شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لماذا لا يعود الطلاب التونسيون إلى بلدهم بعد الدراسة في الخارج؟

لماذا لا يعود الطلاب التونسيون إلى بلدهم بعد الدراسة في الخارج؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اقتصاد

الاثنين 4 يونيو 201806:46 م
عندما غادر زياد القاسمي تونس، عام 2010، لم يكن يتجاوز الـ19 من العمر بعد. في مدينة ليون الفرنسية، درس هندسة الاتصالات محدّثاً نفسه بالعودة إلى بلده بعد الحصول على الشهادة الجامعية، عودة بقيت مؤجلة لسنوات، ليجد نفسه مستقراً في بلد جديد. زياد ليس استثناءً. رغم ارتفاع تكاليف الدراسة في الخارج، ما يضطر عائلات الطالب الراغب في اتخاذ هذه الخطوة إلى إنفاق مبالغ طائلة نظير تكاليف الدراسة والإقامة، فإن ظاهرة هجرة الطلاب التونسيين إلى الخارج في تزايد مستمر، وظاهرة بقائهم في المهاجر بعد نهاية الدراسة في ارتفاع أكبر. وتزداد رغبة الطلاب التونسيين في مواصلة دراساتهم العليا في الخارج، في اختصاصات علمية تشهد ارتفاعاً في الطلب عليها، على غرار الهندسة والعلوم الطبية وشبه الطبية وغيرها.

نريد العودة ولكن...

اللافت للانتباه هو نزوع الطلاب التونسيين المهاجرين نحو إيجاد فرص عمل في الدول التي يتوجّهون إليها للدراسة واستبعاد فكرة العودة إلى تونس والاستقرار المهني فيها. زياد-القاسمي ويقول زياد القاسمي لرصيف22: "رغم حصولي على شهادة البكالوريا بدرجات عالية لم أتمكن من تحصيل منحة التميّز من الدولة لأن عدد الحاصلين عليها محدود جداً (العشرة الأوائل فقط)، فاخترت مواصلة مسيرة التعليم العالي في فرنسا، حيث وجدت حوافز كثيرة للاندماج خلال الدراسة وبعدها، أهمها الاندماج داخل بيئة العمل". ويشير إلى أن أهم شيء بالنسبة إليه هو الآفاق المتوفرة في فرنسا وفرص الانطلاق المهني والنجاح الواسعة، إذ إن الفرصة التي حظي بها في أن يكون موظفاً من الدرجة الأولى لا يمكن أن يحصل عليها في تونس خريج جديد عمره 26 سنة. وبعد تخرّجه حديثاً من هندسة الاتصالات في صيف 2017، حصل زياد على وظيفة في شهر أكتوبر من نفس السنة في شركة الاتصالات "أورانج"، في مدينة ليون. ويبدو أن العوامل المادية تلعب دوراً كبيراً في خيارات الخريجين التونسيين من جامعات أجنبية. فزياد يتحدث باهتمام عن فوارق الرواتب بين المهندس حديث التوظيف الذي لا يتجاوز راتبه 300 يورو شهرياً في تونس بينما يصل راتبه في فرنسا إلى حدود 3000 يورو أي حوالي 10 أضعاف، خاصة وأنه ينتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى وتترتب عليه مسؤوليات اجتماعية ويرى نفسه ملزماً بتحسين أوضاع أسرته المادية. لكن زياد ما زال يمنّي نفسه بتوفّر الحد الأدنى من ظروف العمل الملائمة في بلده ليعود إليها. ولا يخفي ارتباطه بتونس إذ يزورها بمعدّل ثلاث مرات سنوياً كما لا يستبعد فكرة العودة النهائية بعد اكتساب بعض الخبرة في المهجر ليفيد بلده، على حد قوله. مالك-منتصر من جانبه، يرى مالك منتصر، 24 سنة، وهو طالب تونسي في السنة النهائية في معهد هندسة الطيران المرموق بمدينة تولوز الفرنسية أن السؤال الواجب طرحه اليوم في الحقيقة هو "ما الذي يجعل شاباً تتوفر له كل مقومات النجاح في أوروبا يعود إلى تونس؟". ويقول لرصيف22: "إن كان سيعود من أجل العائلة فالرحلة من أي مدينة أوروبية إلى مسقط رأسي في محافظة تطاوين بالجنوب التونسي عن طريق مطار جربة أسهل وأسرع من السفر إليها من تونس العاصمة". ويضيف: "شخصياً، لدي رغبة جامحة في العودة إلى الوطن والاستقرار في العاصمة لأن سنتي الدراسة اللتين قضيتهما هناك كانتا من أجمل الفترات في حياتي، والدافع إلى ذلك هو أن العاصمة تجمع بين نسق الحياة الأوروبي والأصالة التونسية، لكن للأسف الوضع الاجتماعي والاقتصادي غير ملائم". ويتابع مالك: "كمهندس في مجال الطيران، لا أعتقد أنني سأجد العمل المناسب لي في تونس باستثناء بعض الوظائف الإدارية في إحدى الشركات. حينها، لن أقدم الإضافة التي يمكنني أن أقدمها. كما أن أغلب الشركات الأجنبية تسقر في تونس لتدني أجور اليد العاملة، والتطوير يقع أساساً في الخارج بينما لا تجد في تونس سوى المصانع التي لا تحتاج إلى مهندسين بل إلى تقنيين". ولا يخفي مالك تبرّمه من البيروقراطية والنظام السائد في بلده، مشيراً إلى أن أحد العوائق الكبيرة أمام الشباب في تونس هو المحاباة، "فأغلب عمليات التوظيف وحتى التدريب لا تتم إلا عن طريق المحسوبيات والعلاقات الشخصية، بينما هنا في فرنسا الاختيار يتم على أساس الكفاءة". مالك، هو الآخر، يحدّث نفسه دائماً بالعودة إلى تونس، لكنه يجد صداً من الذين يعيشون فيها، ويقول: ''كلما طرحت فكرة العودة إلى البلاد، تنهال علي التحذيرات من كل حدب و صوب وخاصة من زملائي في تونس. فالمناخ الاقتصادي والسياسي في تونس بات خانقاً محبطاً ولا يمكن بأي حال أن يشجع على العودة". ويضيف: "يكفي أن تتوفر الإرادة السياسية للإصلاح وسوف ترون المئات من الشباب يحزمون أمتعتهم ويعودون".

