شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"وكل مكان لا يؤنَّث، لا يُعوَّل عليه": عن التصوف الإسلامي عند النساء المتعبدات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 5 نوفمبر 201710:41 ص
على امتداد الحضارة الإسلامية، برز عددٌ من الأمثلة الصوفية النسائية، أثّرت حياتهن وكتاباتهن في تاريخ تطور التصوف الإسلامي. تتبع المقالة أخبار عباداتهن وزهدهن وكراماتهن شرقاً وغرباً، وأنبائهن التي تطايرت في الآفاق.

حفصة بنت سيرين: أحد النماذج الأولى للتصوف النسائي

في الفترة الأولى من الإسلام، لم يظهر التصوف، كمذهب روحي متفرد متكامل السمات والمعالم، بل اقتصرت إرهاصاته الأولى على الميل للزهد والتقشف والبعد عن ملذات الدنيا الزائلة. في تلك المرحلة، ظهرت العديد من النساء، اللاتي عُرفن بتلك الصفات، ومن أشهرهن حفصة بنت سيرين أخت التابع محمد بن سيرين. بحسب ما تذكر المصادر التاريخية، فإن حفصة التي تربت في حجر عدد من كبار الصحابة وأمهات المؤمنين، تأثرت كثيراً بالأجواء الروحانية المحيطة بها، فأقبلت على العبادة بشكل أثار دهشة المحيطين بها، فقد ذكر ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة، أن حفصة كانت تصوم الدهر كله، ما عدا أيام الأعياد التي يحرم الصوم فيها، كما قيل إنها كانت تقرأ نصف القرآن كل يوم. ويذكر شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، أن حفصة قد ظلت مقيمة على العبادة في دارها لمدة ثلاثين عاماً كاملة، ولم تخرج منه إلا لظرف طارئ، كما عُرف عنها كثرة ذكرها للموت، حتى كانت قد اعتادت على ارتداء كفنها استعداداً وانتظاراً له.

متصوفات البصرة

مع بدء أواخر القرن الأول الهجري، بدأت مدينة البصرة، تشهد تشكل تيار صوفي نسائي متميز، حيث ظهرت العديد من المتصوفات البصريات اللاتي ذاع واشتهر أمر تصوفهن وزهدهن في الكثير من المصادر التاريخية. وفي كتابه ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، يورد أبو عبد الرحمن السلمي المتوفي في 412هـ، أسماء العديد من متصوفات البصرة في تلك المرحلة، حيث يذكر منهن غفيرة العابدة، والتي اشتهرت بكثرة البكاء من خشية الله، حتى أصيبت في نهاية المطاف بالعمى، ولما قال لها بعضهم، ما أشد العمى، قالت "الحجاب عن الله أشد، وعمى القلب عن فهم مراد الله في أوامره أشد وأشد". ويذكر ابن الجوزي، أن غفيرة كانت دائمة الذكر، حتى أنها كانت تنتهز كل مناسبة لذكر الله، وقد روي عنها أنه لما قدم إليها أحد أبنائها، وكان مسافراً في مكان بعيد، أنها لما لقيته بكت بكاء شديداً، فقيل لها ما يبكيك وهذا يوم فرح؟ فقالت "والله ما أجد للسرور في قلبي موضعاً، ولقد ذكرت في قدومه، القدوم على الله عز وجل". 
شهيدة الحب الإلهي، وأم الفقراء، وأعلام الصوفية النسائية في التاريخ الإسلامي
شيخات ابن عربي المتعبدات اللواتي أثرن به بحياتهن وعبادتهن وكتاباتهن
ومن متصوفات البصرة أيضاً، عافية المشتاقة، ويذكر السلمي أنها كانت كثيرة الذكر، وقلما أنست إلى أحد من البشر، وقيل إنها كانت تحيي الليل كله بالعبادة والصلاة وقراءة القرآن، أما النهار فكانت تأوي فيه إلى المقابر، وتقول "المحب لا يسأم من مناجاة حبيبه ولا يهمه سواه واشوقاه واشوقاه واشوقاه". أما ريحانة الوالهة، فكانت من متصوفات البصرة اللاتي احتفظت لنا المصادر التاريخية ببعض من أشعارهن العذبة في وصف العلاقة مع الذات العليا، حيث ورد عنها قولها: أنت أنسي وهمتي وسروري    أبى القلب أن يحب سواكا عزيـزي وهمتـي ومـرادي    طال شوقي متى يكون لقاكا غير سؤلي من الجنان نعيم    غير أني أريد أن ألقاكا

أخوات بشر الحافي

كان بشر بن الحارث، الذي اشتهر باسم بشر الحافي من أهم الصوفية والزهاد الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري، ولكن مما زاد من شهرة بشر، رابطة الأخوة التي جمعته مع ثلاثة من المتصوفات الشهيرات، وهم مضغة ومخة وزبدة، حيث تذكر الكتابات التاريخية، ومنها على سبيل المثال وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان المتوفي 681هـ، أن كلاً من الأخوات الثلاث قد عُرفن بالزهد والتصوف، فكن مع أخيهن بشر من أعلام التصوف في عصرهن. وقد ورد عن بشر الاعتراف بفضل إخوته عليه، حيث يذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة، أن الصوفي الحافي قد قال عن أخته الكبرى مضغة "إني تعلمت الورع منها، فإنها كانت تجتهد ألا تأكل ما للمخلوق فيه صنع"، كما يذكر أنه لما ماتت مضغة، فإن بشراً قد حزن عليها حزناً شديداً، وبكى عليها كثيراً، فلما عاتبه البعض في ذلك، قال لهم "قرأت في بعض الكتب أن العبد إذا قصر في خدمة ربه سلبه أنيسه، وهذه كانت أنيستي في الدنيا". أما مخة، فيورد ابن كثير في البداية والنهاية، ما يدل على زهدها وبعدها عن الحرام، ذلك أنها قد ذهبت في يوم من الأيام إلى الإمام أحمد بن حنبل، لتسأله عن مسألة، فلما قابلته قالت له أنها تشتغل بصناعة الغزل، وأنها قد اعتادت على أن تمارس عملها على ضوء السراج، وفي بعض الأوقات ينفذ زيت السراج، فتخرج لتواصل عملها على ضوء القمر، وأنها تخاف أن يكون هناك اختلاف في الجودة ما بين غزل السراج وغزل القمر، فعجب ابن حنبل من ورعها وأشاد بها. أما الأخت الثالثة، زبدة، فروي عنها عدد من الأقوال الحكيمة، ومن ذلك ما أورده ابن الجوزي من قولها "أثقل شيء على العبد الذنوب وأخفه عليه التوبة، فماله يدفع أثقل شيء بأخف شيء؟"

شيخات ابن عربي

كان شيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي المتوفى 638ه، من أكثر الصوفية اعترافاً بقدر المرأة وبمكانة بعض المتصوفات اللاتي قابلهن في رحلته الطويلة، حتى أنه قد أشار لفضل الأنوثة في رسالته الشهيرة المعنونة برسالة الذي لا يعول عليه، عندما قال "وكل مكان لا يؤنث، لا يعول عليه". وفي موسوعته الكبرى المسماة بالفتوحات المكية، يذكر ابن عربي أخبار عدد من النساء المتصوفات اللاتي تتلمذ على أيديهن، وتعلم منهن كيفية السلوك في دروب الروحانية الصوفية الوعرة، بحيث توغل فيها بعد ذلك، لحدود لم يصل إليها أحد من سابقيه أو لاحقيه. كانت فاطمة بنت المثنى القرطبي، هي أولى شيخات ابن عربي، حيث تعرف بها الصوفي الأندلسي في مدينة إشبيلية حيث سكنت، وكانت علاقته بها مميزة، فهو اعتاد أن يصفها عبر صفحات كتابه بأمه، كما أنه تطرق كثيراً للسنوات التي قضاها في خدمتها، وكيف أنه قد بنى لها بيتاً صغيراً من الخوص، وكان يمكث خارجه في انتظار خروجها من عبادتها وصلواتها. واعترف ابن عربي كذلك، بولايتها الروحانية عليه، وبأنه تعلم منها قواعد الصوفية، حتى أنه قال عنها "لم أر في الرجال والنساء أشد ورعاً ولا اجتهاداً منها". وذكر ابن عربي كذلك بعض من كراماتها، ومن ذلك أنه لما نفذ زيت السراج من عندها، فتحت الباب لتجد زيتاً مرسلاً لها من عند الله. أما ثانية شيخات ابن عربي، فكانت شمس التي يلقبها الشيخ الأندلسي في كتابه بأم الفقراء، وقد وصفها بقوله "لم أر أحداً من الرجال كان يقدر على ما تقدر عليه من العبادة، وهي من أكابر المجتهدات، كانت حاكمة على وهمها، كثيرة الوصال في الصوم، على كبر سنها". وفي مكة، تعرف ابن عربي على جارية قسيم الدولة، والتي يذكر أنها كانت على قدر كبير من الزهد والعبادة، حتى أنها قد أوتيت كرامة مخاطبة الجبال والأحجار والأشجار، فكانت كلما خرجت إلى الخلاء، خاطبتها الموجودات قائلة "مرحباً مرحباً". ويذكر ابن عربي أيضاً، خبر شيخته زينب القلعية، التي تتلمذ على يدها في كل من الأندلس والحجاز، ويورد صاحب الفتوحات عدداً من كرامتها، ومنها إنها كانت إذا جلست تذكر الله، ارتفعت على الأرض، حتى إذا سكتت عن الذكر، عادت إلى الأرض برفق. 

