في الشارع حياة، تفاصيل ومشاهد يومية يمكن أن يستقي منها صناع الدراما أعمالهم لتعبر بصدق عن المجتمع. منه ستعرف أحوال البلاد والعباد. في الشارع تختلط الأصوات والوجوه والحكايات. هنا وراء الجدران قصص عن حب وكره وغضب ودموع وفرح.
وفي المقابل روايات عن الأحباء والفرقاء، من ينتظر وافداً جديداً، ومن يودع عزيزاً لديه. في الشارع يتشكل التراث ومنه اندلعت الثورات وفيه أيضاً ولدت عشرات الألعاب التي ساهمت في تشكيل الشخصية المصرية وساهمت بقدر ما في تربية الصغار.
على مدار سنوات طوال، ظلت ألعاب الشارع "بريئة" خالية من العنف الذي انتشر في السنوات الأخيرة، إذ استبدل الأطفال وبشكل جماعي ألعاب الكوتشينة والكرة والسبع بلاطات والبلى، بالصواريخ والبمب والمسدسات، ورغم الكثير من التحذيرات التي خرجت عن مؤسسات وهيئات رسمية وشعبية للتحذير من مخاطر تلك الألعاب التي تجد رواجاً أكبر في شهر رمضان، فإن كل التحذيرات ذهبت هباء وبقي الأطفال على حالهم يمارسون العنف في صور صغيرة، تقتل براءتهم وتقتل معها كل ما تبقى من أحاديث عن دور الألعاب الشعبية في التنشئة وتشكيل الوعي.
إذا كنتم من أولئك الذين يعيشون في مناطق شعبية في مصر فبالتأكيد أنتم تعانون من صوت الانفجارات الصغيرة التي تحدثها الصواريخ التي يلهو بها الأطفال في الشوارع بحجة التسلية وقتل الوقت، تماما كما يقول باسم الرشيدي، 12 عاماً، يعمل في إحدى ورش خراطة المعادن: كل سنة في رمضان تعودنا على اللعب بالصواريخ والبمب، صحيح أن الجيران يشكون إلى أهالينا منا، لكن إحنا بقى بنرمي الصواريخ في البلكونات ونطلع نجري عشان محدش يعرف مين اللي رماها، وبعدين مفيش حاجة تانية نلعب بيها، هنعمل إيه يعني؟
على مواقع التواصل الاجتماعي انتشرت الكثير من الصور التي توضح إصابات بالغة وصلت إلى حد بتر بعض الأصابع بسبب انفجارات الصواريخ في أيدي الأطفال، لكن هذا الأمر لم يكن كافياً ليوقف محمود أشرف، 15 عاما"، طالب بالصف الأول الثانوي، عن اللعب بالصواريخ لا في نهار رمضان ولا حتى ليله.
يقول محمود لرصيف22: تعودت أنا وأصدقائي دائماً أن نلعب بالصواريخ في شهر رمضان من كل عام، صحيح أن هناك بعض الإصابات تقع بيننا مثل الحروق الصغيرة، لكنها "بتعدى" ولم تصل يوماً إلى حد بتر الأصابع أو شيء من هذا القبيل، وتبقى كل المشكلة لدينا في شكاوى الجيران خصوصاً وأننا نلعب بالصواريخ حتى الساعات الأولى من الصباح.
على الجانب الأخر من اللعب بالصواريخ والبمب والألعاب النارية، ابتكر الأطفال في الأحياء الشعبية لعبة أخرى أشد قسوة، هي إشعال النيران في السلك المستخدم في غسيل الصحون أو "سلك المواعين" كما اشتهر في الأحياء الشعبية.
لا نعرف تحديداً الفترة التي قرر الشيطان أن يزرع في عقل أحدهم تلك الفكرة المجنونة، ليقوم باستخدام هذا النوع من المعادن الرقيقة، وإشعال النيران فيها ولفها بشكل دائري لإنتاج الكثير من الكرات النارية الصغيرة التي يستخدمها الصغار عادة في اللعب ومطاردة بعضهم بعضاً على اعتبار أن فريقاً يمثل الشرطة والفريق الأخر يمثل اللصوص.
