"لا تكن دمية بيد الآخرين"، من العبارات 'التوبيخية' الشائعة، والقصد منها أن يكون الشخص مستقلاً وليس كـ"الدمى" التي تعتبر نموذجاً لـ"التسيير" و"التبعية".
ولكن هذه النظرة لا تعطي تاريخنا حقّه، فقد كانت الدمى على مرّ القرون فنّاً شعبياً، أدائياً قادراً على خلق مساحة إبداعية وجرئية للتعبير.
نتجه عادة إلى الغرب في استكشاف فكرة التفاعل والتأثير والتأثر، وقلّما نلتفت إلى الشرق وبلدان القارة الأسيوية التي أثرت فينا بأشكال شتى.
فمن كليلة ودمنة، وألف ليلة اللذين اشتهر بهما الأدب العربي حول العالم، مروراً بوصفات الطعام والبهارات التي نستخدمها في مطبخنا العربي، وصولاً إلى فلسفتنا في الحياة: ملامح كثيرة في ثقافتنا العربية تدين للشرق بأنماط جمالية وفنية ومعرفية، قمنا بتطويرها وتأصيلها و"تعريبها".
من أشكال هذا التأثر في الفنون "مسرح الدمى"! الذي تبرز أهميته كشكل فنّي تبنته الثقافة العربية في توليد أنماط ترتبط بثقافاتنا المحلية، وتواريخنا الثقافية، بشكل عضوي.
تتبع المقالة مسرح الدمى بعيون شابة في قصة مشروعٍ تناول فكرة التواصل والتأثر والإبداع، لفنانة وفنان يستهويهما البحث في ثنايا التاريخ العربي الحافل بالفنون التي تجهل أصولها، هما فريق "هكو" للعرائس نيني عياش وهاني حمص.
[caption id="attachment_157031" align="alignleft" width="825"] من موقع نيني عياش، Photo by Vinciane Jacquet[/caption]
من الشرق إلى البلاد العربية إلى بقية العالم
تتجه أنظارنا عادة إلى الغرب في استكشاف فكرة تفاعل العرب وتأثرهم، وقلّما نلتفت شرقاً إلى الهند والصين وغيرها من حضارات القارة الأسيوية التي أثرت فينا عبر القرون
نتجه عادة إلى الغرب في استكشاف فكرة التفاعل والتأثير والتأثر، وقلّما نلتفت إلى الشرق وبلدان القارة الأسيوية التي أثرت فينا بأشكال شتى.
فمن كليلة ودمنة، وألف ليلة اللذين اشتهر بهما الأدب العربي حول العالم، مروراً بوصفات الطعام والبهارات التي نستخدمها في مطبخنا العربي، وصولاً إلى فلسفتنا في الحياة: ملامح كثيرة في ثقافتنا العربية تدين للشرق بأنماط جمالية وفنية ومعرفية، قمنا بتطويرها وتأصيلها و"تعريبها".
من أشكال هذا التأثر في الفنون "مسرح الدمى"! الذي تبرز أهميته كشكل فنّي تبنته الثقافة العربية في توليد أنماط ترتبط بثقافاتنا المحلية، وتواريخنا الثقافية، بشكل عضوي.
تتبع المقالة مسرح الدمى بعيون شابة في قصة مشروعٍ تناول فكرة التواصل والتأثر والإبداع، لفنانة وفنان يستهويهما البحث في ثنايا التاريخ العربي الحافل بالفنون التي تجهل أصولها، هما فريق "هكو" للعرائس نيني عياش وهاني حمص.
[caption id="attachment_157031" align="alignleft" width="825"] من موقع نيني عياش، Photo by Vinciane Jacquet[/caption]
في حبّ العرائس
بدأ الثنائي هكو في القاهرة حيث التقت "نيني"، التي كانت وقتها فنانة تشكيلية شابّة، بـ"هاني"، الذي كان عضو فرقة "كوشة"، لتبدأ علاقة انسجام فنية مميزة تطورت لاحقاً لأكثر من ذلك، وبلقائهما تطورت رحلة فنية استمرت حتى اليوم. جمع الثنائي منذ بدايتهما تعلقّهما بعرائس الظلّ، وشغف للبحث في تاريخها وأصولها العربية. ومع كل مشروع، يبحث الفريق عن مغامرة جديدة في أرجاء هذا الفن، ويجدان قوته وامتيازه في كونه إنتاجاً فنياً قريباً قدر الإمكان من الناس، بمختلف طبقاتهم الاجتماعية. فالعرائس، على حد تعبير نيني، تخاطب الإنسان دون تعالٍ، وتوحي بأنها قريبة لا يفصلها عن جمهورها حواجز من أي نوع، ولا تُشْعرُ المشاهدين بالغربة كبعض أشكال الفن. درست نيني الفرنسية، من أصول جزائرية، الفنون الجميلة في نيويورك، حيث اطلعت على العديد من أنماط الفن ومن أبرزها الرسم والمسرح، وهكذا وجدت طريقة مميزة لجمع شغفها للاثنين في فنّ العرائس.كانت العرائس على مر الزمن أداةً للإدلاء بأراء سياسية قد تعرّض صاحبها للمخاطر
من كليلة ودمنة إلى مسرح الدمى: ملامحٌ كثيرة لثقافتنا العربية تدين للشرق وأنماطه الجمالية والفنية والمعرفية[caption id="attachment_157045" align="alignnone" width="700"] "بكابوزا رئيساً" من صفحة نيني عيّاش (الرابط)[/caption] انتقلت نيني لاحقاً إلى القاهرة عام 2012 تزامناً مع الانتخابات الرئاسية، فقدمت عرض "بكابوزا" المرشح المثالي، وخلال تحضيره، التقت هاني الذي كان يعمل مع فرقة كوشة بإدارة الفنان المصري الفرنسي ناصف عزمي على مدى ما يقارب العشرة أعوام.
