قد يرتطم ثقل الفرد المهموم الماشي في الشارع بأحد أفراد الشرطة وهو ينظم حركة المرور، يتركه واقفا لوقت طويل أمام طريق عريضة متناسيا وقوفه، وقد لا يراه فرط السيارات.. مرتفعة كانت أم منخفضة.
وقد يحدث أن يعترضك أحد السكارى وهو يتبول في ركن مخملي على الساعة الرابعة من مساء صيف ساخن، وإحدى المظاهرات المدافعة عن حقوق المرأة تمر بجانبه بهدوء ودون دهشة وقد علت ابتسامة محيا صديقنا المنتشي. ربما رأيت عامل البناء يصيح طالبا مطرقة أو طفلا يلتقط نصف تفاحة من القاع وأمه تصرخ "لا تلتقطها فهي متسخة بمخلفات الشارع".
قد يقول لك أحدهم "أنت طفل شارع"، وقد يصرخ آخر في وجهك ثائرا مبتلا بعرق الحانات "الشوارع والصدام حتى يسقط النظام".. قد تقول لحبيبتك "لنتسكع في الشوارع" وقد تتباهى بنفسك أمام أترابك قائلا "لقد طفت شوارع باريس أبيع الزهور عندما كنت طالبا".. قد تشتري كتابا من الشارع أو علبة كبريت أو سندويتش أو قد تعترض شخصا لا تريد الحديث إليه.. دائما في الشارع.. الشارع: دلالات تطول وقد لا تنتهي.
ليست هذه المقدمة سوى مقاربة سردية تخييلية لفكرة فنية مارسها ونسجها كل من سحر العشي وسيف فرج في معرضهما الفوتوغرافي الأخير بعنوان "هدم"، والذي سنروي في هذه المقالة أقصوصة صغيرة عنه، نرجو من الناس التي تقرأ أن يتسع صدرها لبعض الأفكار الماكرة و"الهدامة" عبر حكي مليء بالحماس والحب والجمال جاءنا على لسان الشابين المذكورين: سحر وسيف.
ولئن كانت أقصوصتهما منسحبة على مجال فن التصوير الفوتوغرافي إلا أنها إحالة إلى أبعاد رمزية قد تكون أعمق مما نتصور، على الأقل حتى هذه اللحظة التي تُكتب فيها هذه الجملة التي أنت بصدد قراءتها الآن.
سنقلب بنية المقالة، وواجبي أن أنبهك إلى هذا منذ البداية.
إذ سنبدأ باستنتاج بسيط مفاده أن الحمولة الإنسانية تعادل أضعاف الحمولة الفيزيائية لمستحدث إنساني يدعى "المدينة". هذا الاستنتاج الذي يقبع في مكان الأطروحة مردّه تلك الصور المعلقة في رواق E1-Elbirou Art Gallery بمدينة سوسة، الذي حمل صور كل من سحر العشي وسيف فرج وقد أخذت فرح بن منصور على عاتقها إخراج العرض.
تقول سحر العشي أن الفكرة العامة التي جمعتها بسيف فرج، وهما من العاملين في حقل الفن الفوتوغرافي، هي "المعمار ـ الشارع" ولكل منهما نظرته الخاصة لهذا الفضاء الذي يملأ فراغ الإنسان الساكن في المدينة كل يوم.
مثلا تشير سحر إلى أنها لم تكن تهتم البتة بأي تفصيل من التفاصيل اليومية التي تحيط بها، "لا تعنيني تلك التفاصيل ولا تعنيني محاكاة الواقع في الفن، الذي يعنيني بالأساس هو كيف يمكنني خلق تأويلات وقراءات أخرى للواقع وللحقيقة عبر الفن". مشروع فني فيه محاولة لهدم المدينة وتهيئتها لإعادة البناء كي تواكب وقتها ومهامها المتجددة والمتدفقة
هدم للمدينة التي بنيت بشكل خاطئ، وهدم للسلطة في حد ذاتها وهدم للتحضر المزيف الذي يفرضه الآخرون علينابالفعل، لاشيء ثابت في صور سحر، ولا شيء مباشر أيضا.. جل الصور كانت مأخوذة من وراء بلور متحرك، البلور الذي أًصبح ميزة المدن في زمن الحداثة وما بعدها بامتياز. وقد يقصد بالبلور المتحرك وسائل النقل سواء عامة أو خاصة، أو تلك المقاهي المطلة على الشوارع بعازل بلوري بينما يتحرك الناس خارجا.. مشهد مغرٍ جدا لرواد التأمل ـ وحيدين ـ في المقاهي بصحبة إفعام شعوري وذهني عميق. لسحر العشي قناعة تعبر عنها بوضوح ودون تردد وهي أنها تعيش داخل دائرة تأويل ذاتي للأشياء والمحيط تمكنها من تحويل شحنة الموضوع الفني الذي أماما من حقيقته الفيزيائية إلى بعد آخر تأويلي سرعان