بعد نحو 30 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لا يزال مصير آلاف المفقودين غامضاً. وبرغم أن حل هذه القضية هو شرط أساسي لبناء سلم أهلي متين في لبنان، فإن الدولة تتعاطى معها بخفّة.
ليست الدولة وحدها مَن يتعاطى بخفة مع هذا الملف. عمل الجمعيات "المختصة" به لا يخلو أيضاً من الخفّة. وليس أدل على ذلك من أن اللبنانيين حتى الآن لا يمتلكون تقديراً معقولاً لعدد المفقودين خلال حربهم الأهلية.
فالرقم المتداول هو 17 ألفاً. ولكن لا يوجد أي معطى جدّي يمكن الانطلاق منه للحديث حتى عن ثلث هذا العدد.
في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أقرّ مجلس النواب اللبناني، بعد سنوات من المطالبات، "قانون المفقودين والمخفيين قسراً" (القانون رقم 105).
يكرّس القانون المذكور "حق المعرفة" لذوي المفقودين والمخفيين قسراً، ما يعني أن كل شخص يمتلك معلومات عليه مسؤولية إخبار "الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً" المستقلة المنشأة بموجب القانون بما يعرفه.
وإذا كان قانون العفو العام الصادر بعد انتهاء الحرب اللبنانية الأهلية (عام 1991) قد عفا عن الجميع وأسقط عنهم تبعات جرائمهم القانونية، فإن القانون الجديد ينبغي أن يساهم في انتهاء إخفاء المعلومات التي تفيد في معرفة مصير المفقودين، وبالتالي في إنهاء هذا الملف العالق والذي يحول دون تجاوز آثار الحرب.
ولكن حتى الآن، لا جديد. ومؤخراً، نقلت منظمة العفو الدولية عن وزير العدل اللبناني ألبرت سرحان تأكيده أن وزارته رفعت إلى رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 9 تموز/ يوليو 2019 مشروع قانون يرمي إلى تعيين عشرة أعضاء لتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً.
وبموجب المادة 10 من القانون رقم 105، تقدّم وزارة العدل لائحة بأسماء أعضاء الهيئة العشرة، استناداً إلى اقتراحات الهيئات القضائية والنقابية والحقوقية والأكاديمية والمطلبية المعنية، إلى رئاسة الحكومة ليتم نقاشها في مجلس الوزراء وإقرارها بأكثرية الثلثين.
أساس القضية قصر النظر
بُعيد انتهاء الحرب الأهلية، كان فهم السلطة اللبنانية لبناء السلم في مرحلة ما بعد الحرب قصير النظر، واقتصر على إعادة الإعمار وإعادة المهجرين إلى قراهم. قضايا كثيرة بقيت عالقة لتمنع اللبنانيين من تجاوز إرث الحرب الثقيل، ومنها قضية مصير آلاف المفقودين.
قبل إقرار القانون 105، وربما بعده أيضاً، كان يمكن تجميع ملامح سياسة رسمية (أو لا سياسة) من خلال تصريحات المسؤولين اللبنانيين، تقوم على ثلاثة مرتكزات:
أولاً، رفض الاعتراف بوجود محتجزين لدى الميليشيات اللبنانية التي تقاتلت خلال الحرب. فبعد إنجاز آخر عملية تبادل مخطوفين في لبنان، في 18 تموز/ يوليو 1991، بين القوات اللبنانية وحزب الله، قال وزير الدفاع ميشال المر إنه "لم يعد هناك أي محتجز لدى أي حزب، والذين سلموا اليوم هم آخر المحتجزين".
ثانياً، رفض الاعتراف بإمكان وجود مفقودين أحياء داخل لبنان. ففي 31 كانون الأول/ ديسمبر 1995 قال رئيس مجلس النواب نبيه بري لأهالي المخطوفين في الداخل: "كل شيء يتعلق بالخطف الداخلي في لبنان، إذا لم يظهر المخطوف، فمعنى ذلك أنه استشهد". وفي العام نفسه أصدر مجلس النواب القانون رقم 434/ 95 تحت عنوان "الأصول الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين" الذي يوفّي المفقودين دون ربط ذلك بوجوب قيام الدولة بالتحقّق من حدوث الوفاة.
ثالثاً، اعتبار الحديث عن مخفيين قسراً في سوريا محاولة لإعادة لبنان إلى الحرب الأهلية. فعلى سبيل المثال، اعتبر رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري، في 11 كانون الثاني/ يناير 2000، "أن الادعاء بوجود عدد كبير من المسجونين في سوريا سيفتح دفاتر الحرب الأهلية كلها".
ويمكن اعتبار أن أول خطوة رسمية شبه جدية للتعاطي مع قضية المفقودين كانت إصدار مجلس الوزراء اللبناني، في 21 كانون الثاني/ يناير 2000، قراراً رقمه 10/2000 تشكلت بموجبه "لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين".
اللجنة جمعت إفادات ذوي مفقودين وأصدرت تقريرها في 25 تموز/ يوليو من العام نفسه، وجاء فيه أن عدد المخطوفين والمفقودين هو 2046 شخصاً. وخلصت إلى "أن جميع المفقودين والمخطوفين الذين مر على ظروف اختفائهم مدة أربع سنوات وما فوق ولم يعثر على جثثهم، هم في حكم المتوفين".
