لم يبقَ للطفل مكان على خريطة السينما المصرية والعربية. لم يعد هناك من يتحدث عنه. فلا أفلام توجّه وتربّي ولا برامج تثقف وتقف في مواجهة أفكار التطرف والظلام التي تضرب مجتمعاتنا طولاً وعرضاً.
قيل في السابق إن "مهرجانات سينما الأطفال مسألة في منتهى الأهمية كونها من أهم العناصر المؤثرة في حياة الأطفال، إذ تسهم بدرجة كبيرة في تشكيل الوعي لتقديم طفل قادر على خدمة المجتمع الذي يعيش فيه". لكن بمرور السنوات تبدلت الأحوال ولم نعد نسمع عن مهرجانات لسينما الطفل، أو حتى سينما للطفل. وقد فتح تطور خطير كهذا الباب أمام سؤالين مهمين هما لماذا اختفت سينما الطفل؟ وهل نحتاجها الآن فعلاً؟
الزمن الجميل
خلال العقود الماضية، شاهدنا أفلاماً قليلة جداً صُنّفت بأنها تخص الطفل، أبرزها فيلم العفاريت الذي لعب بطولته عمرو دياب. وبرغم قلة الإنتاج، توقفت تلك النوعية في نهاية الثمانينيات، إذ أدار الكتاب والمخرجون والمنتجون ظهورهم لها وقرروا التركيز على الأفلام التي تحصد رواجاً وإن كانت بلا قيمة أو هدف. وبرغم أن مصر سبق أن نظمت 22 دورة للمهرجان الدولي لسينما الطفل، فإن المهرجان واجه عقبات مع اندلاع أحداث يناير 2011، قبل أن يقرر المسؤولون عودته للحياة في وقت لاحق، غير أنه اصطدم بحائط التمويل والروتين، فأوقف ذلك كل شيء حتى أن الرئيسة السابقة للمهرجان سهير عبد القادر قالت عن تعثر تنظيم الدورة 23 منه: "أنا حزينة على تدمير 22 عاماً من العلاقات الدولية في منتهى السهولة، فالمهرجان هو الفعالية الدولية الوحيدة للطفل في مصر. وغيابه يشكّل اغتيالاً للأطفال المتعلقين به، ولطلاب المدارس والأطفال المشاركين في لجان التحكيم، والذين وصل عددهم في العام الماضي إلى 150 من مختلف أنحاء العالم". في المقابل، انتشرت برامج الأطفال بشكل ملحوظ، أشهرها على الإطلاق "سينما الأطفال"، وكانت تقدمه عفاف الهلاوي، التي سلمت الراية من بعدها لعزة مصطفى، وكان البرنامج يذاع في العاشرة من صباح يوم الجمعة، واعتمد على الحضور المباشر للأطفال مع عرض أفلام الكرتون والرسوم المتحركة التي كانت بالنسبة لكل صغيرٍ العالمَ الذي ينهل منه ليتعلم كل شيء. بمرور الوقت، وفي ظل المتغيرات التي سيطرت على سوق الإعلام والسينما، خرج هذا البرنامج من خريطة العرض لمصلحة برامج أخرى، غالبيتها يتصل بالمرأة والموضة والطبخ على اعتبار أنها، مع بعض البرامج التي تعتمد على الكوميديا والتوك شوك، هي التي تجذب المعلنين. أما برامج الطفل فلا تجذب أي معلن. لذا كان من الطبيعي أن تتراجع. وللإنصاف، نجح التلفزيون المصري على مدار سنوات في أن يكون صاحب الريادة في النهوض بفنون الطفل، إذ قدم في مطلع الثمانينيات مجموعة من التجارب التي التف حولها الأطفال والكبار أيضاً. وأكثرها نجاحاً، مسلسلات بكار، وبوجي وطمطم، وعالم سمسم. هذه التجارب التي قدمت المتعة البصرية أسهمت في تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة لدى الصغار، ومارست دور الأب والمدرسة والنادي ودور العبادة في التنشئة. وبعد دخول الإنترنت، تبدلت الحال، وظهرت مجموعة من التجارب الفنية السطحية مثل مسلسلات "ظاظا وجرجير"، و"القبطان عزوز"، و"بسنت ودياسطي" و"المغامرون الخمسة"، لتؤكد أن الطفل لم يعد له مكان على خريطة أي منتج.ماذا تغير؟
الفنانة الشابة شيماء غريب التي سبق أن شاركت في "دبلجة" أكثر من عمل للأطفال قالت: "الواضح أن إلغاء مهرجان سينما الطفل كان لأسباب روتينية بحتة، ولا ننسى طبعاً أزمة الميزانية التي يتعلل بها كل مسؤول لدى إلغاء أي فاعلية فنية مهمة. وفي ظل التراجع الملحوظ لسينما وبرامج الأطفال، وجد تلفزيون الدولة نفسه ملزماً بسد هذا الفراغ، فراح يقدم أفلام كارتون بتقنيات ضعيفة وأفكار لا تواكب العصر. وتناسى أن التطور التكنولوجي وارتباط الأطفال بأجهزة الاتصال الحديثة وانفتاحهم على العوالم الأخرى بسبب الإنترنت، يتطلب نوعية مختلفة من الأعمال التي تخاطب الأطفال بلغتهم الحديثة، ولم تنجُ من هذه الورطة سوى أعمال تعدّ على أصابع اليد، أبرزها "بكار". أما باقي التجارب، التي يمكن تصنيفها ضمن أفلام السينما المقدمة بواسطة الأطفال