وُلدت ساشا ابنة كارل ساجان، عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي، مثل قريناتها، في عينيها دهشة، وفي ذهنها تساؤلات، فذهبَت إلى والدها وهي لم تتجاوز الرابعة عشرة ربيعًا، وسألَته: هل يمكن أن نرى آباءنا بعد أن يموتوا؟
فكّر كارل مليًا، وقال لها برقّة الأب إنّه لا يودّ شيئاً في العالم أكثر من رؤية والديه مرّة أُخرى، ولكن لا يوجد دليل يدعم فكرة حياة أخرى؛ لذا عليه ألّا يستسلم لإغواء نفسه.
تسأله ابنته: لماذا؟
يقول كارل: "من الخطر تصديق الأشياء لا لسبب إلا أنّنا نريدها أن تكون حقيقية، يمكن أن تُخدعي إذا سألتِ الآخرين، خاصّةً الأشخاص الذين هم في السلطة.
بعد وفاة والدها، كتبَت أنّه كان يحاول أن يَنقل لها الحقيقة التي يراها، "جميل جداً أن تكوني حيّة"، تقول ساشا: "نحن من مادّة النجوم"، قال أبي ذلك، وجعلني أشعر به.
إحدى أشهر مقولات كارل ساجان: "نحن من غبار النجوم". عبارة تجعل قلوبنا تنبض، وأجسامنا ترعش، فماذا كان يقصد عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي بهذه العبارة؟
بداية الحكاية: ذرّات جسمكم في أفران النجوم الأولى
يقول عالم الفيزياء الفلكية نيل دي جراس تايسون: "أن تُدركوا أنّ كل جزء يُشكّل جسمَكم، الذرّات التي تبني الجزئيات، يمكن تتبّعها إلى البوتقات التي كانت ذات مرّة مراكز النجوم، ثمّ انفجرت أحشاؤها الغنية بالكيمياء إلى مجرّة، وأغنت غيوم الغاز البكر بكيمياء الحياة. لهذا السبب أقول إنّنا جميعاً مرتبطون بعضنا ببعض بيولوجيّاً، وإلى الأرض كيميائيّاً، وإلى بقيّة الكون على نحو شاذ، هذا رائع! يجعلني أبتسم وأنا في الواقع أشعر بنهاية ذلك، إنّنا لسنا أفضل من الكون، نحن جزءٌ من الكون، نحن في الكون، والكون فينا". هل تريدون التعرف على تفاصيل الرحلة؟ إنها رحلة طويلة، وممتعة، وصعبة، ومدهشة. قبل 13.7 مليار سنة تجلّى الزمان والمكان ليتغلّبا على كلّ الأحداث الكونية، إنها لحظة الانفجار الكبير، وبعد مرور 3 آلاف سنة على ولادة الكون، تكوّنت الذرات الأولى من الكون، رغوات غير مرئية لجسيمات ما دون الذرّة. وبعد 200 مليون سنة، بدأت النجوم الأولى في الاشتعال والانصهار، وهي تحوي ذرّات من الهيدروجين مضغوطة في جاذبية عالية، لتتحوّل إلى عناصر أثقل. إنّها الجاذبية التي تلعب دور البطولة في هذه الرحلة، وهنا في قلب هذه الأجيال الأولى من النجوم، يُرجّح العلماء تَشكّل الكالسيوم الذي سيوجد لاحقًا في عظامك، والحديد في دمك. وليس ذلك فقط ينتج قلب النجوم عناصر ثقيلة أخرى مثل الذهب والفضة في تصادمات نجمية، أو في قلب النجوم الضخمة، أو في انفجار "مقدس" يصفه العلماء أنه أكبر الأحداث في الفضاء، ولا ندرك منه سوى ضوء، ضوء أكثر إشراقًا من نجوم المجرة بأكملها، وما ندركه بمجاهرنا من ضوئه هو 1 من 1%، إنه حادث انفجار النجم "السوبرنوفا". عندما ينفجر النجم إلى "سوبرنوفا" هائلة، يهرب الكالسيوم من المشهد مثل بطل فيلم حركة يفرّ من سيارة متفجّرة، لتطوف ذرات الكالسيوم عبر الفضاء الواسع بين النجوم لآلاف السنين، قبل أن تنضمّ إلى سحابة من الغاز والغبار الكثيفة بما يكفي لتنهار وتتجه إلى نجم جديد، حتى ينفجر بدوره إلى "سوبرنوفا". إنها دورة تكرّر نفسها، وبعد عدة أجيال من النجوم، يولد نجم ويموت في حادث السوبرنوفا، هكذا بدأت تتجمع المادة التي ستكوّن يومًا ما نظامنا الشمسي بفعل قوة الجاذبية، وذلك قبل حوالى 5 مليارات سنة. وتعثر أخيرًا ذرات الكالسيوم على طريقها، في سحابة غبار ستصبح نظامَنا الشمسي، وذلك قبل خمسة مليارات سنة، وإذا نظرنا إلى هذه السحابة من الداخل، فسنشاهد ما يشبه ضباباً من ألوان قوس قزح المذهلة، وقطع ماس عائمة كأنها أطفال الشمس، تشكل إشعاعاتها الغاز والغبار، وتحولهما إلى حبيبات صلبة. أما ذراتكم التي ستصبح بعد زمن مديد جسدكم فهي محتجزة الآن في الكويكبات والنيازك، تدور بطريقة حلزونية، كثعبان يلتف حول عنق فريسته، حول "بورتوستار"، كتلة غازية ستتحول لاحقًاً إلى شمسنا، ومع الوقت تتجمع وتتحد لتشكل الكواكب الشمسية، ومنها أرضنا.جسم الإنسان نموذج ذرّي مُصغّر لكلّ الحياة في الكون، ولأنّ عدد الذرات في جسمكم هائل، يحتوي جسمكم على ذرّات من جميع الكائنات البشرية التي عاشتوبضغط من الجاذبية، والانحلال الإشعاعي، وقوة تأثير الكويكبات ترتفع درجة حرارة كوكبنا، فالأرض مرجل من الحمم المنصهرة، وذرات جسدكم كانت تغلي في يوم ما داخل هذا المرجل البركاني، وبقيت كذلك دهوراً. هذا الكوكب المغلي يدفع الغازات إلى الغلاف الجوي، بينما تترامى في أحضانه المذنبات الغنية بالماء، حتى تتراكم كمية كافية من الماء، بدأت تتكون منذ 4.3 مليار سنة، ويغلي الماء بفعل الحرارة، وتتكوّن سحب، وتسقط الأمطار، وتتشكّل المحيطات. أغنت الأرض تلك المحيطات، والنيازك ترمي نفسها في أحضانها حاملة جزئيات عضوية معقدة. إنها بيئة كيميائية فريدة من الفضاء، و "دوش" الإشعاعات الكونية النشطة تُكوّن حساءً من مُركبات عضوية، حتى تجمّعت المياه، وظهرت الحياة في مكان ما على هذا الكوكب.
جسمكم ذرات كربون لجنكيز خان وكبريت دافنشي
يقول ستيف دنتون، خريج رياضيات وفيزياء وناشر نظرية في حسابه على موقع "كورا": "جسم الإنسان نموذج ذرّي مُصغّر لكلّ الحياة في الكون، ولأنّ عدد الذرات في جسمكم هائل، يحتوي جسمكم على ذرّات من جميع الكائنات البشرية التي عاشت، ربما في إصبع قدمكم اليسرى ذرة كربون كانت لجنكيز خان أو الإسكندر الأكبر أو إسحاق نيوتن، وذرة الكبريت في أذنكم اليمنى كانت تنتمي إلى ليوناردو دافنشي أو إبراهام لينكولن، أيّ شخص تختارونه بشكل عشوائي من التاريخ ثمة احتمال أنّكم حصلتم في جسمكم على القليل منه". لذا ليس غريبًا أن ننظر إلى النجوم فنشعر كما لو أنّنا من هناك ولسنا من الأرض، وعندما تشرق الشمس ونمشي بين الشجر والحيوانات والبشر، نشعر أنّنا من هنا، وأنّنا خالدون لن نموت أبدًا. ولكننا سنموت، فالأفران التي أوجدت عظامنا، ذات يوم ستبدأ بالانفجار، سوبرنوفا، أو يمرّ عبر منظومتنا الشمسية نجم ميت "ثقب أسود"، يجذب كل من حوله إليه، وكأننا ممتلكاته التي صنعها، لتتأمله بضعة مليارات من السنوات، ثم يستردّ بضاعته مرة أخرى. أليس مدهشًا أنّنا بعد مليارات السنين نعي ولأول مرة طريقة خلق أجسادنا وعظامنا، ونتنبّأ بنهايتنا المحتومة؟ أليس جميلًا وأليمًا أن ننظر إلى مليارات السنين الماضية متأمّلين، ومليارات السنين المقبلة مترقّبين. يقول العالم البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ: "إنّ حقيقة أنّنا البشر، ونتكوّن من مجرد مجموعات من الجسيمات الأساسية للطبيعة، تمكنّا من الوصول إلى هذا القرب من فهم القوانين التي تحكمنا، وتحكم كوننا، إنه انتصار عظيم".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...