لم تُرضِ خلاصة التقرير المهتمين بالقضية. لذلك، عاد مجلس الوزراء، في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2000، ليشكل هيئة لتلقي مراجعات ذوي المفقودين والمخطوفين. أنهت الهيئة عملها في 7 حزيران/ يونيو 2002، وإلى الآن لم يصدر تقريرها. لكنها تلقت معلومات مكنتها من تسجيل 702 حالة فقدان. وبعد مقارنة الأسماء التي سجلتها اللجنتان الرسميتان، تبيّن أن عدد المفقودين المسجلين في كلتيهما بلغ 2312 موزعين بين سوريا وإسرائيل والداخل اللبناني.
تحرّك الملف بعد الانسحاب السوري
بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، تحرك ملف المفقودين في شقه المرتبط بسوريا، أي المعتقلين داخل السجون السورية. وفي أيار/ مايو، بعد حوالى شهر من الانسحاب، تشكلت لجنة لبنانية سورية مشتركة لم تحقق أي نجاح.
لافتة ضمن حملة تقوم بها لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في الذكرى الـ40 لانطلاقة الحرب
وأفاد الوزير السابق جان أوغاسابيان، أواخر عام 2011، بأن لبنان سلّم إلى السوريين لائحة بأسماء 615 شخصاً يُعتقد أنهم في سوريا، وأن السوريين نفوا احتجاز أي منهم. ولكن النفي السوري تصدّع بعد نجاح يعقوب شمعون، وهو معتقل لبناني منذ 27 عاماً، برشوة بعض المسؤولين عن السجن الموجود فيه والفرار إلى لبنان في منتصف عام 2012.
ثم، في 16 آذار/ مارس 2014، نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" بالتنسيق مع موقع "وثائق دمشق" التابع لمركز مسارات، وثائق قيل إنها مراسلات سرية مسرّبة من دوائر النظام الرسمية.
ليست الدولة وحدها مَن يتعاطى بخفة مع ملف المفقودين والمخفيين قسراً. عمل الجمعيات "المختصة" به لا يخلو أيضاً من الخفّة. وليس أدل على ذلك من أن اللبنانيين حتى الآن لا يمتلكون تقديراً معقولاً لعدد المفقودين خلال حربهم الأهلية
بعد نحو 30 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لا يزال مصير آلاف المفقودين غامضاً. وبرغم أن حل هذه القضية هو شرط أساسي لبناء سلم أهلي متين في لبنان، فإن الدولة تتعاطى معها بخفّة
مدير مركز مسارات، لؤي المقداد، لفت إلى أن هذه الوثائق تؤكد وجود معتقلين في سجون الأسد لم تعترف دمشق باعتقالهم لديها، ولم ترد أسماؤهم على اللوائح اللبنانية-السورية المشتركة.
الصحيفة نشرت أربع وثائق تشير إلى مصير 4 معتقلين لبنانيين في السجون السورية (سليم سلامة، وقزحيا شهوان، وعبد الناصر المصري، ورائف فرج) نفّذت بحق ثلاثة منهم أحكام إعدام فيما قضى الرابع تحت التعذيب.
كذلك، نشرت ملخصاً لمذكرة شاملة حول ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية، أعدها مكتب الأمن القومي السوري، يظهر فيها تعمّد المكتب التهرب من كشف أي حقائق حول مئات المعتقلين اللبنانيين في سجونه. وبرغم ذلك لم يُحرّك الملف بشكل جدي.
محاولات مدنية ورسمية
أمام تهرب السلطة من التصدّي للملف، جرت محاولات عدّة من المجتمع المدني لحث السلطة على تغيير نهجها السلبي. صاغ الناشطون مسودات لقوانين عن الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً، معتبرةً أن حقوق ذوي المفقودين، وعلى رأسها حقهم في المعرفة، "يتم على أساس مبادئ العدالة الترميمية"، ومطالبةً بإنشاء مؤسسة مستقلة تعنى بتحديد مصير المفقودين والمخفيين قسراً، كما قدّم إلى مجلس النواب اقتراحان لإصدار قانون ذي صلة.
وأمام هذا الحراك، تحرك وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، في محاولة اعتبر البعض أن هدفها الالتفاف على تشريع قانون شامل، وأعدّ مشروع مرسوم إنشاء "الهيئة الوطنية المستقلة للمخفيين قسراً". ولكن هذا المرسوم تعاطى مع الملف كملف تقني ولم يعر اهتماماً للمفاهيم الحديثة حول بناء السلم الأهلي بعد الحروب الأهلية. وعندما أحيل إلى مجلس شورى الدولة، كان رأي الأخير أن إنشاء هيئة كتلك المقترحة "يستوجب تدخل السلطة التشريعية" لأنها "تتعلق بموضوع وطني يرتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي من خلال طي صفحة الماضي، وله انعكاسات وتداعيات على الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي".
بعد مطالعة مجلس الشورى، فرّغ وزير العدل المشروع من مضمونه (ألغى منه إنشاء بنك البصمات الجينية لأن تجميع معلومات خاصة عن المواطنين يستوجب قانوناً) واكتفى بالمطالبة بإنشاء هيئة "تخضع لوصاية وزارة العدل"، وهي معايير لا توافق عليها المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ثم في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2012 عرض المرسوم على مجلس الوزراء وأُقرّ مبدأ تشكيل الهيئة مع تكليف لجنة وزارية ببلورة صيغة يمكن الاتفاق عليها، لكن من دون تحديد مهلة إلزامية.
وأخيراً، صدر القانون رقم 105... ولكن توقفت الأمور عند ذلك. وما يُخشى منه هو أن يكون القانون المذكور قد صدر لمجرّد رفع العتب، إذ لا مؤشرات على أن أياً من القوى السياسية اللبنانية الفاعلة يضع ثقله وراء تحقيق الهدف منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون