صديقي قَطَع تذكرة دخول إلى الأوبرا، لكنه مُنع بحجة "لازم تلبس بدلة كاملة ده مكان محترم". ينصحه زميل صحفي "هذه تقاليد الاستماع في الأوبرا ويجب أن تحترمها أو لا تذهب إلى هناك".
كان اكتشاف صديقي صادماً، إذ كيف يكون مقيداً بزي وهو يستمع إلى "صوت الحرية".
هل سبق أن لاحظتم أن الاستماع يجبركم على ارتداء ملابس معيّنة، وأداء جسدي محدد؟ هل تستمعون إلى موسيقى الروك؟ البسوا هكذا، لماذا لا تصفقون؟ لماذا لا ترقصون؟ لا تصدرون صوتاً نريد أن نركز...
هذا ما اكتشفَته العازفة التجريبية الأمريكية باولين أوليفروس.
ليس ذلك فقط، لقد اكتشفت أن الغناء لم يعد عصرياً ومتجاوباً مع احتياجاتنا للحرية، وغير قادر على مواجهة المأساة التي نعيشها كل يوم أمام نشرات الأخبار، حبس آلاف الشباب، مجازر في العراق وسوريا واليمن، كذب وتزييف، هذا ما فكرت فيه أوليفروس، وقررت، وكانت تلك نقطة انطلاقها.
غيروا العالم
تقول أوليفروس: "كنت أشاهد التلفزيون عندما اغتيل روبرت كينيدي، واحتجاجات فيتنام، والفظائع التي بلغت ذروتها، وطالب في جامعة كاليفورنيا جلس في الميدان وسكب كيروسين على جسمه وأحرق نفسه حتى الموت. شعرت بمزاج العصر. أحسست بالخوف الهائل". تضيف متذكرةً بذور المرحلة الأولى في تجربتها الفنية: "بدأتُ أتراجع، لم أكن أريد أن أعزف في الحفلات الموسيقية، وبدأت أعزف نغمات طويلة على الأكورديون"، سنة كاملة من أجل نوتة موسيقية واحدة، واكتشفت بحسب مجلة "نيويوركر"، موسيقاها الخاصة المهدئة والملطفة للعقل والجسد من الأخبار الصادمة في العالم، وبدأت تعزف سرّاً في مجموعات صغيرة إلى أن طورت نوعاً من الموسيقى بات يعرف بـ"تأملات السونيك". تقول أوليفروس عام 1974: "كم شخصاً منكم يعتقد أنه ينتمي إلى أقلية؟ إذا خرج كل شخص من دولابه سيتغير العالم بين ليلة وضحاها". وأضافت بعد ذلك "العلاج يمكن أن يحدث عندما يُظهر كل واحد فينا تجربته الداخلية، ويتقبلها الآخرون". وتقول عن موسيقاها في عام 1971 إنها تسعى إلى "توسيع الوعي" لأغراض إنسانية وعلاجية. وقالت في تجمع للموسيقيين عام 1999 إن هدفها "خلق بيئة تحوي انفتاحاً على كل ما يسمع، مع تفهم أن الاستماع يُشفي". ماتت أوليفروس في 24 نوفمبر 2016 وعمرها 84 عاماً، واشتعلت السوشيال ميديا بموسيقاها "تأملات سونيك" وتلك الممارسات "الغريبة" في الاستماع للموسيقى، التي اعتبرتها "وصفة طبية لشفاء الإنسان"، تقول:"تنزهوا في الليل، وامشوا بصمت حتى يصبح قعر قدمكم أذناً".تنزهوا في الليل، وامشوا بصمت حتى يصبح قعر قدمكم أذناً"تصفها صحيفة "الجارديان" بأنها ناشطة لا تعرف التعب من أجل حقوق المرأة، وصنعت حالة "موسيقية مثلية نسوية" إذ عرضت لـ6 فتيات عملاً خارج الحدود التقليدية المتعارف عليها بين الفن السليم والارتجال.