يقول محمد إبراهيم، 10 سنوات، طالب بالمرحلة الابتدائية، إنه تعود يومياً في رمضان أن يلعب بهذا السلك، مشدداً على أنه يكون خلال اللعب "رئيس العصابة" في كل مرة حتى يضمن أنه خلال مطاردة الفريق الثاني له لن يتعرض لأي إصابات على اعتبار أنه في أخر الصف يسبقه الكثير من "الصبيان" بحسب وصفه، وحسب قواعد اللعبة التي تحتم أن يكون زعيم العصابة أخر من يتحرك من الوكر قبل القبض عليه من قبل الفريق الآخر على أن يستخدم خلال الهروب كل الوسائل المتاحة من إلقاء الصواريخ والبمب والسلك المشتعل تجاه مطارديه.
ورغم أن محمد تعرض لإصابات وحروق أكثر من مرة، ورغم أن أسرته حذرته كثيراً من اللعب بهذا السلك فإنه مصمم على اللعب به على اعتبار أنه وسيلة من وسائل التسلية والترفيه في شهر رمضان.
نفس الفكرة نقلها محمد إلى زميله وجاره خالد، 10 سنوات، الذي قال لرصيف22 إنه يوفر من مصروفه قبل رمضان حتى يستطيع شراء هذا السلك من البائع دون الحاجة إلى سرقته من المنزل.
يعلق خالد: كل يوم بننزل قبل آذان المغرب بحوالي ساعة أو ساعة ونص، وبنقسم نفسنا فرقتين، الفرقة الأولى بتكون اللي المفروض تيجي تقبض علينا وإحنا عشان ندافع عن نفسنا بنضرب عليهم صواريخ أو بمب وبنولع السلك ونطيره ناحيتهم عشان يبعدوا عننا.
مع ارتفاع سعر كل شيء في مصر يكون البديل الأول هو تصنيعه في المنزل. جرب المصريون تلك الحيلة مع الكثير من المنتجات التي ارتفع سعرها، غير أنهم لم يكتفوا بذلك إذ قرر البعض أن يجرب صناعة "البمب" في البيت لتوفير أكبر قدر ممكن من المال.
يقول تامر 13 سنة طالب بالإعدادية: جربت أعمل "البمب" في البيت زي الفيديو اللي شفته على اليوتيوب، غير أني فشلت في النهاية لأني بصراحة معرفتش البارود بييجي منين، ومن هنا كان الحل الوحيد هو شراء البمب المصري بدلا من الصيني لأن الأخير سعره غالي وأهى أي حاجة بتفرقع وخلاص.
فتش عن زيكو
في أحد شوارع شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية ستجد الأطفال يلتفون حول زكريا أو زيكو كما يلقبونه وهو واحد من أشهر من يبيعون الصواريخ والألعاب النارية بالمنطقة. يقول زيكو لرصيف22: كل الحاجات دي بتيجي من برة بالتهريب، ورغم المخاطرة إلا أن مكسبها كبير يصل إلى 500% وهو ما يغري أي شخص بالإتجار في هذه الأنواع من الألعاب النارية. تنقسم الأصناف عند زيكو لنوعين، الأول المستورد ويبدأ من 40 جنيهاً لعلبة الصواريخ الواحدة، أما الصواريخ المصرية فالعلبة يصل ثمنها إلى 5 جنيهات وبها 20 صاروخاً. وبخصوص أشهر الأنواع: صاروخ "الملك" ويصدر صوت انفجار قوي تماماً مثل القنبلة، غير أن مبيعاته تراجعت لأن سعره غالٍ جداً على الأطفال "75 جنيهاً"، أما الصواريخ التي تحظى برواج فأشهرها النخلة ويراوح سعر الصاروخ الواحد منهما بين 5 و15 جنيهاً، هذا بخلاف الصاروخ الياباني الذي سعره 20 جنيهاً للواحد. وكذلك صاروخ "المهرجانات" وهو ينفجر 20 مرة، وسعره 45 جنيهاً، هناك أيضاً "الكبسولة"، بخمسة جنيهات للواحدة، ولا بد أن تُضرب في مكان خالٍ، على الأقل في نطاق خمسة أمتار، أما "الخرطوشة" فتراوح أسعارها بين 15 و35 جنيهاً، وأخيراً صاروخ "بازوكة"، وهو عبارة عن 25 صاروخاً تنطلق بالتتابع، وينفجر الصاروخ بعد خروجه بـ5 ثوان.أرقام مفزعة