والموجهة لهم، فلن يعلق أي منها بالذاكرة، لأن بعضها قُدم بشكل سيئ ثم مُنع بمرور الوقت من العرض. وتحايل صناع البعض الآخر بإقحام نجم أو اثنين في بعض الأعمال، وأدرجت تحت بند أفلام الكبار. هذا الواقع يدعونا إلى المطالبة بضرورة طرح مزيد من أفلام الأطفال، حتى تكون الساحة جاهزة لاكتشاف النوابغ منهم وتجهيزهم فنياً بعناصر وأدوات صحيحة ليصبح الطفل (أو الطفلة) المكتشَف نجماً يُضاف إلى الفن المصري. أما الناقد مجدى الحمزاوي فقال لرصيف22: "السعي وراء الربح تسبب بخروج سينما الطفل من حسابات المنتجين برغم أن الغرب، وهوليوود تحديداً، يجني من وراء أفلام الأطفال أرباحاً طائلة، فيما يتفوق بعض هذه الأفلام على تجارب أخرى تحمل توقيع كبار النجوم، آخرها COCO الذي حصد جائزة الأوسكار. من هنا، ينبغي لنا زيادة المهرجانات المتخصصة في سينما الطفل، والتي سبق أن لعب فيها الأطفال أدواراً حية في المهرجان من خلال لجان التحكيم والتنظيم أو بالاحتكاك بثقافات أخرى تثري عقل الطفل وتسهم في تربيته على المستويين العلمي والاجتماعي. وأكمل: "المتابع لما يجرى حالياً على الساحة، يمكنه أن يكتشف أن التلفزيون المصري ـ برغم تراجع نسب مشاهدته ـ هو المنبر الوحيد الذي يحتضن الأطفال، في وقت الذي أبعدتهم الفضائيات عن شاشتها تدريجياً. علماً أن سينما الطفل تراجعت لأسباب عدة، أهمها اهتمام المنتجين بالأعمال التي تعود عليهم بالأرباح. كما لا يمكن إغفال أننا ـ بعكس المسرح ـ لا نمتلك دور عرض خاصة بالأطفال، وأن النجوم لا يفضلون المشاركة في أفلام الأطفال لأنها مرهقة وبلا مردود مادي، وأن المؤلفين أنفسهم تراجعوا عن الكتابة للأطفال لأن معظمهم مقتنعون بأن أعمالهم ستبقى حبيسة الأدراج، لأن أحداً لن ينتجها. كذلك لا يمكن تجاهل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به مصر، وأدى إلى تراجع الكثيرين عن الذهاب إلى دور العرض والاكتفاء بالأعمال المسروقة من الإنترنت، مما يعني ضمور إنتاج أفلام للأطفال يعرف أصحابها من البداية أنها ستكون عرضة للقرصنة، وفي حالة نجاتها من هذا الفخ لن يشاهدها أحد، وتالياً لن ترد التكاليف. وقال الكاتب محود الكيلاني الذي أصدر مجموعات قصصية للأطفال وينوي تقديمها في عمل فني قريباً: "أحد مؤرخي السينما لفت ذات مرة إلى تجربة هي من أهم التجارب الفنية في كيفية التعاطي مع الأطفال الموهوبين، وروى كيف نجح أنور وجدي في صناعة أسطورة الطفلة فيروز وجعلها تنافس طفلة هوليوود الأسطورة شيرلي تمبل، بعدما جهزها فنياً على يد خبراء في التمثيل والاستعراض والغناء. حتى أنه كان حريصاً على اختيار الملابس التي ستظهر بها على الشاشة. ونحن نؤكد دوماً أن أطفال اليوم هم الذين سيحملون في الغد رايات النهضة التي ستعود بها مصر إلى سابق عهدها، وهذا يعني أن سينما الأطفال طوق نجاة يجب أن نحصن به أبناءنا من الأفكار الظلامية المنتشرة، كون السينما واحدة من الأدوات المهمة لبناء ثقافة الطفل، خصوصاً أن مناخها مثالي لتنمية الخيال والأفكار. كما أن هذا الطوق قد يسهم على الطريقة الهوليودية في إعادة أمجاد السينما المصرية التي تراجعت إلى الوراء، إذا تحققت المعادلة الصعبة من خلال تقديم عمل متميز ذي خصائص تضمن له النجاح، وأبرزها أن يحمل رسالة تربوية، وأن يكون مناسباً لعمر الطفل، ويبتعد عن التلقين والوعظ، مع إعلاء قيمة الرسالة المقدمة في الفيلم، والتي يُنصح دائماً أن تكون بعيدة عن العنف والقتامة والسذاجة في الطرح". وأضاف: "أطالب كل مسؤول عن صناعة السينما في مصر بضرورة التكاتف لإعادة المهرجان الدولي لسينما الطفل إلى النور، خصوصاً أن هذه النوعية من الفعاليات تعود علينا بمنافع كثيرة، منها وضع مصر على خارطة المهرجانات الدولية، والترويج للسياحة، شريطة ألا تكون إقامة المهرجان لأجل التباهي على السجاجيد الحمراء والتقاط الصور التذكارية، كأغلب المهرجانات الماضية التي كانت المشاركة المصرية فيها ضعيفة. وربما من هذا المنطلق كانت الأفلام المعروضة في حفل الافتتاح من دول أخرى، في إشارة واضحة إلى إفلاس سينما الطفل المصرية".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.