شهدت إسطنبول في السنوات الأخيرة ظاهرة مستجدة وإن لم تكن جديدة، وهي توافد العرب للإقامة في تركيا بأعداد كبيرة ومتزايدة بصفة اختيارية دائمة أو اضطرارية مؤقتة. فمنها حالات هجرة إرادية من البعض، وحالات لجوء غير إرادي من البعض الآخر وهم الأغلبية، هذه الظاهرة شملت العديد من الشعوب الإسلامية، وإن كان للعرب الحظ الأوفر منها، وبالأخص من السوريين والعراقيين والمصريين والتونسيين واليمنيين وغيرهم. ولعل الظروف السياسية المضطربة في عدد من الدول العربية في السنوات الأخيرة كانت من أكبر الأسباب التي دفعت لهذه الهجرات الاختيارية وعمليات اللجوء القسري، فالأوضاع في العراق منذ عام 2003 غير مستقرة. وكذلك أوضاع سوريا التي قدم منها ملايين اللاجئين إلى تركيا، وهو ما ينطبق بدرجة متفاوتة على اللاجئين اليمنيين والمصريين والتونسيين والجزائريين وغيرهم. فهل يمكن اعتبار اختيار تركيا دون غيرها من الدول الإسلامية الكبرى حالة متميزة؟ وهل تعبر عن وشائج محبة وأخوة وتضامن مشتركة ومتبادلة، وعن رغبات نفسية وقناعات عقلية وحوافز علمية واقتصادية وغيرها؟ ربما تكون الحوافز الاقتصادية للمستثمرين الأجانب أكبر مما لدى المستثمرين الأتراك أنفسهم.
هل يمكن تأسيس تاريخ خاص لعلاقة تونس بتركيا؟
إن هذه الظاهرة ليست جديدة فبحكم الهجرات التاريخية من الشعوب العالمية إلى تركيا، وبالأخص في عهد الدولة العثمانية، بما فيها هجرات المسلمين واليهود من الاضطهاد الديني في أوروبا في العصور السابقة، حتى أصبحت تركيا من أكثر الدول تنوعاً دينياً وقومياً وعرقياً ولغوياً في عهد الدولة العثمانية وبعدها. وطالما كانت مدينة إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية محطَّ أنظار المغاربة والجزائريين.الهجرات الممتالية جعلت تركيا من أكثر الدول تنوعاً دينياً وقومياً وعرقياً ولغوياً في عهد الدولة العثمانية وبعدها
وكذلك كانت تجذب اهتمام وأنظار التونسيين أيضاً، فبعد الفتح العثماني لتونس سنة 1574م بدأ التونسيون يتوافدون إلى إسطنبول، وكان عددهم يزيد وينقص حسب الحُقب الزمنية.
وكان من الجالية التونسية مختلف أنواع البشر؛ منهم من يعمل بالتجارة، ومنهم البحارة، ومنهم رجال الدين، ورجال الدولة، ومنهم الطلاب والعسكريين واللاجئين السياسيين، والسياح وغيرهم، وكان أيضاً منهم من أمّه تونسية وأبوه عثماني.
في الفترات الأولى كان جامع العرب في منطقة غلطة وما حولها هو مكان للعبادة واللقاءات والتجمعات للمصريين والمغاربة، أما التونسيون فقد فضّلوا الاستقرار والاستيطان حول الجوامع الكبيرة الموجودة في بعض المناطق مثل: الفاتح، والسليمانية، وأُسكدار، وأيوب وغيرها.
هجرات تونسية سياسية إلى إسطنبول في السلم والحرب
بدأت الطبقة الحاكمة في تونس باللجوء إلى إسطنبول وترك تونس لأسباب سياسية، فاستقرَّ بعضهم في إسطنبول بشكل دائم وبعضهم بقي فيها مؤقتاً، ومنهم: الوالي حسين بن علي، وهو الذي استولى على الحكم في تونس بعد سنة 1705م، وورّث الحكم لأولاده وسُميت سلالته الحاكمة بالدولة الحسينية. وكلما تغير هؤلاء السادة من الحكم كان يأتي قرار تعيينهم في أماكن أخرى، وكان الباشوات الحسينيون يُرسلون الهدايا إلى إسطنبول مع الهيئات الرسمية. وفي زمن الحرب كان يأتي من تونس العديد من الهيئات للمساعدة، وكان يتم استقبالهم في إسطنبول أحسن استقبال، وكانت الدولة تتكلف بدفع كل مصاريفهم، وجرت هذه العادة حتى عام 1881م حيثُ أصبحت إسطنبول في العديد من المرات ملجأ للتونسيين الذين كانت حياتهم مهددة بالخطر في تونس. بدأ في بداية القرن الثامن عشر وكلاء ونواب الباشوات التونسيون بمهام خدمة التونسيين بما ينفعهم من حمايتهم وأعمال الوراثة وما شابه أي أنهم اهتموا بمصالح الناس ومنافعهم في شتى الاحتياجات في المدن الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، مثل: إسطنبول، وازمير، والإسكندرية، والقاهرة، استناداً إلى القوانين التي صدرت إلى المدن المركزية والمدن النائية والأرياف. مثل قانون سنة 1730م وقانون سنة 1808م وغيرها، ومفاد هذه القوانين أنّه تم إعفاء التونسيين من الضرائب في كل المدن بالدخول والخروج والسفر، بالإضافة لحماية وحفظ ميراث الموتى والحقوق الأخرى. وقد تأثر التونسيون بالحياة الثقافية لإسطنبول، ومن عاد إلى تونس نقل الكثير من العادات الجميلة معه، بالإضافة إلى أنَّ الكثير من العادات والتقاليد التونسية، نُقلت إلى إسطنبول وصار الانسجام والتداخل فيما بينها في ميادين الفن والدبكات الشعبية والمأكولات، وزادت فعاليات وتواجد التونسيين في إسطنبول في القرن التاسع عشر.
الطربوش التونسي
أصبحت القبعة التونسية (الطربوش) القبعة الرسمية القومية في إسطنبول ودول أخرى لمدة 100 عام. وكان الرُّواد والمبدعون في صناعة هذه القبعة الحمراء هم الحرفيون والتجار التونسيون، وتم إلباس القوات الخاصة في الدولة العثمانية بعد صلاة الجمعة هذه القبعات مما أسعدهم وأسعد السلطان، وتم استخدام هذا الطربوش حتى أُصدر قانون استخدام الخوذة (القبعة العسكرية) في زمن الجمهورية.أصبحت القبعة التونسية (الطربوش) القبعة الرسمية القومية في إسطنبول ودول أخرى لمدة 100 عام
بعد الفتح العثماني لتونس سنة 1574م بدأت إسطنبول تجذب اهتمام وأنظار العرب، وبدأ يتوافد إليها التونسيون
قصة 12 ألف شخص من القوات التونسية انتقلوا بالسفن إلى إسطنبول، وشاركوا بالاحتفال بالعرض العسكري أمام السلطان عبد المجيد العثماني؟في المرحلة الأولى تم إحضار 50 ألف طربوش من تونس، وفي سنة 1831م تم استدعاء الحرفيين ومساعديهم في صناعة الطربوش من تونس إلى إسطنبول، وفي سنة 1832م تم افتتاح مصنع للطرابيش، ومع مرور الزمن تم توسيع هذا المصنع. ولأنَّ الطرابيش المصنوعة في إسطنبول لم تفِ بالغرض طُلب إدخال طرابيش من دول أخرى وخاصةً النمسا، فكان في إسطنبول 200 حرفي تونسي يعمل في صناعة الطرابيش. وكان لون ونوعية قماش الطربوش التونسي غالٍ جداً، ومن بين الجماعة التونسية المتواجدة في إسطنبول شخص اسمه لاربي بسايس larbi bessais كان شخصاً ذو قدر وقيمة عند الحكومة في إسطنبول في القرن التاسع عشر، وكانت عائلته مقيمة في إسطنبول منذ وقت طويل، وكان هناك الكثير من القادمين من جزيرة جربة إلى إسطنبول.
هجرات الأروايين والتجار الجربيين إلى إسطنبول
وفي سنة 1826م أتى يحيى أرواي من جربة الذي كان سفيراً للوالي التونسي وابنه عمر أرواي رئيس المجموعة التونسية والمسؤول عن الحرفيين، وكان ذو كلمة عند التونسيين وعند الحكومة، وتم إعطائه مهمة قيادة القوات التونسية في حرب القرم 1854\1866م. كما أرسلت حكومة إسطنبول عمر إلى والي تونس بمهمة، وأصبح عمر أرواي الوزير الأكبر لتونس أثناء الحرب الروسية العثمانية في سنة 1877_1878م. كان هناك رجل محترم في إسطنبول من نفس العائلة اسمه فخام الدين أرواي، وكان عاشقاً للعادات التركية، وشخصاً ذو معرفة جيدة، عَمِلَ كدبلوماسيٍّ في القنصلية التونسية في الفترة ما بين 1960-1970م، وعُرف في الوسط الدبلوماسي أنّه كان شخصية غنية وكان محبوباً جداً وبعدها عَمِلَ في شركة بحرية في إسطنبول وتوفي في عام 1980م، وحتى الآن يوجد أفراد من تونس يسكنون ويعيشون من عائلة أرواي. عادةً كان التونسيون الرُّواد المعروفين بصناعة القبعات الحمراء في السوق المغطى، وكان العُمّال والحرفيين في صناعة القبعة حوالي مائتي شخص، وكان صُنّاع القبعات وتجارها يوزعون القبعات في رمضان إلى المدارس والأيتام مجاناً، وبذلك كانوا يُدخلون الفرحة والسرور في قلوبهم، أما تجار جزيرة جربة فكانوا يتاجرون بالصوف والملح والبهارات بين إسطنبول وتونس.التونسيون في الجيش العثماني
قرر السلطان محمود الثاني، ومحمد علي باشا في القاهرة القيام بإصلاحات للجيش وتطويره، فذهب الوالي التونسي طالباً من السلطان محمود الثاني أن يَضُمَّ العساكر التونسيين لهذا الجيش، ويتم تدريبهم وتعليمهم الإدارة وإعطائهم الألبسة الخاصة. فتم إرسال مجموعة من العساكر التونسيين إلى إسطنبول وتم تدريبهم وإلباسهم لباس التدريب العسكري، وهكذا كونوا الخلية الأولى من خمسة آلاف شخص من التونسيين. وفي حرب القرم تم إلحاق القوات التونسية لمساعدة الجيش العثماني، وانتقل 12 ألف شخص من القوات التونسية بقيادة رشيد باشا بالسفن إلى إسطنبول، وشاركوا بالاحتفال بالعرض العسكري أمام السلطان عبد المجيد، ثم أُرسلوا إلى منطقة القرم، ولكنهم لم يكونوا في الخطوط الأمامية بل كانوا في مؤخرة الجيش للمساندة. وعند انتهاء الحرب تمكن نصفهم فقط من العودة إلى إسطنبول، وقد تم كتابة الكثير من القصص البطولية عنهم، وعند انتهاء الحرب تم انضمام الكثير من الرُّتب العسكرية التونسية إلى الجيش العثماني، وأحدهم الضابط "ديلافر" الذي نشأ في تونس وأصله من مماليك القوقاز. وكان هذا الضابط مسؤولاً عن سفينة اسمها بشير، وترقى في سنة 1878م فأصبح باشا، وعمل أيضاً كقائد للأُسطول البحري في إسطنبول لسنين طويلة، واستطاع المشاركة في الحرب بين 1877- 1878م، وتوفي في سنة 1879م.التونسيون في الوظائف المدنية للدولة العثمانية
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بدأ عددٌ كبيرة من الوافدين التونسيين بالهجرة إلى العاصمة إسطنبول، وكانوا من الأخصائيين في مجالات عديدة، وبعضهم استلم وظائف في إسطنبول. وكان محمد بن محمود باشا من أكثر التونسيين شهرةً في إسطنبول، وكان ذا ثروة كبيرة، سافر إلى فرنسا بعد خلاف مع الحكومة التونسية وبقي فيها حتى عام 1857م. وقد أتى إلى اسطنبول على أنه السفير الفرنسي، وكان الرائد الأجنبي الأول في الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، وكان يُخطط لافتتاح مصرفٍ في إسطنبول، وكان يعيش في قصر فخم في منطقة السلطان أحمد، واشتهر بين الناس بأنَّ لديه مالاً بقدر مال قارون، فكان غنياً وصاحب ذوق، وكان يعيش برفاهية. وكان محمود باشا محلّ مدحٍ لدى الكُتّاب والأدباء مثل الكاتب نامق وأصدقائه، وفي السنوات الأخيرة من عُمُر محمود باشا ترك حياة الرهف والمتعة واتجه إلى العبادة والزهد حتى توفي في 18 شباط 1880م. ودُفن بالقرب من قبر السلطان أحمد قبالة البحر، وبعد وفاته قدّم أولاده وأحفاده بعض الخدمات الجميلة والإنجازات المفيدة.خير الدين باشا التونسي
ومن بين التونسيين السياسييين والمفكرين النهضويين في الدولة العثمانية والمقيمين في إسطنبول شخصيّةٌ معروفة ومشهورة، وهي شخصية خير الدين باشا، المعروف بخير الدين التونسي، وحياته الحيوية المليئة بالمصادفات المتنوعة. ولد في القوقاز وقد بيع كعبد في إسطنبول، وبعدها بيع لباشا تونسي كان ذو مهارة وذكاء، وقد نشأ في قصر الباشا التونسي، وترفع إلى رتب عسكرية عدة، ودرس في أوربا وتعلم الفرنسية، وكان يسأل عن أسباب تراجع الأمة الإسلامية، وبحث عن الطرق المعاصرة الحديثة، وعبر عن بعض آرائه في كتاب "أقوم المسالك" الذي كُتب بالعربية في تونس، والفرنسية في باريس، وكذلك باللغة التركية حينها. فأثبت أنَّه من الأعضاء المهمين في جيل النهضة للقرن التاسع عشر، حتى أصبح شخصية تستدعي الانتباه والإعجاب في تاريخ تونس بالقرن التاسع عشر، وقد أخذ أكبر مهمة في تونس، وهي مهمة الوزير الأكبر 1873 -1878م، ولعدم انسجامه مع الوالي التونسي تمّ استدعاءه إلى إسطنبول بواسطة الشيخ ظافر أفندي، فقدم الكثير من الإصلاحات الحكومية من خلال خدمته للسلطان عبد الحميد. كان مسكن خير الدين باشا في إسطنبول في بيت مُطلٍ على البحر وبعد وفاته انتقل بيته هذا إلى السلطانة ناظمة ابنة السلطان عبد العزيز، وأما أولاده صالح باشا وطه خير الدين، فقد ساروا على خُطى إصلاحات أبيهم للأمة الإسلامية والعثمانية. بعد أن احتلت فرنسا تونس سنة 1881م استخدمت سياسة الامتداد، فهاجر على إثرها الكثير من التونسيين منهم رجال الأعمال والمثقفين، هاجروا إلى طرابلس ومصر، وبعد 1881م أصبحت إسطنبول المأوى للسياسيين المهاجرين واللاجئين التونسيين. وكان وجود خير الدين باشا في إسطنبول ومكانته عند الدولة العثمانية يساعده في إمكانية عقد اجتماعات بين شباب النهضة والمثقفين التونسيين من جهة وأصدقائه التونسيين من جهة أخرى.محمد بيرم الخامس
وكان من بين التونسيين الذين لهم وشائج عيش مشترك مع الأتراك والدولة العثمانية محمد بيرم الخامس، وهو رجل متنوّر وحر الفكر ومن عائلة فيها علماء كُثُر، وهو يحمل الاسم الخامس من هذه العائلة وكان يُحسب من الأسماء القائمة على حركة الإصلاح في تونس، وله كتاب" صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار".
وقد عرض على السلطان عبد الحميد الثاني تقريراً مهمّاً وقيَّماً حول الإصلاحات بالدولة العثمانية.
وقد انتقد في تقريره بشكل جارح عن الوضع العام، وتحدث عن احتلال فرنسا لتونس في الصحف التركية الصادرة آنذاك، وحاول وعمل على تغيير السياسة العثمانية، ونشر صحيفة باللغة العربية سنة 1883م في إسطنبول.
وطبعت الصحيفة حتى العدد رقم خمسين، ثم ذهب إلى القاهرة في 1884م.
محمد لاربي باشا
ومن الشخصيات المهمة شخصية عسكرية مهمة أخرى هو: محمد لاربي باشا مدير رئاسة البلدية في تونس، درس في مدرسة خاصة بتونس كانت تُعد كمدرسة "غلطة سراي" في إسطنبول، وقدّم مقترحات حول استمرارية سيادة الدولة العثمانية في تونس.
وكذلك أتى إلى إسطنبول "رستم باشا" وهو صهر خير الدين باشا، جاء بنفس التوجهات الفكرية والمبادئ، وكان قد أُرسلّ من قبل إلى إسطنبول ليبارك للسلطان عبد الحميد بصعوده إلى العرش، فاستقبله السلطان وأعطاه المهام والرواتب مما شكل قوة كبيرة لتونس.
كان التونسيون في إسطنبول في هذه الفترة يعملون لصالح تونس وسلطان الدولة العثمانية وحاكمها، وقد كتب الصحفي التونسي محمد التونسي الذي أقام في إسطنبول من 21 حزيران إلى 22 أيلول 1828 كتب كتاب "الرحلة الحجازية" ذكر فيه مذكراته ومشاهداته في إسطنبول فكان كتاباً يجذب الانتباه.
وكان السنوسي قد مرَّ بإسطنبول قبل الحجاز، وذكر بكتابه حياة التونسيين في إسطنبول بشكل رائع. فضلاً عن الكتاب المؤلف من خمسة مجلدات المسمى بـ"صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" للكاتب محمد بيرم الخامس، والذي يعكس فيه حال الجالية التونسية في إسطنبول والقنصلية الفرنسية في إسطنبول، وكيف أنَّ التونسيون يعملون بمشاريع تفيد دولتهم، وكانت السفار الفرنسية تضغط على حُكّام الدولة العثمانية بسبب تواجد التونسيين. ومن أجل أن تتمكن فرنسا من متابعة الفعاليات التي يقوم بها التونسيون كانت تستخدم الكثير من الجواسيس، وكان منهم شخص اسمه علي أفندي ينقل المعلومات بشكلٍ مستمر إلى السفارة، وكانوا أيضاً يُراقبون من يذهب ويعود من وإلى إسطنبول ويخبرون عمن يشكون به.
بدأت الشخصيات المهمة بالتفرق في إسطنبول حيث توفي خير الدين باشا في 29 كانون الثاني 1920م، وذهب لاربي باشا إلى المدينة واستقر فيها، وتوفي حسين باشا سنة 1886م، ورستم باشا في 1889م. ودفن خير الدين باشا في حديقة أيوب في إسطنبول وبُني سبيل ماء لروحه في منطقة أيوب، وتزوجت ابنته من عالم الأثار السيد رشاد فؤاد، وهو حفيد الرئيس الأول فؤاد باشا. وفي نهاية القرن التاسع عشر أتت مجموعة جديدة إلى إسطنبول، وكان من أهم الأشخاص من بينهم خليفة خير الدين باشا الوزير الأكبر القديم مصطفى الشاب لكنه اتبع سياسة خاطئة، وساعده الفرنسيون على تمكنه من تونس، ولكي يحظى بالاهتمام والدعم من إسطنبول بذل الكثير من المال، فساعده السلطان عبد الحميد الثاني قبل أن يكشفه، وجعل له مرتباً شهرياً.
لكن عندما حدث التمرد ظهر مصطفى على حقيقته، فقطع عنه السلطان عبد الحميد المساعدات، وعاش بعدها حياة فقر وبؤس وشقاء في إسطنبول كما كانت حياته في البداية، إلى أن لجأ إلى خير الدين باشا. بعد ذلك كثُرَ الذهاب والإياب بين التونسيين من وإلى إسطنبول، وكان منهم تونسيون من أصل تركي ذهبوا إلى إسطنبول لنقل ثرواتهم وعملهم وأهلهم فزادت أعداد المهاجرين إلى إسطنبول. وكان الضابط محمد يذهب إلى ظافر أفندي حيثُ كانت تربطه به صلة وعلاقة، وبسبب السياسات التي اتبعها الفرنسيون في تونس اشتكى التونسيون للحكومة في إسطنبول قلة العدالة في تونس. وفي سنة 1889م أتى إلى إسطنبول شخصان من أشراف مدينة صفاقص هما؛ محمد بن الشيخ نوري ومحمد بن سفاركس، جاءوا يشتكون بعد أن أُخذت أراضيهم غصباً، وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة لهذه الحالة.
في مطلع القرن العشرين تم نفي الناشطين والقادة الذين خرجوا ضد الاحتلال الفرنسي فأصبحت إسطنبول مرة أخرى ملاذاً للتونسيين، وكان من بين الحكماء الشيخ حيدر بن حسين بن حسين والشيخ الثعالبي، وهؤلاء كانوا يردون أي توافد أجنبي لدولتهم. وكان رجلا دين مهمين هما: الشيخ صالح شريف والشيخ صفاء، الشيخ صالح شريف قدم إلى إسطنبول عام 1906م فبدأ بالتدريس وإعطاء دروس الوعظ، وصرف له السلطان عبد الحميد معاشاً شهرياً. أما الشيخ صفاء فقد استطاع الخروج من يد الفرنسيين على أنه ذاهب للحج فجاء إلى إسطنبول، وأعطى الدروس الدينية وعمل على تقوية الفكر وأقام فعاليات مكثفة ضد الفرنسيين، وفي حرب البلقان التي قامت بها الدولة العثمانية لاستعادة أدرنه في سنة 1912م كان التونسيون في مقدمة الصفوف.