من أجل ماذا سيعود أبناء الطبقة الوسطى؟

يحاول الباحث في علم الاجتماع في الجامعة التونسية، سفيان بن جاء بالله، أن يشرح الظاهرة من خلال العودة إلى جذورها الاجتماعية، ويتناولها من زاوية التفاوت الطبقي الحاد وأزمة الطبقة الوسطى الخانقة في تونس. ويقول لرصيف22: ''علينا أولاً تفكيك عملية الخلاص عبر الهجرة لفهم سبب العزوف عن العودة لاحقاً، إذ إن عملية الهجرة الدراسية تشترط امتلاك رساميل اجتماعية ورمزية ومادية". ويضيف: "لتبسيط المسائل النظرية المعقدة في علم الاجتماع فإن أنجع وسيلة هي ضرب الأمثلة الحيّة. فلو أخذنا شاباً متحدراً من عائلة مثقفة لها خلفية فكرية متينة، سنرى أن هذا الشاب يمتلك آلياً رأس المال الاجتماعي أي استبطان واقع موضوعي للهجرة فيجد بالتالي المناخ الثقافي الذي سيبني وعيه بوجاهة خوض تجربة في بلد علماني يحترم القيم التي نشأ عليها". ويتابع أن "الحالة المادية للعائلة تُعتبر محدداً وأحد الدوافع المهمة للهجرة، فمثلاً يمكن أن يكون هناك حماس لخوض تجربة دراسية في الخارج لكن الوضع المادي يحول دون ذلك". ويشير بن جاء بالله إلى أن الطبقات الاجتماعية تحكم اختيار الوجهة التعليمية فأبناء الميسورين يتوجهون بدرجة أولى إلى المملكة المتحدة وأمريكا وفرنسا أما أبناء الطبقة الوسطى فأصبحوا من رواد التعليم الخاص في كامل مراحله أي التعليم الربحي الذي يدرّ عوائد مالية ضخمة على أصحابه ويوفّر ظروف تدريس أكثر كفاءة ومواكبة للعصر، فيما أصبح التعليم العمومي ملجأ أبناء الطبقة الفقيرة وملاذهم.
الطلاب التونسيون في الخارج... أبناء أسر الطبقة المتوسطة يفضلون الاستقرار في الخارج لأنهم لا يمتلكون "واسطة"، وأبناء الأغنياء يعودون عادةً لتسيير شركات آبائهم
لماذا لا يعود التونسيون الذين يدرسون في الخارج؟ "الطالب المتشبع بقيم الحرية سيجد ضالته في المهجر"...
كذلك، فإن عملية العودة إلى تونس بعد انتهاء الدراسة محكومة بنفس المنطق والامتداد، فـ"الرساميل الاجتماعية والمادية المكتسبة في بلدان القبول هي التي تحول دون العودة إلى الوطن. فمثلاً، الطالب المتشبع بقيم الحرية سيجد ضالته في المهجر"، يقول بن جاء بالله. ويلفت الباحث إلى أن الدراسات الميدانية تؤكد أن الطلاب المتحدرين من أسر متوسطة أو فوق المتوسطة هم الأكثر ميلاً للاستقرار في الخارج لأنهم لم يكوّنوا رصيداً علائقياً مهماً في وطنهم يجعلهم يتبوأون مناصب اعتبارية بما أن معيار الكفاءة ثانوي. ويضيف أنه من جانب آخر، فإن أبناء الأغنياء عادة ما يعودون لتسيير شركات آبائهم، وعادة ما تكون تجربة الدراسة في الخارج لضمان شكل من الهيبة الاجتماعية والصورة المثلى في الإطار الأسري لا غير، بما أن مسألة الارتقاء الاجتماعي مضمونة وغير مطروحة أساساً. ويخلص بن جاء بالله إلى أن هذه الظاهرة تشكل تجلياً من تجليات التمايز الطبقي وإعادة منظومة الهيمنة، فالفرص بالتالي متاحة حسب الخلفية الاجتماعية والاقتصادية بالأساس.

أي موقف لصناع القرار؟

يرنو الدكتور نادر حداد، الخبير الاقتصادي والباحث في جامعة أكسفورد، إلى مزيد من الغوص في الظاهرة من خلال تحليل تفاعل الدولة مع هذه المسألة المعقدة. ويقول لرصيف22: "مبدئياً، فإن الطالب الذي يغادر أرض الوطن للدراسة ويختار الاستقرار في دولة القبول يشكل خسارة اقتصادية بامتياز، لأنه يتكوّن في تونس بأموال عمومية وبمجرد خروجه إلى الخارح لطلب العلم، يعمق الأزمة في تونس إذ إن الخسارة تكون مضاعفة من حيث خسارة خبرة عقل تونسي كان حريّ به إفادة بلده إضافة إلى أن التعليم في تونس تقريباً مجاني أي أن الدولة منذ الاستقلال تستثمر في العقل التونسي و هو مكلف جداً وبالتالي فالخسارة مادية كذلك". وحين يغلّب الشباب التونسيون العقل على العاطفة تكون النتيجة أن "الآلاف من الكفاءات في الخارج تتحصل على جنسيات أخرى، والمكاسب الاقتصادية والعلمية تعود إلى بلد المهجر". من ناحية أخرى، يشير الباحث إلى أن تونس تستفيد بشكل مهم من ناحية التحويلات المالية للعمال في الخارج ومنهم الكفاءات المهاجرة "كيف لا وتحويلاتهم تشكّل جزءاً لا بأس فيه من عائدات الدولة من العملة الصعبة؟". في سياق متصل، يفيد حداد بأن الدولة التونسية "لا ولم تعمل على بلورة سياسة لاسترجاع كفاءاتها المهاجرة"، مرجّحاً أن الحكومات المتعاقبة على السلطة ليست لها نظرة استشرافية في المجال إذ تفضّل الحلول السهلة أي الاستفادة من العملة الصعبة المتأتية من التحويلات بدل صياغة خيارات استراتيجية عميقة تؤدي إلى إدماج هذه الكفاءات في السوق الداخلية. ويشير إلى أن هذه المسألة في تونس مسكوت عنها حتى من قبل أحزاب المعارضة ولا تثير أصلاً الرأي العام، بل بالعكس فإن فئة واسعة من الناس تعتبر أن مَن تعلّم في الخارج دخيل ومنعزل عن الواقع التونسي ويصعب اندماجه في مؤسسات الدولة نظراً للفوارق بين ثقافة المؤسسات. ويحذّر الحداد من أن اللامبالاة بهذه المسألة الحساسة يؤدي إلى تفريغ البلاد من عقولها "وقد تجد تونس نفسها في السنوات القليلة القادمة أمام أزمة كفاءات تنهض بالبلاد وهي قد عُرفت لسنوات بجودة تعليمها وريادتها في مجالات متنوعة".
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image