منذ أن بدأت الأخبار تشيع عن تعرّض مدينة دوما المحاصرة في غوطة دمشق الشرقية لـ"هجوم كيميائي"، راحت وسائل التواصل الاجتماعي تعكس ارتفاع منسوب الأمل لدى شرائح من معارضي النظام السوري، على إيقاع ارتفاع أعداد الضحايا الذين وصلوا إلى نحو 60 قتيلاً ومئات المصابين. منشورات عدّة على فيسبوك وتويتر راحت تهاجم كل مَن لا يجزم بأن ضحايا ضربة السابع من أبريل في دوما سقطوا نتيجة قصفهم بغاز سام، وكأن قيمة موتهم صارت ترتبط بنوع السلاح المستخدم ضدهم، وليس بموتهم نفسه، كفعل غير قابل للعودة عنه.
في السنوات الأخيرة، صار شائعاً "الصراع" على تصنيف طبيعة أسلحة الجريمة التي تفتك بالشعب السوري، أو على تحديد هوية الطائرات التي تزهق أرواح العشرات في كل غارة. ولكن أكثر ما يلفت في هذا "الصراع" هو "الصراع على الكيميائي" الذي يندلع مع كل جريمة تظهر على ضحاياها آثار اختناق. يتأسس هذا "الصراع" على ردود الفعل الدولية التي تصاحب هذه الجرائم، والتي تظهر فيها تحذيرات للنظام السوري من "تجاوز الخط الأحمر"، وهو التجاوز الذي ينتظره معارضوه الذين أصابهم اليأس من إحداث تغيير ما في بلادهم بدون تدخّل خارجي حاسم، بعد مرور سبع سنوات على المقتلة المستمرة. وآخر فصوله بدأت منذ شيوع خبر استهداف مطار التيفور العسكري بصواريخ، إذ رأى فيها كثيرون قدوم "عقاب الغرب" للنظام السوري، قبل أن يتضح أنها غارة إسرائيلية مثل غارات كثيرة سبقتها وأباحتها "خطوط حمراء" مُتفاهَم عليها بين موسكو وتل أبيب.
وبعد أن خبا قليلاً، مع نفي كل من واشنطن وباريس ولندن مسؤوليتها عن استهداف مطار التيفور، أعادت الزخم إليه تغريدات دونالد ترامب التي تتحدث عن "الرد بقوة" على المجزرة خلال 48 ساعة، خاصةً مع تقاطع التصريحات والتقارير والتسريبات في قولها إن الأمر لن يمرّ بلا ردّ أمريكي، بدون تحديد طبيعة هذا الردّ، وفي حديثها عن "سلة" خيارات سيضعها القادة العسكرون أمام الرئيس الأمريكي. مرّة جديدة، يعود معارضو الأنظمة المستبدة إلى الرقص على معزوفة انتظار الخارج، ولكن بعد طمس انتظارهم لمجموعة إشكاليات أخلاقية وسياسية كانت من ضمن أسباب إنتاج عجز المواطنين العرب عن تغيير أنظمتهم. خط استخدام الكيميائي "الأحمر" رسمته أساساً سياسات إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما حين قرنت بين تنفيذ النظام السوري هجوماً كيميائياً في الغوطة عام 2013 وبين ردّ عسكري، في أزمة أسفرت عن تسوية تخلّص سوريا المزعوم من الأسلحة الكيميائية مقابل تجنّبها ضربة عسكرية. وكل الخطابات الدولية الحالية عن "الخط الأحمر" لا تتجاوز كثيراً منطق إدارة أوباما، وهو منطق معاقبة النظام السوري دون رفع "الكارت الأحمر" في وجه رموزه، وترجمته العملية الوحيدة كانت الضربة العسكرية الأمريكية لمطار الشعيرات العسكري بـ59 صاروخ توماهوك، رداً على هجوم خان شيخون الكيميائي في الرابع من أبريل 2017. استثمر "المجتمع الدولي" في دعاية "الخط الأحمر" المذكور بقوة لكي يخفي عجزه عن وقف المجزرة السورية التي أزهقت أرواح نصف مليون شخص حتى الآن، جلّهم قضوا بأسلحة "تقليدية". وتلقّف معارضو النظام هذه الدعاية بدون تفكيكها.
استثمر "المجتمع الدولي" في دعاية أن استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية "خط أحمر"... وتلقّف معارضو هذا النظام تلك الدعاية بدون تفكيكها وعلّقوا عليها آمالهم
كيميائي أو غير كيميائي؟... لا تزال السياسة الأمريكية رافضة لتغيير النظام السوري ولا يختلف ترامب عن أوباما في شيء سوى في أنه يُكثر من التغريدغريبة فكرة الامتعاض الشديد من الكيميائي في ظل غض الطرف عن البراميل والصواريخ التي كثيراً ما أسفرت عن مجازر جماعية يفوق عدد ضحايا كل منها مئة شخص، وغريب أكثر تعلّق معارضي النظام بهذا المنطق الذي لا يكشف سوى عن مأزق انتظار المخلّص الخارجي. أساساً، لم يحرّم المجتمع الدولي استخدام الأسلحة الكيميائية إلا لأن قادة الدول الكبرى العسكريين رأوا فيه سلاحاً غير ناجع ويمكن أن يرتد عليهم في ميادين القتال بحال تغيّر مجرى الهواء، بينما رفضوا تحريم أسلحة كثيرة أكثر فتكاً ولا تقل عنها في عدم التمييز بين ضحاياها المدنيين وغير المدنيين. لا تزال السياسة الأمريكية رافضة لتغيير النظام السوري لنفس السبب الذي حدا بها إلى تبني هكذا سياسة منذ عام 2011: لا تجد بديلاً مقنعاً للنظام. ولا يختلف ترامب عن أوباما في شيء سوى في أنه يُكثر من التغريد. فالرئيس الأمريكي الحالي الذي تحدث أكثر من مرة في الأيام القليلة الماضية عن انسحاب قواته من سوريا لن يحمل مفاتيح الحل الذي سيُسقط النظام السوري، وجلّ ما سيقوم به هو تنفيذ بعض الضربات الموضعية التي تساعده على كتابة المزيد من التغريدات عن قوة بلاده وعن أنه الرئيس الحازم، كاستهداف قاعدة الضمير العسكرية. يعرف النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيين هذه المعادلات. يقول كثيرون: ما مصلحة النظام من استخدام السلاح الكيميائي؟ مصلحته تنطلق من نفس المعطيات ولكن من الموقع المضاد: رسالة إلى كل معارضيه مفادها أن المجتمع الدولي لن يغيّر الوضع السوري حتى لو جرى تجاوز خطوطه الحمراء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...