ما يأخذ شكلا إنسانيا.. حتى وإن كان موضوع التصوير شجرة أو قطرات مطر على البلور. فموقعها الذي تلتقط من خلاله الصورة يمكنها من فرض وجهة نظرها على المتفرج دون تعسف، بل إن الناظر إلى صورها يستنتج أنها تختار موعد التقاط صورتها. وربما يعود ذلك إلى تأثرها بالسينما حسب قولها وأنها لم تهتم من قبل بالتصوير الفوتوغرافي بقدر ما اهتمت بعالم التصوير السينمائي وتقنياته، حتى أنها التقطت ـ في معرضها المشترك هذا ـ ثلاث صور للموضوع ذاته في أيام مختلفة.. كأنه مشهد فيديو متحرك. وإذا أردنا ربط هذه الرؤية التي تتبناها سحر بموضوع معرضها المشترك "هدم" فالأمر قد يطول شرحه على نحو تفصيلي فني، لكن في المحصلة تقول سحر إنها اعتمدت على اندفاعها وشغفها بخلق الأفكار ومساحات التأويل كي "تحاول هدم المدينة وتهيئتها لإعادة البناء كي تواكب وقتها ومهامها المتجددة والمتدفقة". تصريح سحر الأخير هو عقب السيجارة الذي سنشعل به سيجارة أخرى، حتى نستمع إلى سيف فرج الآن. سيف الذي ترك دراسة الطب في سنته الرابعة واتجه نحو الشوارع بلباس يعلوه العرق بحثا عن الهامش.. الهامش الذي من خلاله يتم صنع المعنى الحقيقي للنصوص والأعمال الفنية والسياسات وغيرها، حسب داريدا الذي كان من بين ملهمي سيف فرج: مفكك واقعه عبر صوره.
ماذا بعد الهدم؟
سيف على عكس سحر، لا حاجز يفصل بينه وبين موضوع الصورة وقد لا يكون ذلك الموضوع في حالة حركة في عدة صور. كأن الفوتوغرافي يحيل الناظر إلى فكرة أن هذا الذي تراه هو بنية المدينة.. تعال لنهدمها معا. يقول سيف معلقا على فكرة الهدم "التفكيك déconstruction فكرة قد لا تليق بالعالم الثالث، لكنني عثرت على ما يليق به démolition الهدم.. وفي الحقيقة هو هدم للمدينة التي بنيت بشكل خاطئ، وهدم للسلطة في حد ذاتها والتي تغلغلت فينا وهدم للتحضر المزيف الذي يفرضه الآخرون علينا". على نحو ما ـ حداثي وما بعد حداثي ـ علينا التجهز لاقتحام مجال معرفي صعب المراس عند الحديث في مقاربة سيف فرج، وهو حقل "السلطة". لقد ركز فرج على مسألة ما في الشارع على ذلك الهامش الذي استحوذ على انتباهه بشخوصه وأشيائه وأركانه ودرجات ألوانه المتفاعلة مع الشمس والظلال. فتجد نفسك فجأة ناظرا إلى صور تحدث عنها ميشال فوكو سابقا عند تعريفه لمجالات السلطة قائلا إنها "لا مركز لها". وقد تتحقق هذه النبوءة في صور سيف حيث السلطة ـ في الصورة على الأقل ـ لتلك الهوامش: فقير نائم في العراق، طفل على حصان، معتوه على الشاطئ، عامل بناء جالس، إلخ. ماذا بعد الهدم؟ يجيب سيف بمكر بريء فيقول "ليست وظيفتي أن أتصور ما بعد الهدم، الفنان يهدم والـ"سيستام" يبني". قد تبدو الإجابة متوفرة على بعض الأناركية المتأصلة في ذهن هذا الفوتوغرافي الشاب، لكن الأمر متعلق بمبدأ متأصل أيضا في علاقة الفنان بالسلطة: الصراع الدائم والأبدي.. دائما أبدا.. أبدا دائما. وبمحاولة اشتقاق معنى ما لما يقوله سيف فرج، فإن مقولة السلطة بشكل عام قائمة على الثبات والـla certitude ووظيفة الفن ببساطة هي تهديد ذلك الثبات وزعزعته كلما اطمأنت السلطة ومالت للهيمنة على الإنسان، وكل ذلك يدور داخل المدينة بالأساس. لا يمكن إنهاء هذه المقالة بشكل كلاسيكي، فبتلك النهاية نقتل روح فكرة سيف وسحر في ديمومة الهدم... هدم لكل ثابت ثقيل معيق وغير جميل. سنفتحها ليختمها القارئ كمقالة منخرطة في حملة الهدم. يتواصل معرض سيف فرج وسحر العشي إلى يوم 20 مايو/ أيار الحالي في مدينة سوسة، فضاء E1 قرب معهد الفنون الجميلة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...