فنّ العرائس اليوم: تمسّك بخيوط وأنساق إبداعية عربية
يفرق هاني بين العرائس في البرامج التلفزيونية وبين ما يقوم به مع نيني، حيث يرى أن الصبغة الغربية تغلب عليها وتفقدها الروح الإبداعية، فهي عبارة عن سرد لسيناريو معدّ مسبقاً، يخلو من الحركة والعفوية التي هي برأيه أساس العرائس وما يعطيها روحها الفنيّة الخاصة، لكنه في نفس الوقت يشدد على ضرورة دعم كلّ أشكال الفن، ومن ضمنها فن العرائس، لأنّ الفنون تحتاج إلى حرية ودعم. أما نيني فترى أنه أمر مفيد وجود مثل هذه البرامج وإنْ اختلفت معها في أسلوب العرض، فالعرائس على مر الزمن كانت أداةً للإدلاء بأراء سياسية قد تعرّض صاحبها للمخاطر، فهي بمثابة "وسيط"، لأنها تحمي الفنانين والرواة، فمن سيتهجم على العرائس أو من سيحاول مواجهتها؟ يُحزن الثنائي قلّة فرق العرائس في العالم العربي، ومحدودية تقنياتها، فمثلاً لا يتقن الكثيرون فنّ عرائس الظل، الذي يقومون به، مع أنه ولد كفنّ في الشرق، فكأنما اخترعناه ثمّ نسينا أمره. كما أنّ إحياء فنّ العراس ليس هدفه نسخ الماضي، بل هو فرصة للتمسّك بخيوط وأنساق إبداعية تطورت في عالمنا العربي، تمتاز بأنها طيّعة كأنواع فنية، لذا يمكن أن نخلق لها اليوم أرضاً صلبة للاستمرار. يضرب هاني هنا مثلاً عن المواد المستخدمة في صناعة العرائس، فتاريخياً كانت تصنع عرائس الظل من جلود الحيوانات كالجمل والحمار لما فيها من شفافية ومتانة، أما اليوم فيتم استخدام مواد بلاستكية كالـPVC وغيرها. تضيف نيني هنا أن عمل الفرقة "بصري" أي أنه ذو قيمة فنية من حيث طريقة إخراجه ونوع اللوحات الفنية التي ينتجها، ويعتبر الفنانان أنهما أولاً صنّاع عرائس ثمّ مؤدين. بالحديث عن الجمالية البصرية والإبهار، يشرح الفريق أنّ اسم الفرقة "هكو" Hekau، مستوحى من كلمة فرعونية تعني السحر وأعمال الخفة، حيث اختارا هذا الاسم لإيمانهما بأنّ فنّ العرائس نفسه هو نوع من السحر بحد ذاته. اليوم تعيش الفرقة مغامرة جديدة في باريس، حيث يزاوج فريق نيني وهاني الثقافة العربية والأوروبية، ويقدمان الفنّ كفرصة لا تفوّت للتأثير الثقافي، خاصةً في ظل التوتر الحاصل في أوروبا تجاه الأزمات التي يمر بها العالم العربي وتداعياته.العرائس والبيئة والنيل والأمن القومي لمصر
https://vimeo.com/163163228 من أبرز أعمال نيني وهاني عرض "رباعيات النيل"، الذي يتناول موضوع البيئة، ولكن من منظور ذي حساسية سياسية عالية، فالنيل بالنسبة لمصر موضوع متعلق بالأمن الوطني. تألف العرض من أربعة مشاهد" كما في الرباعيات الشعرية، وكل منها يحكي قصة فلاحة وصياد سمك يعانيان نتيجة تلوث المياه والاحتباس الحراري. تحمست الفرقة للفكرة كون المحتوى السياسي كان نوعاً ما مقيد في عام 2016، كما أنها بدت كفرصة لخوض تجربة مختلفة. الجدير بالذكر هنا تفاعل الجمهور مع الموضوع، لاسيما في الإسكندرية التي تعاني من مسألة ارتفاع منسوب الماء، وفي الفيوم التي يعاني أهلها من تلوث المياه وتأثيره على الثروة السمكية ما فتح مجالاً لنقاش الموضوع.الفنّ التجريبي والعرائس التي يمكنها أن تكون أيّ شيء
قدمت نيني بدورها أيضاً عرض "العروسة" الذي يندرج في إطار الفنّ التجريبي حيث نعتقد أنّ العرائس ليست بالضرورة ذات مظهر تجسيدي، بل يمكنها، بين يدي الفنانين، أن تكون أي شيء. وهذا ما يقدمه العمل، حيث يعرض تحولات تبدأ عند نقطة معينة وتتحول تدريجياً إلى شيء آخر تماماً، وتزامن هذا العمل مع تحضيرات نيني ليوم زفافها، فبرزت ازدواجية معنى "عروسة" هنا. كما أن فريق هكو زاوج مسرح الدمى مع التراث الشعبي، وقدم عرضاً في أرمينيا تحت عنوان "بقايا تبقى" كان مستوحى من الفلكلور والتاريخ الأرمني. أخيراً، يشدد الثنائي على أهمية عروض الشارع والذهاب للجمهور، وهو برأيهما أساس نجاح مسرح العرائس. ويختتمان حديثهما مع رصيف22، بإيمانهما بمستقبل هذا الفن الذي عاش لمئات السنين، ويستحق أن يستمر أكثر وأن يُعطى اهتماماً أكبر من ناحية العرض والتمويل. الصور من موقع نيني عياش، وهاني حمص، من الانستغرام وفيسبوك.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...