في عام 2014 نشرت إحدى الصحف على لسان رئيس شعبة المستوردين بالغرفة التجارية للقاهرة، أن قيمة ما تم تهريبه من هذه الألعاب والصواريخ والبمب بلغت أكثر من مليار جنيه، فيما كشف التقرير الشهري للغرفة التجارية بالقاهرة أن البمب والصواريخ تحتل المرتبة الثالثة في قائمة المضبوطات بعد السجائر والمنشطات الجنسية، فيما يجري ضبط 4% فقط من تلك السلع المهربة.رأي القانون
يقول المحامي أيمن سعد لرصيف22: تنص المادة 102، فقرة (أ) من قانون العقوبات على أنه: يعاقب بالسجن المؤبد كل من أحرز مفرقعات أو حازها أو صنعها أو استوردها قبل الحصول على ترخيص بذلك، مضيفاً أن قرار وزير الداخلية رقـم (1872 لسنة 2004) قد تضمن جدول المواد التي تعتبر في (حكم المفرقعات) ومنها : البارود الأسود (الذي هو أساس صناعة الألعاب النارية)، والقطن الأسود، وثالث كلوريد النيتروجين، وغيرها من المواد التي تستخدم في صناعة الالعاب الناري.بلا رقابة
الدكتور عمرو فهيم أستاذ طب الأطفال حذر من تلك الألعاب، مؤكداً أن احتراق البارود الموجود بالصواريخ ينتج عنه نوع من الرماد يمكن أن يسبب أضراراً بالغة بالعين والجلد، قد تصل في بعض الأحيان إلى انفصال في الشبكية ويؤدي الأمر إلى فقدان كلي للعين، كذلك فإن الرائحة الناتجة عن الاحتراق تتسبب في مشاكل في التنفس وتحدث خللاً في المخ يستمر لفترة شهرين، خصوصاً إذا كان الطفل في سن صغيرة. أما الأخصائي النفسي كارم عبد الباقي فعلق لرصيف22 على تلك الظاهرة: إن هذه الألعاب خطيرة جداً على الأطفال كونها تقوم على العنف، ويمكن إذا استمر الطفل في ممارسة تلك الألعاب لفترة طويلة، دون رقابة من أحد، أن يكبر الطفل ويتعود على العنف وبالتالي يمارسه تجاه المحيطين به والمقربين منه. ويواصل: للآباء دور كبير في هذا الشأن خصوصا أن نشأة الطفل في بيت قائم على العنف والضرب، تجعله دون دراية يمارس العنف تجاه أصدقائه، كما أن الطفل الذي يتعرض للقهر والكبت قد يجد في تلك الألعاب وسيلة للفت الانتباه، وبالتالي يستمر في مزاولتها لتعويض ما تعرض له من إجراءات قهرية. واختتم: المسؤولية هنا مشتركة بين البيت والمدرسة والنادي والمسجد والكنيسة، فكل مؤسسة منها لها دور في الرقابة على الطفل وعلى ما يشاهده من أعمال فنية تنتهج العنف، بالإضافة إلى الرقابة على طريقة اختيار الأصدقاء، وتوعية الطفل بمخاطر تلك الألعاب، ومن ثم إيجاد بديل آمن يساهم في تنشيط وعي الأطفال وتشكيل إدراكهم لأنهم عماد المستقبل، بدلاً من تركهم للشارع يعلمهم العنف ويصنع منهم مجرمين محتملين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...