"حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدأ، فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولاً على كل المسؤولين من دون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة". هكذا تحدث ملك المغرب محمد السادس، في يوليو 2017، في خطاب انتقد فيه المشهد السياسي في البلد، داعياً إلى ضرورة تطبيق مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" على كل الفئات المسؤولة.
هذا المبدأ يرد في الدستور المغربي الذي ينص على ربط عدم إفلات المسؤولين عن تدبير الشأن العام، سواء أكانوا سياسيين أو وزراء أو منتخبين في مختلف المناصب، من المحاسبة عند ثبوت تورطهم في تقصير أو اختلالات مهنية.
والسؤال الآن: إلى أي مدى سيُطبّق هذا المبدأ؟
إعفاءات دون محاسبة
في أكتوبر الماضي، نَفَّذَ الملك محمد السادس وعيده بمحاسبة كبار المسؤولين المتورطين في ملفات الفساد أو المقصرين في مهامهم، إذ قام بإعفاء وزراء ومسؤولين حكوميين وإداريين ساميين (محافظون وولاة ومدراء مؤسسات حكومية)، في ما ما عرف اعلاميا بـ"الزلزال السياسي". وأتى ذلك إثر تقارير صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات الذي سجل اختلالات وتجاوزات هي بالأساس تعثرات تقنية وتأخيرات في إنجاز مشاريع حكومية هادفة إلى تنمية منطقة الحسيمة، وأُقرّت على خلفية احتجاجات شعبية طالبت بتحسين الخدمات والمرافق ورفع التهميش عن المنطقة. ومنذ الإعلان الرسمي عن تنفيذ هذا المبدأ والصحافة المغربية ترصد ما وصفته بـ"تحسس المسؤولين الكبار لرؤوسهم" خوفاً على مناصبهم العليا ونفوذهم السياسي والاقتصادي في البلد. هذه الخطوة الملكية يرى بعض المراقبين أنها جاءت نتيجة تصاعد زخم الحراكات الشعبية الجهوية التي عرفها المغرب، وأنها تطبيق عملي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. ويقول عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة خالد أدنون لرصيف22 إن "تقرير المجلس الأعلى للحسابات، والبلاغ المصاحب للإعفاء كانا واضحين"، ويرى أن الإعفاء هو بمثابة "خطوة جريئة في تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة السياسية". في المقابل، يرى القيادي في جماعة العدل والإحسان المعارضىة حسن بناجح أن الخطوة "مجرد ذر للرماد على العيون". ويضيف لرصيف22: "حتى لو توبع هؤلاء المسؤولون، هل يمكن أن نختزل الفساد بهم؟ طبعاً لا. القضية هنا ليست أشخاصاً بعينهم بل هي منظومة بأكملها". ويوضح المحلل السياسي عبد الرحيم العلام أن هؤلاء المسؤولين "عوقبوا سياسياً، أما محاسبتهم قانونياً فلم تتم، بدليل أنهم غير متابَعين قضائياً". إعفاء مسؤولين من مهامهم هي خطوة لم تتبعها محاسبة قانونية أو متابعة في أروقة المحاكم وهو ما يُعتبر بمثابة إفلات من العقاب، وفق ما أفاد به التقرير السنوي الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية حول حالة حقوق الإنسان في عام 2017، والذي أشار إلى استمرار ما اعتبره "إفلات مسؤولين من العقاب رغم ارتكابهم جرائم تتعلق بالفساد". وجاء في التقرير أن "القانون ينص على عقوبات جنائية ضد مرتكبي الفساد، لكن الحكومة بشكل عام لم تنفّذ القانون بشكل فعال، وغالباً ما يرتكب مسؤولون ممارسات فاسدة دون عقاب يُذكر". وأضاف أن ظاهرة الفساد في المغرب "مشكلة خطيرة، خصوصاً مع عدم وجود ضوابط وإجراءات حكومية كافية للحد من انتشارها، كما أن السلطات تحقق في حالات قليلة رغم وجود مزاعم كثيرة معروضة عليها".هل سيؤتي المبدأ أكله؟
في الوقت الذي رحّب فيه مراقبون بخطوة إعفاء مسؤولين رفيعي المستوى، واعتبروها تعبيداً عملياً لطريق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، يرى البعض أن المبدأ لن يؤتي أكله في محاربة الفساد. ويرى بناجح أن المبدأ "لن يُطبّق بشكل عملي وجوهري ما دامت جميع السلطات بيد الملك بما فيها القضاء" الذي يعتبره "مسيساً ومتحكَّماً فيه، ويمضي وفق تعليمات عليا".كثيراً ما يشتكي المواطن المغربي من المماطلة الإدارية وبطء الأداء في المصالح العمومية. لذلك تصاعدت أصوات منادية بضرورة تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على صغار الموظفين قبل كبار المسؤولين
يرى بعض المغاربة أن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي تحدّث عنه الملك "لا يُنفّذ على كل المسؤولين على حد سواء ويبقى مجرد قرار شكلي، تم اعتماده فقط بغية إخفاء غابة الفساد"ويضيف: "في المغرب، تجري انتخابات تفرز حكومة وبرلمان لكن الحكم هو بيد الملك ومحيطه، وهؤلاء بعيدون كل البعد عن المحاسبة وهم معفيون من المساءلة". من جهته، يرى العلام أن الإشكال الذي حدا بالبعض إلى طرح تحويل النظام المغربي إلى ملكية برلمانية هو "أنه لدينا العديد من المؤسسات الحكومية والدستورية التي لا تُحاسَب بما فيها المؤسسة الملكية". ويقول أدنون إن المبدأ يحتاج إلى سنوات لتنفيذه مؤكداً أنه "يجب العمل وفق استراتيجة متجددة لعدة سنوات، ولا يمكن توقع نتائج خلال أربع أو خمس سنوات فالأمر يحتاج إلى أجيال". ويضيف أن "المواطن يجب أن يُشرَك في عمليات اتخاذ القرار ومراقبة المسؤول ومحاسبته". ويرى أدنون أن "عملية التنزيل ستصطدم بالواقع إذا لم تكن المقاربة واضحة، وإذا لم تُحدَّد منذ البداية معايير المحاسبة"، مشيراً إلى أن عملية تقييم التقدم يجب أن تكون دورية "وبمشاركة المواطن بشكل أو آخر".
الوزير أم الغفير... مَن أولاً؟
"الموظفون العموميون لا تحرّكهم روح المسؤولية، ويفتقدون إلى التكوين، وينتظرون أجر الشهر". بهذه الجملة، عبّر الملك محمد السادس عن انتقاده الشديد لأداء الموظفين الحكوميين. كثيراً ما يشتكي المواطن المغربي من المماطلة الإدارية وبطء الأداء في المصالح العمومية. لذلك تصاعدت أصوات منادية بضرورة تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على صغار الموظفين أولاً. لم تمرّ أسابيع قليلة على الخطاب الملكي حتى أعربت الحكومة عن نيتها تنفيذ مجموعة من الإجراءات لمراقبة الأداء الوظيفي لصغار الموظفين الحكوميين، وضبط الغيابات والتأخر عن العمل، وتطبيق عقوبات تشمل توبيخات وخصومات على كل تجاوز غير قانوني. هذه الخطوة مبدأية، فالمفترض أنها أمر قائم، إذ تنص القوانين الداخلية لكل قطاع حكومي على عقوبات زجرية لكل تجاوُز، لكن عملياً لا يتم تطبيقها بشكل حازم. ورغم ذلك، لم يرُقْ بعض صغار الموظفين من مدرسين وممرضين وإداريين وتقنيين ورجال أمن أن يتم تطبيق هذا المبدأ عليهم، إذ اعتبروا الخطوة انتقائية ولا تمس جوهر المبدأ ولا تشمل كل الفئات، فـ"إما نحن جميعاً بدون استثناء أو لا أحد" على حد تعبيرهم. من ناحيته، أكد الوزير المكلف بالإدارة والوظيفة العمومية محمد بن عبد القادر أن المبدأ يجب أن يبدأ تفعيله على كبار المسؤولين. ويقول العلام: "من المفترض أن تتوفر في الحياة السياسية القدوة أي أن هذا المبدأ لن يؤتي أكله إلا بتطبيقه من الأعلى أولاً ثم على صغار المسؤولين والموظفين ثانياً، ويجب أن يشمل كل الفئات بدون استثناء". ويضيف أن "خطوة منع صغار الموظفين مثلاً من المزاوجة بين نشاطين أو مهنتين كانت إيجابية لكنها لا تُطبَّق إلا على هؤلاء، وإلا ما معنى أن نجد مسؤولين كباراً يجمعون بين مزاولة أنشطة مدرة للدخل ووظيفتهم الحكومية؟". بالنسبة إلى حسن بناجح، فهو يرى أن هذا المبدأ "لا يُنفّذ على المسؤولين على حد سواء فهو يبقى مجرد قرار شكلي، تم اعتماده فقط بغية إخفاء غابة الفساد".ما الحائل دون تطبيق المبدأ؟
يرى العلام أن العوائق أمام تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة تكمن في الجانب الدستوري. ويشرح: "إذا كان الدستور جاء بهذا المبدأ فإن هناك فصولاً فيه تمنع تطبيقه"، مشيراً إلى المواد التي تمنح "صلاحيات واسعة للمؤسسة الملكية". وإنْ كان لا ينفي وجود صلاحيات ممنوحة للمنتخَبين من برلمانيين ليحاسبوا ويسائلوا المسؤولين الكبار على تجاوزاتهم، إلا أن الإشكال، برأيه، يكمن في غياب الجرأة لديهم. وقال العلام: "المفروض من البرلمانيين أن يوظفوا صلاحياتهم في محاسبة كبار المسؤولين، ونفس الشيء بالنسبة إلى رئيس الحكومة". وأضاف: "المشكلة أن هؤلاء المنتخبين لا يسائلون المسؤولين ويتركون الأمر للمؤسسة الملكية". يتفق بناجح مع رأي العلام حول عدم توافر الجرأة الكافية لدى الحكومة والمنتخبين لمحاسبة المتورطين في ملفات الفساد، مؤكداً أن "الحكومة لم تستطع حتى أن تعلن لوائح المتورطين في الفساد فما بالك في أن تطبق هذا المبدأ؟".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...