رابعة العدوية وعائشة الباعونية: أشهر المتصوفات في الإسلام

تُعتبر كلّ من رابعة العدوية وعائشة الباعونية، أشهر نموذجين للمتصوفات المسلمات طوال تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. بالنسبة لرابعة العدوية التي توفيت في حدود 180هـ، فلا توجد الكثير من التفاصيل عن حياتها ونشأتها، ولكن يظهر من المعلومات التي أوردها السلمي في كتابه، أنها قد ولدت في أسرة فقيرة بالبصرة، وأنها قد سميت برابعة لكونها البنت الرابعة لأبيها. وتؤكد الأخبار التاريخية، أن رابعة كانت شيخة لعدد من فقهاء عصرها، ومنهم سفيان الثوري، الذي ورد أنه ذهب كثيراً لها، للسؤال عن بعض ما أُشكل عليه فهمه من أمور الدين. وتُعد رابعة صاحبة مدرسة صوفية متميزة، تختلف كثيراً عما سبقها من أشكال الممارسات الروحية الإسلامية، حيث اعتمدت مدرسة رابعة، على مسألة الحب، حتى عُرفت باسم شهيدة الحب الإلهي، وكانت تلك المدرسة تقوم على ملء قلب الصوفي بحب الله وحده، بحيث لا يشترك معه في هذا الحب أحد من خلقه. وقد حُكي عن رابعة العديد من أبيات الشعر الصوفي، التي لاتزال أصداؤها تتردد في ساحات المجالس واللقاءات الصوفية، ومن ذلك قولها: عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبي عمن سواك وكنت أناجيك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراك أحبك حبين حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاك أما عائشة الباعونية التي توفيت في 922هـ، فكانت هي الأخرى من أشهر الصوفيات اللاتي ذاعت أخبارهن في الأمصار، وكانت قد تتلمذت على يد مجموعة من كبار شيوخ زمنها في مصر والشام، حتى أجيزت لها الفتوى من قبلهم، وصارت واحدة من كبار علماء عصرها. وتعتبر الباعونية من الصوفيات القلائل اللاتي نُقلت إلينا بعضاً من أرائهن وأفكارهن، من خلال مجموعة الكتب التي صنفتها في العلوم الروحية والفكر الصوفي، ومنها الفتح الخفي، در الفائض في بحر المعجزات والخصائص، والإشارات الخفية في المنازل العلية، وغيرها من المؤلفات التي وصلت لما يقرب من الثلاثين كتاباً. ورغم أن أكثر تلك الكتب قد ضاع، ولم يصلنا منه إلا ما أورده المؤرخين وأصحاب التراجم في مصنفاتهم، إلا أن كتاب الفتح المبين في مدح الأمين، كان من ضمن مؤلفات الباعونية القليلة التي وصلتنا كاملة. وهو كتاب صنفته صاحبته في مدح الرسول الكريم، مليء بالإشارات الصوفية، التي تتشابه في الكثير من النقاط مع أشعار البوصيري في بردته المشهورة، وغيره من شعراء الصوفية الكبار الذين دأبوا على مدح الرسول في أشعارهم. ومن الأشعار التي أنشدتها عائشة الباعونية في مدح الرسول، قولها: فلا خوف وأنت أمان قلبي   ولا سقم وأنت لي الطبيب ولا حزن وأنت سرور قلبي   ولا سؤل وأنت لي الحبيب صورة المقال من مقتنيات المتحف السنسكريني للنسيج الهندي

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image