بينما تمشي في شارع قصر النيل، وسط القاهرة، غارقاً مع الأضواء وواجهاتِ المحال، تأتيك أصواتٌ من مكان ليس ببعيد وغير متوقعة في قلب هذا الصخب، أناشيدُ وتواشيح وتراتيل تماهت مع جمال المكان وأجواء رمضان في حالة ستأخذك حتماً إلى "ليالي المقامات الروحية".
فعاليةٌ أضاءت ممر بهلر بوسط البلد على مدار أيام، لتجسد حواراً مباشراً مع الناس، واتصالاً إنسانياً نسجته الابتهالات الدينية والألحان الكنسية بتواؤم مع المقامات الشرقية، ما خلق مزجاٌ روحانياً صوفي يرتقي بالسامع إلى سماوات حبٍّ كحبِّ رابعة العدوية الذي قالته وغناه أحد المنشدين:
وقمتُ أناجيكَ يامن ترى خفايا القلوبِ ولسنا نراكَ أحبكَ حبين حبَّ الهوى وحباً لأنك أهل لذاكَ
لماذا وسط البلد، ولماذا ممر بهلر تحديدا؟ ستسأل نفسك بعدما تهم لتحضر حفل "رسالة سلام" الذي تخلل الليالي، أما الإجابة فكانت في الآتي.
بداية الحكاية
القاهرة الخديوية -وسط لبلد- تتميز بثرائها وتنوعها الجليَّان في تراثها المعماري، كان الفضل في تشييده لمحمد علي الذي بدأه نهاية القرن الـ19 لتتحدد معالمه في عهد الخديوي اسماعيل، عندما خطط أن تكون القاهرة أجمل من مدن أوربا فاستقدم المعماريين والمصميين الغربيين، وأقام المباني والحدائق والميادين، لتتحول العاصمة إلى تحفة حضارية تضاهي بجمالها مدن العالم. بحسب ماذكرت د سهير زكي حواس في كتابها "القاهرة الخديوية". ممر بهلر أحد معالم وسط البلد، على يمينه شارع قصر النيل الذي أنشأه كبير مهندسي مصر علي مبارك عام 1883 ويتاخمه من الشمال شارع طلعت حرب المُسمى تيمُّنا بمحمد طلعت حرب، أبو الاقتصاد المصري. "شارل بهلر" رجل أعمال سويسري أقام في مصر، ومما امتلكه فندق "سافوي"، المطل على شارع وميدان طلعت حرب، اشتراه من الأمير محمد جمال طوسون، ثم أمر بهدمه، كان ذلك تزامنا مع الحرب العالمية الأولى، ليشيد مكانه بناءً على درجة من العصرية والتميز، صممه له الفرنسي ليو نافيليان، على طراز "الآرت ديكو"، فنٌّ فرنسي يجمع عدداً من الفنون الزخرفية والمعمارية، فكانت عمارة "بهلر" وممررها الملاصق لها الحامل لنفس الاسم، وكأنه نسخة مصغرة من شارع "Rue de Rivoli" في باريس. أُطلِق اسم العمارة والممر تقديرا لصاحبها وعرفاناً بصنائعه، وهي قيمة رمزية تميز بها تاريخ القاهرة الخديوية، بحسب زكي."وقمتُ أناجيكَ يامن ترى خفايا القلوبِ ولسنا نراكَ": ليالي المقامات الروحية، مزج روحاني صوفي يرتقي بالسامع إلى سماوات الحبٍّ
من ممر بهلر، في قلب القاهرة، تتصاعد الابتهالات الدينية والألحان الكنسية بتواؤم مع المقامات الشرقية
ممر بهلر قبلة ثقافية وفنية
ونهاية العام الماضي أُغلق "ممر بهلر" أمام السيارات، ليقتصر على المارة، بعد ترميمه الذي تخلل إعادة ترميم المباني التراثية في وسط البلد، وأصبح مساحة أثرية استقطبت السّياح والفعاليات الفنية والثقافية، استهلها "مهرجان ممر بهلر لفنون وإبداع الشارع المصري" فبراير الماضي، بقيادة الدكتور انتصار عبد الفتاح، مؤسس مشروع "إعادة إحياء فنون القاهرة التاريخية". "ليالي المقامات الروحية" شغلت ممر بهلر خلال الأيام الماضية بالابتهالات والترانيم التي تناغمت في حالة صوفية تسمو بالحواس والوجدان إلى فضاءات أخرى بعيدا عن عالم اللهاث الذي نعيش. الدكتور انتصار عبد الفتاح مؤسس الفعالية يعلل اختياره ممر بهلر "لتميزه المعماري الذي يعكس العراقة المصرية، وأيضا لأجل التواصل المباشر مع جمهور الشارع، هو أمر ضروري، يمدنا بالطاقة الإيجابية ويدل على تفرُّد الشخصية المصرية، التي هي الشخصية العربية". يضيف أن مشروع "إحياء فنون القاهرة التاريخية" أسس فرقاً عدة وأقام فعاليات أيضا، هدفها نشر رسالة سلام عبر أصوات تتمازج في لحظة تواصل إنساني "رسالتنا التأكيد على جوهر الأديان، التسامح المحبة السلام، بغض النظر عن العرق والدين واللون".موسيقى ورسالة سلام وحب
كانت الليالي برعاية محافظة القاهرة ومؤسسة الحوار الوطنية لثقافات الشعوب، ومؤسسة "مصر الخير"، وأحيتها فرق قادمة من خلفيات متنوعة دينيا وعرقيا، تقاطعت جميعها في أداء المقامات الشرقية. "رسالة سلام" إحدى تلك الفرق، تصهر في أعمالها الألحان الكنسية والابتهالات الإسلامية والقصائد الصوفية، مصحوبة بالدفوف والقانون وناي الفنان أشرف عجايبي رياض، يجلس وبجانبه صندوقٌ يحوي أكثر من 20 نايا تباينت درجاتها، يتنقل بينها بحسب مايتطلب المقام، يؤكد لرصيف22 مضيفاً: "لدي مجموعة كاملة من النايات تناسب كل أنواع المقامات، هي آلة شرقية نجح الدكتور انتصار عبد الفتاح في توظيفها بصورة ممتازة مع أداء الإنشاد الديني، سواء كان قبطي أو إسلامي أو أكابيلا، الأمر الذي يجعلني أعزف بطريقة توائم الخط الدرامي الذي رسمه للعمل". عجايبي عضو أيضا في فرقة سماع التي أُسست عام 2009 وكونت ضمنها فرقا أخرى منها "رسالة سلام"، جالت العالم وقدمت حفلات عدة في روما والفاتيكان وباريس ولندن وشنغهاي وغيرها. حسب قوله. فرقة "الألحان الكنسية" شاركت في إحياء إحدى الليالي، كَوْنَها جزءاً من فرقة "رسالة سلام" وقدمت التراتيل مشاركةً مع التواشيح والأناشيد. ذوبانٌ وتناغم يربط المغنين، فيتلقاه السامع ليبقى في وجدانه وقلبه بعد انتهاء الاحتفالية. وهذا ما يسعى إليه المغنون حسب قول أنطون ابراهيم أحد أعضاء الفرقة. يضيف لرصيف22 "نحن لانقدم موسيقى فقط، يجمعنا القبول والحب، نسمع بعضنا ونتعلم من بعضنا، لنشكل حالة نتمنى أن تصل كل الناس". "المقامات الشرقية أصل الألحان الكنسية والتواشيح الدينية أيضا، وهي القاعدة الرئيسية التي نتكئ عليها في عملنا، نبحث عن نقاط التلاقي عبر الموسيقى، نختار ذات الإيقاع ونشتغل عليه سويا، كل في مضماره، فنخرج بتوليفة فيها من الغنى والثراء ما يدهشنا نحن قبل غيرنا". يقول ابراهيم. كان شارع المعز وقبة الغوري مكانا استضافة "ليالي المقامات الروحية" في دوراتها السابقة، قبل انتقالها إلى وسط البلد، المنطقة الأكثر اشتعالا في رمضان، لتقدم الفعالية خلطة تراثية تماهى فيها سحر المكان مع روح الفن والدين بمفهومه الإنساني العميق، بهدف تنمية الإنسان فنيا وثقافيا، وهي الفلسفة التي يعمل عليها مشروع "إحياء فنون القاهرة التاريخية". تنوعت حفلات الليالي بين الإنشاد الديني، قدمته فرقة سماع للفنون التراثية، وفرقة "رسالة سلام"، والمولوية والتنورة، أيضا تخللها مسرحية "حسب الله السابع عشر" التي تحكي التراث القديم في قالب كوميدي جديد، عبر محاكاة لفيلم "شارع محمد علي" لعبد السلام النابلسي وزينات صدقي وعبدالحليم حافظ. وشارك في الليالي أيضا فرقٌ أخرى من أندونيسيا وسوريا وفلسطين. وسط البلد هو روح القاهرة ونبضها الدائم بالفن والثقافة والجمال، وعلى مدار أيام رمضان، شوارعه وميادينه على موعد مع المزيد من الحكايات والفعاليات.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...