في زاوية من زوايا الغرفة، تتجمع أربع نساء، يتهامسن متفقدات الوافدين إلى المبنى، ويختبئن من الكاميرات تارةً، ويتفقدن هواتفهن تارةً. إنها السابعة مساءً بتوقيت بيروت وسوريا، وهنا، في بيروت، حضر وافدون كُثر من أجل إحياء يوم المخفيين قسراً، على الرغم من مرور سنوات دون بصيص أمل واحد. في إصدارها المخصص للصحافيين، تقول منظمة العفو الدولية التي نظمت معرض "عشرات الآلاف" في بيروت والذي يستمر حتى 6 سبتمبر 2017: "إن الحكومة السورية والجماعات المسلحة المعارضة المتورطة في النزاع الدائر في البلاد، يجب أن تكشف النقاب عن مصائر وأماكن عشرات الآلاف من الأشخاص الذين اختفوا قسراً ..."
عبدالعزيز... رزان... كفاح... يوسف...
في غرف المعرض الواسعة، تتوزع أسماء بعض المختفين: عبد العزيز الخير، محمد عصام زغلول، عبدالله الخليل، يوسف عيدو، كفاح علي ديب، رزان زيتونة وغيرهم كثر. المعرض الذي ينظمه المكتب الإقليمي لـ"منظمة العفو الدولية" في بيروت لمناسبة اليوم العالمي للأشخاص المختفين في 30 آب يهدف إلى إلقاء الضوء على قضية المختفين والمفقودين داخل سوريا عبر عرض قصصٍ فرديةٍ لأشخاصٍ اعتقلوا تعسفًا أو اختفوا في سوريا، لأسباب تتنوع بين نشاطهم الثوري، وعملهم في المجالين الاغاثي والتوثيقي.
أغراضهم هنا، وهم هناك...
يضمّ المعرض أغراضاً تركها هؤلاء الأفراد وراءهم وعروضاً لمجموعة قصائد كتبها شعراء سوريون كانوا محتجزين سابقاً، منها: "في زنزانتي المنفردة" ، "لو يعطونني شفرة"، "الحلم" و "جولة تعذيب أخيرة". بالإضافة إلى مجموعة رسوم نفذت داخل المعتقل تتضمن بورتريهاتٍ لنساءٍ محتجزاتٍ من عمل الفنانة السورية عزة أبو ربعية. قصائد لشعراء مختفين، قبعة الشهيد باسل خرطبيل، شال يوسف عيدو، وهواتف ناشطي دوما الأربعة، هي أغراض لمفقودين استطاع المعرض أن يجمعها، لتكسر بوجودها حاجز التوقعات. وكأنها تقول: نعم، هذه الاغراض تنتمي لمعتقلين غاب بعضهم عنا، والبعض الآخر قد لا نعرف هل سيعود يوماً ما. حضرت فدوى محمود، الناشطة السياسية الحاضرة في الساحة السورية منذ الثمانينات، زوجها عبد العزيز الخير ونجلها ماهر طحان مغيّبان من أيلول عام 2012. ببشاشة واسعة تقول: "أفضّل التسلح بابتسامة، كي لا تواجهني نظرات ملأى بالشفقة، أنا لست بحاجة لشفقة من أحد، ما أفعله هو واجبي ببساطة، أنا لا أتمسك بهذه القضية من أجل زوجي وابني فقط، بل من أجل كل والدة فقدت غالياً".أفضّل التسلح بابتسامة، كي لا تواجهني نظرات ملأى بالشفقة، أنا لست بحاجة لشفقة من أحد...
نعم، هذه الاغراض تنتمي لمعتقلين غاب بعضهم عنا، والبعض الآخر قد لا نعرف هل سيعود يوماً ما...
كي لا يصبحوا مجرّد أرقام
في بهو المعرض يتنقل الزوار: البعض وصل آملاً بالحصول على بعض الإجابات عن أقرباء له اختفوا منذ سنوات، آخرون انتظروا أولادهم ليعودوا ويجتمعوا على فطور عائلي في المنزل، ولم يحصل ذلك حتى اليوم.الدموع حاضرة خلال استماع الزوار لبعض القصائد المسجلة التي كتبها معتقلون، يلقيها عدد من المتطوعين. يقول عارف حمزة في قصيدة كتبها من داخل زنزانته أنه "يتألم لألم يده ولألم الديدان التي تسقط على الأرض في الغرفة الرطبة". ويناجي نفسه بالتساؤل عن سرعة مرور الايام، لأنه يأمل بالخروج من السجن ممسكاً بيده المصابة، شبه المهترئة، كي لا يترك أي أثرٍ خلفه".
هواتف الأربعة...
يعرض أحد الجدران هواتف 4 من ناشطي دوما المعارضين للنظام، رزان زيتونة ووائل حمادة وسميرة خليل وناظم حمادي، وقد اختطفوا من قبل مجموعة مسلحة. يعرض الجدار حوار مشفّر كان يدور بينهم خلال عملهم في مركز توثيق الانتهاكات في سوريا.يقف الزوار أمام الهواتف محاولين تخيّل اللحظات الأخيرة قبل اختطافهم، والعبارات السرية والمشفرة التي كانوا يستخدمونها للتراسل: "سندويش الشاورما، زحمة سير، تأخر لتوصل ...". كلها كلمات لها دلالات مختلفة فيما بينهم، استخدموها لتوخي الحذر من خطر النظام وخطر الجماعات المسلحة. على الحائط الذي يروي قصتهم استُبدلت عبارة "مجموعات مسلحة" بـ"جيش الإسلام"، وكُتبت الكلمتان حديثاً بخط اليد، حيث أن عدداً كبيراً من المجموعات الحقوقية والمنظمات تؤكد أن الجهة التي غيّبت الناشطين الأربعة هي كتائب لجيش الإسلام الموجود في الغوطة الشرقية بسوريا. تلك الهواتف التي حوت يوميات أولئك الناشطين قريبة من الحاضرين ولكنها تؤكد فقط كم أن الجميع بعيدون عن معرفة الحقيقة التي تحيط بمصائرهم.
لا يوجد ما يكفي من الاوكسيجين...
منذ عام 2011، اختفى عشرات الآلاف من الأشخاص في سوريا من دون أي أثرٍ وباتوا في عداد ضحايا الاختفاء القسري، بحسب منظمة العفو الدولية. من جهتها، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الانسان تقريرها السنوي بمناسبة اليوم الدولي لمساندة ضحايا الاختفاء القسري. تقرير "أين هم؟" يوثق ما لا يقل عن 85000 مختفٍ قسرياً في سوريا ويصف الظاهرة بـ"سلاح من أسلحة الحرب في سوريا". بين دموع العائلات ودموع الزوار، وبين ضيق الغرف الواسعة التي ما عادت تحوي ما يكفي من الاوكسيجين لينعش أنفاس وقلوب الوافدين، يقف المتفرّج صامتاً، شاكراً لنعمة الحرية من جهة، وحزيناً لأن الحرية نفسها لا تزال بعيدة المنال عمّن غيبهم الاعتقال أو الاختطاف.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...