تختزن العلاقات العربية التركية عموماً والعلاقات التركية السعودية خصوصاً لقطاتٍ تاريخيّة جميلة ودافئة، لا يمكن اعتبارها من عرف السياسة ولا التقاليد الدبلوماسية المتبادلة فقط، وإنما هي تعبير عن أكثر من ذلك، ترقى لمستوى المودة الصادقة، والمشاعر الأخوية، والصداقة بين أرواح متآلفة. فالعلاقات الشخصية الودية بين الزعماء السياسيين كانت راسخة ومتأثرة بالتاريخ القريب بين دولتيهما، ولذا بدأت متأصلة منذ السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية التركية والمملكة العربية السعودية، وربما قبل أن تُعرف المملكة باسم المملكة العربية السعودية رسمياً، كما سنجد في الكلمات الأخوية المتبادلة بين رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك وضيفه الكبير الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عام 1932. ففي العاشر من نيسان عام 1932 أوفد الملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية نجله الأمير فيصل وزير الخارجية على رأس وفدٍ إلى أوروبا، تشمل سويسرا وفرنسا وانكلترا وهولاندا وألمانيا وبولونيا والاتحاد السوفياتي، وفي الثامن من حزيران وصل الأمير والوفد المرافق إلى تركيا، واعتُبرت هذه الزيارة في حينها الخطوة الأولى نحو الصداقة التركية السعودية كما ذكرها الصحفي Fethi Tevetoğlu فاتح طاوا أوغلو. فقد لاقت زيارة الأمير فيصل إلى تركيا ترحيباً حاراً من القيادة التركية وعلى رأسها رئيس الجمهورية التركية الغازي مصطفى كمال أتاتورك والمسؤولون الأتراك والشعب التركي والصحافة التركية التي أولت أهميةً كبيرة للزيارة وراقبتها عن كثب.
الأمير فيصل في اسطنبول
تابعت الصحف التركية - ومنها صحيفة ملليت وصحيفة وقت وصحيفة جمهوريت - باهتمام الحديث عن وصول الأمير فيصل إلى اسطنبول، وقد ذكرت أن الأمير فيصل هو ووزير الخارجية، ووقّتت لحظة وصوله اسطنبول الساعة 21:30 ليلة الثامن من حزيران عام 1932، وكان في استقباله محي الدين بك والي اسطنبول ورفيق عامر مسؤول الخارجية، وقد رُفع علما الدولتين أمام صالة استقبال كبار الضيوف. ثم انتقل الأمير الضيف إلى فندق Pera Palas بارا بالاس ثم زار والي اسطنبول الساعة 11:30 ليشارك لاحقاً في مأدبة غداءٍ أقامها الوالي في فندق Tarabya Tokatlıyan طارابيا توكاتليان على شرفه الساعة 13:00، وبعد أن أخذ قسطاً من الراحة في الفندق قام في الساعة 18:00 بجولة في اسطنبول، كما ذكرت الصحف.وأثناء إقامة الأمير فيصل في الفندق أدلى بتصريحاتٍ للصحافة، قال فيها: "أخذت حكومتنا شكلها الحالي عام 1928، ولم يكن لدينا حتى ذلك الوقت الكثير من الاتصالات مع دول أجنبية، لكنه مع ضم الحجاز إلى المملكة سنة 1928، ولما أخذت المملكة شكلها الحالي كان لزاماً علينا إقامةُ علاقات الصّداقة مع دول الجوار والدول الأجنبية، وقد قدِمنا لتركيا الدولة الشقيقة التي أحبها كثيراً، ممثلاً عن دولة أخرى. لكني جئتُ إلى تركيا لا كالغرباء بل جئتها بحنين سنوات الفراق الطويلة، ولم تستطع الحوادث التاريخية والحدود الجغرافية التي فصلت بين هاتين الدولتين قبل عشر سنوات أن تهدم الوُدَّ والثقة من قلوب الشعبين، ولا أرى من مغالاة إن قلت أن علاقة الدولتين تقوم على أساس من الصداقة والودية، وفي الواقع قبل ثلاث سنوات أُبرمت معاهدة بين تركيا والحجاز، وبعد قضاء عدة أيام في اسطنبول سأتوجه إلى أنقرة لزيارة قائدكم الكبير".
الأمير فيصل في أنقرة
تحرك الأمير فيصل والوفد المرافق مساء الحادي عشر من حزيران إلى رصيف قصر دولما باهجا ليتحول منه إلى محطة حيدر باشا، ومنها توجه إلى أنقرة، وقد استُقبل فيها بمراسم عسكرية، وكان في توديعه في إسطنبول كلٌ من الوالي ومعاونه وقائد الشرطة وأبناء الجالية السعودية، بحسب ما وثقته الصحف التركية. وقد استُقبل الأمير لدى وصوله إلى أنقرة صبيحة الثاني عشر من حزيران الساعة 10:00 بقاطرة مخصصة له من وزير الخارجية روشتي بك، وقد رافقه جلال بك ممثلاً للغازي مصطفى كمال أتاتورك، والمستشار كمال بك ممثلاً لعصمت إينونو باشا، وعددٌ من أركان الخارجية وسط عزفٍ مُوسيقي من الجوقة العسكرية تم رفع علمي تركيا والسعودية، وقد قال الأمير فيصل وفق ما نشرته جريدة ملليت بتاريخ 13 حزيران: أشعرُ في تركيا وكأنّني في منزلي، وقد أقام وزير الخارجية توفيق رشتي بك مأدبةً على شرف سموه، وقد ورد في جريدة ملييت في عدد 13 حزيران تحت عنوان "استُقبل سمو الأمير بمراسم عسكرية" أنه "كانت زيارة الأمير فيصل للرئيس مصطفى كمال أتاتورك حوالى الساعة 15:30، وأضافت الجريدة أن مصطفى كمال (أتاتورك) باشا أقام مأدبةً في قصره الجديد على شرف سمو الضيف".وقد كُتب في دفتر ملاحظات أتاتورك يوم الأحد الموافق فيه 12 حزيران ما يلي:
"في تمام الساعة 15:30 استقبل الغازي مصطفى كمال أتاتورك سمو الأمير فيصل نجل سمو بن سعود ملك النجد والحجاز، ثم قام أتاتورك بزيارة الأمير فيصل في محل إقامته في الساعة 18:00، وفي تمام الساعة 20:30 مساءً أقام الغازي مصطفى كمال أتاتورك مأدبةً على شرف الأمير وقد غادر الضيوف القصر في الساعة 24:00 ليلاً".
كلماتٌ متبادلة بين أتاتورك والأمير فيصل:
ألقى سمو الأمير فيصل والغازي مصطفى كمال أتاتورك كلماتٍ متبادلةً في المأدبة التي أقيمت في الثاني عشر من حزيران 1932، حيث أفاد أتاتورك في كلمته عن كبير سعادته من ترحيبه لسمو الأمير في أنقرة، لافتاً إلى أن الزيارة ستعزز العلاقات بين الحجاز وتركيا، وبيّن أن تركيا تراقب الجهود الحثيثة التي تبذلها المملكة بقيادة الملك عبد العزيز في سبيل التطوير والتنمية.
"جئتُ إلى تركيا لا كالغرباء بل جئتها بحنين سنوات الفراق الطويلة" هذا ما قاله فيصل في زيارته لأتاتورك عام 1932
في عام 1932، أي بعد 14 عاماً فقط عن انفصال تركيا والحجاز، زار فيصل الرئيس أتاتورك في تركيا، وبلقائهما تأسست مرحلة جديدة للعلاقات السعودية التركيةوكانت كلمة أتاتورك على النحو التالي: "أشعر بامتنان كبيرٍ من استقبال سمو الأمير في أنقرة، وإني على يقين من أن هذه الزيارة السنية لصاحب السمو ستعزز العلاقات بين الجمهورية التركية ودولة الحجاز والنجد وملحقاتها، والتي تقوم على قاعدة من الإخلاص والثقة المتبادلة، وتحظى الجهود الحثيثة التي تبذل في سبيل تقدّم بلدينا بتقدير واهتمام كبيرين من قِبل تركيا، وما الجولة الطويلة التي قام بها سمو الأمير إلا إشارة واضحة إلى هذه الجهود المبذولة. وإني لأتمنى بكل إخلاص أن يقطع شعب الحجاز والنجد وملحقاتها تحت قيادة جلالة الملك الموقر عبد العزيز آل سعود شوطاً كبيراً في مدارج النضوج والتكامل التي ولجوا في مدارها حديثاً، وكلما تكللت المساعي والجهود بالحزم والإصرار لتحقيق دولة قوية تزخر بالرفاهية والعيش الهانىء، كان النجاح سريعاً وتاماً دون أي شكٍ، وإن الشعب التركي ليتمنى بكل صدقٍ أن تتكلل جهودكم وما تسعون إليه من أجل دولتكم وشعبكم مواجهين تحديات العصر بالنجاح الباهر، وبهذه المناسبة أود أن أعرب عن تمنياتي القلبية في عزة ورفعة دولتكم وسعادة الملك المبجل والأسرة الحاكمة، وإنه لمن دواعي سروري الكبير، ثقوا تماماً بأنني سأحتفظ بالذكرى القيمة لزيارة سمو الأمير". أي أن بناء الدولة القوية تحتاج إلى الحزم والإصرار حتى يتحقق النجاح بسرعة وتنعم الدولة بالعيش الكريم، وهذا ما تتمناه تركيا للسعودية على لسان رئيس الجمهورية التركية ومؤسسها أتاتورك.
هذه الكلمات الجميلة من أتاتورك تجاه المملكة شكّلت قاعدة ذهبية في العلاقات بين الدولتين، فقول أتاتورك "على قاعدة من الإخلاص والثقة المتبادلة"، كان بمثابة دعوة لأن تكون العلاقات التركية السعودية قائمة على هذا الأساس.
أما الأمير فيصل فقد عبَّر في كلمته الجوابية عن سروره من تمنيات أتاتورك، وأنها ولَّدت رغبة جديدة لدى بلاده في نيل المرتبة التي تليق بها، كما عبر عن امتنانه من اللقاءات التي أجراها مع سعادة الغازي مصطفى كمال أتاتورك وأعضاء حكومته متمنيًا دوام التّقدم والسُّرور للشعب التركي، وكانت كلمة الأمير الجوابية على النحو التالي:
"لقد تَرَكَتْ تمنياتكم الجميلة خلال زيارتي لسعادتكم الموقرة في مقر حكومتكم آثراً بالغاً في نفسي، وأتمنى أن تكون حافزاً لمزيد من السعي حتى نبلغ المستوى اللائق بين بلدان الشرق الأوسط.
اسمحوا لي أن أقدم شكري وامتناني لسعادتكم وحكومتكم لما لقيته من الترحيب متمنياً دوام الصحة والعافية لجنابكم الكريم، وراجياً مزيداً من التقدم والرفاه للشعب التركي الأصيل".
وفي نفس اليوم قام الأمير فيصل في 13 حزيران 1932 بزيارة بنك العمل İş Bankası وبنك الزراعة Ziraat Bankası، حيث تجوّل في كافة أقسام بنك العمل، واستمع باهتمامٍ كبير إلى شرح مفصل حول نشاطاته، وقال عندما علم أن البنك من إنجازات أتاتورك: "لا يمكن أن يصدق أحدٌ وجود مثل هذا الصّرح دون رؤيته". وشارك الأمير في اليوم ذاته في مأدبة غداءٍ أقامها رئيس الوزراء عصمت إينونو في مطعم Kerpiç كاربيج. وفي صبيحة 14 حزيران شاهد الأمير المناورات العسكرية التي قام بها فوج الحرس في تلال بلاط، ثم تابع حركات الطائرات العسكرية التي قدمت من ولاية أسكي شهير، وقبيل مغادرته هنَّأ الأمير وزير الدفاع زكائي بك لما رآه من التنظيم الفائق للجنود وقدراتهم القتالية. وبعد الظهر زار الأمير فيصل معهد عصمت إينونو للبنات، ورافقه سكرتير أتاتورك حكمت بك، وفي مساء ذلك اليوم أقيم مأدبةُ عشاء لشرف سعادة الغازي مصطفى كمال أتاتورك في بيت الشعب. وفي صبيحة يوم 15 حزيران أبدى الأمير إعجابه من الأنشطة والفعاليات التي رآها في معامل كريك كلي أثناء زيارته لها، ثم توجه إلى اسطنبول راجعاً من أنقرة بالقاطرة المخصصة لسعادة الغازي مصطفى كمال أتاتورك في قطار 6.42.
أصداء الزيارة في الصحافة التركية
أخذت زيارة الأمير فيصل إلى تركيا عام 1932 مكانةً مرموقةً ومتميزةً في مقالات الصحفيين الأتراك، فقد رُصدت زيارته عن كثب من لحظة قدومه إلى تركيا، وتحدثت المقالات عن إسهام هذه الزيارة في توثيق وتعزيز العلاقات بين الدولتين المرتبطتين إحداهما بالأخرى تاريخياً. فقد تحدّث أحمد شكري بك في جريدة ملليت بتاريخ 14 حزيران 1932 في مقاله بعنوان: "الأمير فيصل في أنقرة" عن انفصال المصير السياسي للعرب عن الأتراك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، لكن ذلك لم يكن حائلاً دون تطور العلاقات بينها وأن تمنيات الشعب التركي وقيادته كانت تصب في أن يملك العرب قرارهم بتقرير مصيرهم السياسي، وأشار الكاتب إلى زيارة الأمير إلى أنقرة فقال: "وحين نأتي إلى ذكر هذه الزيارة يكفي أنها تركت أصدق انطباعٍ سيُذكر في كل آن وحين".أما يونس نادي Yunus Nadi رئيس تحرير جمهوريت، - الذي كان يعتبر الناطق الرسمي باسم الحكومة - فقد تحدث في الافتتاحية بتاريخ 14 حزيران 1932 تحت عنوان: "نجل أمير الحجاز في أنقرة" عن استضافة الأمير فيصل في أنقرة من قبل الغازي مصطفى كمال أتاتورك مبيِّنًا أنهما عبَّرا في كلمتيهما خلال مأدبة الغداء الذي أقامها الغازي أتاتورك على شرف الأمير عن عميق مشاعرهما المتبادلة بكل شفافية، ثم ذكر أن تركيا رحبت بحكومة الحجاز منذ قيامها، وأن الأخيرة استطاعت جذب أنظار تركيا إليها، وأن صفحة كبيرة من التاريخ قد طُويت بما فيها من الأحداث الأليمة، والتي جرت وقائعها بين الشريف حسين والعثمانيين، والتي من الضروري عدم الوقوف عندها، إذ يقول: "وإنه لمن دواعي سرورنا قيام دولةٍ عربية موحدة وقويّة في النّجد تشمل الحجاز على يد الملك عبد العزيز آل السعود الذين ما عرفناهم إلا على سدادٍ من العيش، ولقد كُنّا على اتصال مع هذه الحكومة منذ الأيام الأولى من قيامها، وكان من موجبات سُرورنا أن نستقبل ممثلاً نبيلاً لهذه الدولة السنية والتي تجسد في شخص سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز". ثم أردف: "إن وجود حكومةٍ قوية في إقليم نّجد وملحقاته تقوم على أساس من العدالة كان لا بد أن يكون موضع الترحيب من قبلنا، ولا يبقى في النهاية إلا التّسلح بعلوم العصر، والإقرار بضرورة التغيير مع رصد العالم ومظاهر حداثته عن كثب، حتى تتولد القناعة بضرورة التغيير والتحديث والإصلاح؛ فإن حصلت فمن الممكن جداً اجتياز مسافات كبيرة في هذا السبيل خلال فترة وجيزة مع سعي دؤوب، الأمر الذي لاحظته أنقرة في رؤية الأمير"، وقد أشار يونس نادي إلى خالص أُمنياته في أن تكون هناك جامعةٌ تجمع شتات العرب، ويختم مقاله: "وإننا سعداء بالإفصاح عن هذه المشاعر الجياشة بمناسبة زيارة سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز لبلادنا".