حرية الجسد أولاً
في وسط الفوضى السياسية التي سادت عصرها تبنت أوليفروس، كعازفة، الجسد وحركاته ووضعه أثناء الاستماع باعتباره طريقاً إلى التحرر. تصر أوليفروس على أن حركة جسمكم وأنتم تستمعون إلى الموسيقى مهمة جداً، إذ يمكن لتفاعل جسدي معين أن يحرركم. علّمت أوليفروس الوعي عبر الحركات البطيئة للجسد في أوضاع الجلوس والوقوف والاستلقاء والمشي، لتحرر الجسد مما تسميه "تحكم الأفكار في حركاتنا بطريقة لاواعية" وسرعان ما باتت هذه التحركات التأملية مركزية في عروضها الموسيقية. بالنسبة إلى أوليفروس، فإن الموسيقى ثانوية، تجرب نفسها في كل تجربة، وعندما تعيد عزف المقطوعة تعزف أخرى، وتردد: "الموسيقى مرحب بها كشيء ثانوي"."استمعوا إلى كل شيء"
ألم نسأل أنفسنا يوماً لماذا نُعجب بالموسيقى؟ لماذا الإيقاع الموسيقي عظيم وتطرب له النفس أكثر من حفيف الشجر، وصوت المطر، والمعالق والكؤوس الزجاجية، والعطسات. تقول أوليفروس الكلمة التي تعبر عن فلسفتها حيال الموسيقى: "استمعوا إلى كل شيء طوال الوقت، ذكّروا نفسكم عندما لا تستمعون" جملة بسيطة ولكنها فكرة حولت حياتها إلى موسيقى. عندما كانت في الـ 16 من عمرها أعلنت أوليفروس رغبتها في أن تصبح ملحنة، ولكنها وجدت الموسيقى التقليدية غير معبرة أو متواصلة مع الأصوات التي تسمعها حولها، كالآلات في الشوارع، والحشرات في البيت، والطيور في الحدائق، فحاولت إعادة إنتاج تلك الأصوات. من هنا لجأت إلى التكنولوجيا. ولتحقق هذه التكنولوجيا الجديدة المطلوبة، كانت أوليفروس في طليعة موسيقى الالكترونيات، عملت على أجهزة تسجيل، ومن مؤسسي مركز موسيقى أشرطة سان فرانسيسكو، وتعاونت مع تيري رايلي الموسيقي الأمريكي الذي ابتكر إدخال الأصوات والتأثيرات الصوتية على الأغاني، وكان متأثراً بالجاز والموسيقى الهندية القديمة. بمحاولة جريئة قدمت أوليفروس تشويهاً لأوبرا قديمة خرجت في القرن التاسع عشر "أوبرا بوتشيني"، حيث تظهر الأصوات الإلكترونية المفاجئة والمرتجلة والمتقطعة وكأنها تمزق بطلة الأوبرا الكلاسيكية، في أغنية "وداعاً للفراشة" التي أصدرتها عام 1965 تقول عنها "إنها محاولات لوداع، ليس فقط موسيقى القرن التاسع عشر، ولكن أيضًا النظام الأخلاقي المؤدب لذلك العصر وما لازمه من اضطهاد مؤسسي على جنس الأنثى". وفي عام 1989 اكتشفت أوليفروس الاستماع العميق في صهريج في فورت وردن، حيث يستغرق الصدى 45 ثانية، وكان معها عازف الترومبون ستيوارد ديمبستر، وفنان الصوت يانايوتيس، وشكل الثلاثة فرقة "الاستماع العميق"، وتعاونت أوليفيروس مع الفرقة لإخراج مقطوعات نقلت فيها مناطق جديدة من الصوت. في معهد "الاستماع العميق" حيث درست، تقول لطلابها إن العالم يحتاج إلى السماع الآن، لأنه "علينا أن نحرص بعضنا على بعض بشكل فردي وجماعي".كيف يعزفون!
تقول أوليفروس: "أريد للعازفين أن يستمعوا إلى أصوات عزفهم بالطريقة ذاتها التي يسمعون بها الأصوات الكاملة قبل أن يصدروا صوتاً آخر"، وذلك يعني أنهم يستمعون إلى أثر الصوت، لأن الصدى يضيف كثيراً للصوت. وتجعل أوليفروس الجمهور يقرعون الكؤوس، ويستمعون إلى التكرار في صدى الصوت. المهارة الأساسية تكمن في الاستماع، تقول أوليفروس، كيف أستمع إلى المواد، وكيف أستمع إلى الفضاء، مع الصوت الإلكتروني أستطيع أن أخلق حالة مماثلة لتفاعل المواد مع الفضاء، اعتمد الفضاء أولا ثم صدى الصوت في هذا الفضاء، ولدي طرق عديدة. الطريقة الثانية هي الارتجال، تجعل العازفين يرتجلون بطريقة تختلف في كل مرة، وذلك بالتركيز في الانعكاسات، الانعكاسات البصرية على الجدران، وكذلك على المرايا، والتفكر في المواد بطريقة تأملية، ثم الطريقة الأخرى الاستماع عبر الصدى إلى آثار الأصوات التي نقوم بها. تقول في محاضرة لها عام 1981:"الكون ارتجال، ونحن متطورون، لذا "الارتجال" عادة ما يحدث" إنها لا تقوم ببروفات محددة، تقول "لا أفكر في الجمهور باعتباره جمهوراً أجلس ويركز الحاضرون آذانهم وعيونهم علي ولكني اعتبرهم مساحة فضاء وأكتشفها وأنا أستمع إلى العازفين". وماذا عن الأصوات القادمة من خارج قاعة العرض؟ تجيب أوليفروس إنه لشيء جيد أن تستمعوا إليها، وإن لم تكونوا تسمعون، وتطردون تلك الأصوات من أذنكم، فأنتم إذاً لا تفهمون العرض، لا تفهمون الاندماج الحاصل بين العازفين في كل شيء، الاستماع إلى كل شيء. تحكي أوليفروس عن تجربة استماع لتوضح فكرتها: في الليلة الماضية كانت هناك بعض الأشياء الجميلة التي حدثت عندما خرجت أصوات من الكؤوس، سمعت صوت إقلاع طائرة، ثم قرع الجرس، كل ذلك في صوت واحد، وتساءلت هل هذا كان فقط للعازفين أم هناك أصوات خارجية، لا يمكن أن تعرفوا الفاصل حقاً بين من يعزفون والأصوات العشوائية القادمة من خارج الغرفة، أنتم تستمعون إلى كل شيء."مايكروفون الشعب" نوتة موسيقى
لنرجع إلى عام 2012 حيث ميادين الثورات العربية وحركات أوكيوباي في الغرب، في جاراج زوكوتي حيث أقامت حركة "اوكيوباي وول ستريت" التي صنعت على غرار ميدان التحرير المصري، والمستلهمة من احتجاجات الهيبيين في الستينات، جاءت مجموعة من الفنانات من فرقة "الاستماع العميق" تستمع إلى طريقة المخيم في إصدار البيانات، يقول الشخص البيان ثم يردده الناس بصوت عالٍ، حتى يسمع آخر من في المخيم البيان ويسمون هذا طريقة "مايكروفون الشعب". كانت فتيات فرقة "الإنصات العميق" في طريقهم إلى الجراج "الثوري" في مانهاتن، ولاحظن الجمال الموسيقي في الاحتجاج والتظاهرات، تقول إحداهن: "كنت مفتونة بطريقة إيصال المعلومات عن قمع الشرطة" ينادي الأول مثلاً احذروا الشرطة، ثم ينقلها آخر شخص وصل إليه الصوت ويضيف ويحذف من عنده، حتى يصل الصوت إلى آخر المتظاهرين ليعدوا أنفسهم ويحموا أصدقاءهم من الاعتقال. https://vimeo.com/43189982 استلهمت حالة "الحرص بعضنا على بعض فردياً وجماعياً" في حركة "أوكيوباي" الفنانتان المنتميتان إلى "الاستماع العميق" إيلانا مان والمؤدية جوليانا سنابر، وتبنتا فنياً هذا الأسلوب الاحتجاجي، ووجدتاها فرصة لتضعا فكرة أستاذتهما أوليفروس محل التجربة والتنفيذ. بدأت سنابر ومان بمجموعة سمياها "إيه آر إل إيه" مع فنانين آخرين قبل بضعة أشهر من احتجاجات "وول ستريت"، مستوحاة من "الاستماع العميق" ورأوا في مخيمات أوكيوباي مكاناً للأشخاص الذين أحبوا أن يُسمعوهم هذا النوع من الموسيقى، ونظموا مناسبات استماع، حيث حاول الجميع أن يركز على كل الأصوات التي يسمعونها. بعد ذلك عقدوا جلسة دائرية وقاموا بتمارين الاستماع، مستلهمين تقنية "مايكروفون الشعب" جمعوا فريقاً من 25 عضواً واستعانوا ب "كتاب صوتي" لترديد بعض المقطوعات أكثر من مرة، وسرعان ما بدأ أفراد المجموعة في الضحك، وسرعان ما بدأ ضحكهم يكون أعمق، حتى تحول صوتهم لنحيب. والصور المنشورة لأناس يستمعون للعزف وكأنهم يضحكون من نفس النكتة، وتمسد إحداها جسد صديقتها، وترى سنابر هذا التجسيد لحلم أوليفروس في أن تساعدنا الموسيقى في "الحرص بعضنا على بعض فردياً وجماعياً"، وتقول بعد الجلسة التي ضحك فيها الجميع، ورعشت أجسادهم: "إننا مهتمون بما يحدث عندما تجتمع الأجساد معا وتصدر أصواتاً". لاحظ كاتب المقال الذي استعرض تجربتهم في صحيفة "بابليك سبيكتاكل" الأمريكية تحولاً في طبيعة الأعضاء الحاضرين، إذ أصبح الجميع مرحين ومنتشين كأنهم شخصيات كرتونية مثل الأقزام السبعة أو جوفي الشخصية الكرتونية الشهيرة. لقد أقاموا مكاناً للتجربة مع الآخرين الذين يرغبون في تبادل جذب الانتباه، ليس ذلك فقط ولكن يرغبون في فهم ما تحمله الأفعال البسيطة من تداعيات سياسية، ويأمل الكاتب أن تتحول تلك الطريقة في "الغناء" إلى مجموعة حيوية ومعدية في العديد من المدن والدوائر الاجتماعية والثقافية وتتكرر كثيراً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...