ومن التونسيين الذين أتوا إلى إسطنبول المحامي علي محمد باشا وهو شاب تونسي نشأ بثقافة عربية وكان محامياً جيداً عمل في مدرسة صادقي واستطاع أن ينور عقول الشباب، وعندما بدأت الإدارة الفرنسية بالشك به نفته هو وأصدقائه المثقفين. فتم استقباله في إسطنبول، وأصبح عضواً في شورى الدولة، ثم عمل في وزارة العادلية والمذاهب آنذاك، وكان يسعى لتخليص الدول المحتلة من الاحتلال وإعطائها حقها في الحرية والاستقلال. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى تم عقد مجلس لأصحاب التيار الاجتماعي شارك فيه الكثير من طالبي الحرية التونسيين، وفي هذا المجلس أرسل علي باشا وعلي اسماعيل صفائحي رسالة باللغة الإنكليزية لإيصال ما يفعله الفرنسيون في تونس والجزائر. استلم أحد أبناء خير الدين باشا مهام مؤثرة في فترة المشروطية الثانية وأصبح سفيراً ومبعوثاً من إسطنبول في انتخابات حزب الائتلاف والحرية في 11 تشرين الثاني 1919م وقد تم اختياره كوزير إلى أن أخرجه طلعت باشا هو وإخوته، وتم إعدام أخيه صالح باشا بتهمة قتل محمود شوكت باشا في سنة 1913م مع أنه كان بريئاً. تشكل مؤيدون وداعمون للدعوة القومية لحرب الاستقلال من التونسيين والجزائريين، وفي أرجاء مناطق إسطنبول وجد بعض الذكريات تعود للتونسيين حتى الآن، مثل مزارع تونس في منطقة سليمية في أسكدار، والمزارع التونسية التي تخطر على البال أولاً في خليج أوغلو.
ومن الرجال المهمين أحد أهم الحكماء التونسيين الوالي محمد الطيب الجلولي، الذي أتى إلى إسطنبول سنة 1911م وعاش لمدة سنة ثم عاد لدولته، كان جنرالاً عسكريّاً رفض تسلم إدارة الحماية الفرنسية، وعاش في إسطنبول لمدة طويلة، ثم رجع لوطنه بعد أن حصلت تونس على استقلالها، وكتب ذكرياته هناك، ومات بعد بضع سنين وتمت طباعة ذكرياته في تونس. وأحد الشخصيات المشهورة في إسطنبول في عهد الجمهورية محمد صفائحي وهو ابن اسماعيل صفائحي، وكان رجلاً مثل أبيه محترفاً في قراءة المخطوطات، وعمل نحو 30 سنة في مكتبة السليمانية من 1940م حتى 1970 حيث أتم الـ 30 سنة في المخطوطات العربية، وحتى اليوم نجد في تركيا أناساً كنيتهم التونسي.
زاد السفر بين إسطنبول وتونس في السنوات الأخيرة باسم السياحة والتجارة والتعليم، فوشائج المحبة بين الشعبين بقيت مستمرة وقوية في أغلب مراحلها، ولعل تقارب لون العلمين التركي والتونسي يمثل صورة مشابهة لما في القلوب والعقول والنفوس بين الشعبين. فمنذ استقلال تونس لم تتوقف خطوات توثيق العلاقات التركية التونسية، وكانت في حالة ازدياد مضطرد منذ نجاح الثورة التونسية عام 2011. فقد وجد الكثير من الشباب التونسي أملاً في أن تحتذي تونس خطوات النجاح في التجربة النهضوية التركية المعاصرة، وأن تتجنب أخطاءها أيضاً، وذلك بالتركيز على النجاح السياسي والاقتصادي أولاً، وعدم الانغلاق على مفاهيم الجماعات الدينية الحزبية الأيديولوجية. فالنهضة الصحيحة تقوم على الانفتاح السياسي والازدهار الاقتصادي الذي يلبي حاجات الشعوب اليومية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.