وفي مقالٍ لـ نائب مدينة سيرت Siirt محمود بك في جريدة ميلييت بتاريخ 15 حزيران 1932 ذكر وديّة زيارة الأمير فيصل إلى تركيا، قال فيها نقلاً عن الأمير قوله: "وإني لأتواجد في وسطٍ لا أعدُّ فيه نفسي غريباً قط"، كما أولى اهتماماً لآراء الأمير بحق تركيا، فقال: "التقيت معه عدّة مرات، ومن حديثه وآرائه اتضح لي أنه صاحبُ حسٍّ سليم، وذكاءٍ حادٍّ، وقد إعجابه بمنجزات الجمهورية، فقال:
"بارك الله بكم، عبّدتم السبيل لمن رغب بالعمل والالتحاق بركب الحضارة من الأمم الشرقية، وقدمتم أفضل النماذج في هذا الإطار". وقد بين محمود بك أن الأمير رأى في تركيا دولة نموذجية، فقال: "إن تَعرُّف الأمير على تركيا وحديثه مع الغازي مصطفى كمال أتاتورك تركا أثراً كبيراً في نفس الأمير، ولقد زار الأمير مراكز هامّة في أوروبا، ورأى أجلّ وأفضل عينات الرقي والحضارة، لكنه أبقى على إجلاله وتقديره لتركيا وجهود الغازي أتاتورك في التنمية والإصلاح، وهذا ما كان له وقعه الخاص، ومن المؤكد أن الأمير الشاب سيحاول الإفادة في بلاده مما رآه وعاينه خلال جولته".
ختام زيارة الأمير فيصل بزيارة اسطنبول للمرة الثانية
في صبيحة 16 حزيران 1932 وصل الأمير فيصل إلى اسطنبول للمرة الثانية وهو في رحلة العودة، وكان في استقباله الوالي وأركان الحكومة والقوات المسلحة، وقد أدلى الأمير بتصريحات للصحافة، قال فيها: "لقد كانت زيارتُنا إلى أنقرة جيّدة للغاية، ونقشت في أذهاننا ذكرياتٍ لا تنسى، وانطباعاتٍ قيّمة، وخاصة قفزة تركيا الفتية خلال عشر سنوات في مدارج الرقي، وكانت مدار افتخار وتقدير، وكان في أجواء الزيارة من الدفء ما يمنعنا من اعتبار أنفسنا غرباء في مقر الحكومة، ولن أنسى تلك اللحظات التي التقينا فيها رجالات الحكومة وغيرهم". وبعد أن انتهت زيارة الأمير الرسمية في تركيا لم يتم الحديث في الصحافة عن برنامجه في إسطنبول والمدة التي قضاها، والتي أرادها الأمير لزيارة المتاحف والمساجد والقصور، وسبق للأمير أن قام برحلة إلى الجزيرة الكبيرة "جزر الأميرات" في 17 من حزيران، كما ذكرت صحيفة ملييت.
كيف رأى الأمير فيصل تركيا؟
ردّاً على سؤالٍ وُجِّه إلى الأمير فيصل في ختام الزيارة، كيف وجدتم تركيا الحديثة؟ أجاب بحسب جريدة جمهوريت وملليت: "لقد تأثرت كثيراً بالتّرحيب الحار في أنقرة، كما أثارت سرعة البديهة التي صادفتها في أرجاء بلادكم اهتمامي، تجولتُ في بعض المؤسسات في أنقرة الأمر الذي أسعدني جداً، وأدركت أنها تدار من قبل الأتراك بشكل كامل، وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن الشرقيين ليسوا أقل شأناً من الغربيين، فقد شملت هذه الحالة جميع مجالات الحياة في تركيا: المدارس والمعامل والسكك الحديدية وغيرها، لم يمض سوى 14 عاماً عن انفصال تركيا والحجاز، وما الآثار النهضوية والحضارية التي رأيناها إلا حصيلة 8 أو 10 سنوات فقط، وإنها مدار الفخر والاعتزاز". وردّاً على سؤال آخر وُجِّه إلى الأمير فيصل حول إدارة الحجاز ونجد، أجاب بأن الحجاز تدار من قبل لجنة الوكلاء، ومجلس الشورى، موضحاً تقسيم البلاد إلى محافظات ومقاطعات، وأن إدارة البلاد تسير وفق الشريعة الإسلامية، بحسب ما أورده عدد من الصحف. وبعد انقضاء الأيام الأخيرة لزيارة الأمير فيصل تركيا والتي زار خلالها بعض المساجد والمتاحف في إسطنبول، بعد أن أخذ قسطاً من الراحة في فندق Pera Palas بارا بالاس وفق خبر جريدة ملييت بتاريخ 19 حزيران 1932، توجه الأمير إلى باطوم مغادراً تركيا على متن سفينة فلسطين في 23 حزيران 1932 بعد أن قدم إليها في 8 حزيران، وفق الصحف التركية.خاتمة: إن زيارة الأمير فيصل بن عبدالعزيز إلى تركيا عام 1932 تعتبر حدثاً هاماً شكّلت باكورة ووضعت أساساً للعلاقات السعودية التركية، وقد مثّلت التّصريحات الواردة فيها كوثيقة تاريخية نوعاً من المفاجأة التاريخية، فقد نسفت الظن بأن العلاقات العربية والتركية كانت آنذاك في أسوأ احوالها، إذ لم يمضِ على الانفصال عن دولة واحدة وهي الدولة العثمانية زمن طويل، وهو ما أشار إليه سمو الأمير فيصل في أكثر من لقاء سياسي وحوار صحفي، بل ظهر سموُّ الأمير فيصل وكأنه لا يريد أن يقبل انفصال دولتين غريبتين، بل يريد أن تبقى أواصر الأخوة والمحبة كما هي في الماضي القريب أيضاً.
ومن أجمل ما حفظته هذه الزيارة والتصريحات الأميرية أن يكون الأمير فيصل وهو أول عربي ومسلم يتمنى للنهضة التركية في ذلك الوقت أن تكون نموذجًا يحتذى به لدى دول الشرق العربي والإسلامي، آخذين بعين الاعتبار أن هذا الموقف من الأمير فيصل جاء بعد زيارته للكثير من الدول الأوروبية قبل زيارة تركيا، وبعد لقائه الكثيرين من زعماء العالم الغربي قبل ان يلتقي بمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال اتاتورك، فهذا الموقف ثمينٌ جداً، فقد وجد النقلة النوعية التحديثية في تركيا كبيرة جداً بالنّظر إلى العمر الزمني لتاريخ الجمهورية التركية، الذي لم يكن قد تجاوز العشر سنوات بعد. وأخيراً فإن من أجمل ما أضافته هذه الزيارة للأمير فيصل تعرّفه على عائلة زوجته الملكة عفت، والتي ولدت وعاشت في اسطنبول، وبحسب خبر صحفي كان أتاتورك هو من سعى لإيجاد موطن عائلة محمد بن عبد الله بن ثنيان آل سعود(عائلة الملكة عفت)، ومن ثَمّ خِطبة أتاتورك للملكة عفت من أبيها للأمير المحب؛ فكان في زواجه قصة أخرى في محبة التقاليد والثقافة التركية، إذ كانت الملكة عفت مهتمةً بالعلم والثقافة وقراءة الكتب باللغة التركية قبل تعلمها للغة العربية من زوجها، وتعلمه التركية منها، وقد كان لذلك أثرٌ متواصل في حياة الملك فيصل وفي أبنائه وبناته من بعده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 22 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت