمراض مثل الربو، التهاب المفاصل، سرطان الثدي، الصداع النصفي. via GIPHY وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجريت في كانساس أن النساء المصابات بسرطان الثدي تعرضن لأعراض انزعاج أقل من غيرهنّ في الأشهر التي تلت قيامهنّ بالكتابة التعبيرية. في سياق متصل، لاحظ "بينيبكر" أن بعض أنواع الكلمات المستخدمة قد تغيرت على مدار الجلسات، فأولئك الذين التأمت جروحهم بشكلٍ سريعٍ كانوا قد بدأوا الكتابة باستخدام الضمير المتكلم "أنا"، لكنهم في الجلسات اللاحقة انتقلوا إلى قول "هو" أو"هي"، مما يعني أنهم باتوا ينظرون إلى الحدث من وجهات نظر أخرى، كما أن استخدامهم لكلمة "بسبب" يعني أنهم كانوا يفهمون الأحداث ويضعونها في سردٍ معيّن.النساء المصابات بسرطان الثدي تعرضن لأعراض انزعاج أقل من غيرهنّ في الأشهر التي تلت قيامهنّ بالكتابة التعبيرية.
تساعد الكتابة على تأطير الأحداث في حياتنا، ويمكن أن تنحدر إلى جذور الألم، مما يساعدنا في العثور على الحرية الداخلية.وعليه، اعتبر "بينيبكر" أن مجرد تحويل المشاعر الشخصية إلى قصص يؤثر بطريقةٍ ما على جهاز المناعة. وبعد مرور اليوم الأول على الكتابة، كشف معظم المشتركين أن تأجيج الماضي جعلهم يشعرون بالأسوأ، مما يطرح السؤال التالي: هل يتسبب الإرهاق بإفراز هرمونات الإجهاد مثل الكورتيزول الذي يعد مفيداً على المدى القصير، ويمكن أن يعزز نظام المناعة أم أن التحسن في المزاج الذي أعقب الكتابة هو الذي أثر على الجهاز المناعي؟ الإجابة حتى هذه اللحظة غير معروفة.
الشفاء النفسي
يعتقد البعض أن الكتابة محصورة بالكتاب وبالأدباء، إلا أنها للجميع، وفق ما تؤكده "جوليا كاميرون" في كتابها An Invitation and Initiation into the Writing Life بالقول:"أعتقد أننا جميعاً ندخل الحياة ككتّاب". في الواقع لم يعد البوح بالمشاعر عبر الكتابة موضوعاً محظوراً، إذ يفضل العديد من الناس وضع أفكارهم على الورق حيث "يمكنهم التنقل في المياه المريرة سواء كانت في الماضي أو في الحاضر من دون خجل". معروف أن الكتابة هي نوع من أنواع العلاجات النفسية التي تساعد الدماغ على التغلب على الاضطرابات العاطفية، وتجعل الإنسان أكثر سعادةً. ويعتبر عالم النفس الأميركي "جوشوا سميث" أن الكتابة هي وسيلة فعالة تساعد الناس على ترجمة تجاربهم والغوص في أعماقهم، يقول:" تساعد الكتابة على تأطير الأحداث في حياتنا، ويمكن أن تنحدر إلى جذور الألم، مما يساعدنا في العثور على الحرية الداخلية". via GIPHY إليكم بعض الأسباب التي تجعل الكتابة وسيلةً مهمةً للخروج من الأزمات النفسية: الكشف عن الذات: توفر الكتابة منصة حرة حيث تحظون بمطلق الحرية للتعبير عن مكنوناتكم من دون رادعٍ أو خوفٍ. واللافت أن الكتابة تفتح عقلكم وقلبكم للسماح بالبدء بعملية الشفاء، بشرط أن تكونوا صادقين مع أنفسكم ومع مشاعركم:"افصحوا عن حقيقة سلوككم، وأفكاركم، ودوافعكم وأفعالكم، ففي النهاية إن لم تكونوا صادقين مع أنفسكم، فلن تكونوا صادقين مع الآخرين". التعامل مع الألم: إن الصدمة النفسية التي لا يمكن التعامل معها تكون خطيرة لأنها مؤلمة، وبالتالي نعجز عن معالجتها إلا بالكتابة التي قد تكون مناسبة للتنفيس عن المشاعر السلبية ومواجهة الأحداث التي تؤثر على حياتنا اليومية، فالأفكار والمشاعر والعواطف تتدفق أكثر لدى كتابتها. مواجهة الموقف: عندما نكتب عن تجربةٍ مؤلمةٍ، فإننا نرسم طريقاً يقود نحو شفاء الجروح القديمة. وبالتالي فإن الكتابة تسمح بمواجهة الموقف الذي يسبب لنا الألم والشفاء منه. والأهم أنها من دون قيود إذ تكون لديكم الحرية الكاملة للبوح بأفكاركم، فلا شيء يمكن أن يساعدنا في التغلب على الألم والتخلص منه ما لم تتم مواجهته. تصفية الذهن: جرّاء المشاعر والأفكار قد تحدث الكثير من الاضطرابات في عالمكم الخاص، واللافت أن الكتابة تمكنكم من التخلص من الأفكار السلبية ومن الاكتئاب، من هنا تعتبر الكاتبة "ليندا مونك" أن "الكتابة التعبيرية تساعدنا على التحكم بشكلٍ أفضل بعواطفنا". التروي: بمعزل عن المرحلة التي تمرون بها في الوقت الحالي، فإن الكتابة ستساعدكم على التروي وأخذ الأمور بعقلانيةٍ أكثر، مما يخفض من حدّة التوتر ويساعدكم على التحكم بأفكاركم السامة وبعواطفكم، وعلى تدريب عقلكم وجسمكم على الهدوء. استعادة الأمل: من خلال تدوين نجاحاتكم، يصبح من السهل عليكم استعادة الأمل. فزرع الأمل يتطلب الشجاعة الكافية لاتّخاذ الخطوة الأولى للأمام، والكتابة تشق الطريق إلى الشفاء النفسي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون