يتصور البعض أن المسافة بين عيادات الأطباء وستوديوهات الصوت طويلة جداً، ولكن الأمر بالنسبة لفيروز كراوية لم يكن كذلك، فالرحلة التي قطعتها من داخل قاعات الدروس بكلية الطب إلى مسارح المراكز الثقافية لم تتطلب أكثر من رغبة حقيقية في البحث عن الذات وإصرار على الغناء.
عن ذلك تقول: "عندما انطلقنا نغني في المسارح عام 2006، ورغم أن هذه المرحلة كانت في عهد مبارك إلا ان إحساسنا بالتفاؤل كان في قمّته، ببساطة اكتشفنا أن هناك أجيالاَ جديدة تريد سماعنا، شباب يعتبروننا صوتهم، الأن مساحات الإحباط أوسع مما يتخيل البعض، الطلب على حفلاتنا أصبح أقل، شخصياً لا أواجه تضييقات أمنية، ولكن الوسط أصبح محكوماً بتكتلات تبنى على مصالح مشتركة هدفها الحفاظ على "أكل العيش".
لم تكن كراوية قد انتهت من دراستها للطب حين قدمت أغنية "قبل الأوان" في الفيلم الشهير "أسرار البنات"، للمخرج مجدي أحمد علي والذي أثار ضجة كبيرة مطلع الألفينات، كانت الأغنية بمثابة إعلان "خجول" عن صوت نسائي جديد.
صحيح أن صاحبة الأغنية لم تلفت انتباه أحد، وسط نجاح الفيلم، إلا أنها كانت محاولة جادة لكسر القيود المفروضة على ظهور الأصوات النسائية الجديدة في ظل تصاعد حاد لموجة غنائية تجارية بحتة تصدرتها نانسي عجرم وهيفاء وهبي.
عام 2006 أسست فيروز فرقتها الموسيقية الخاصة وطافت مختلف مسارح ومراكز مصر الثقافية مثل ساقية الصاوي وقاعة روابط ومسارح دار الأوبرا.
المفاجأة أنها لم تقدم نفسها للجمهور عبر أغنيات "الرواد" بل تعمدت الوقوف على المسرح بأغنيات خاصة بها في مغامرة لم يقدم عليها كثيرون قبلها، إلا أنها كانت شرارة ضمن شرارات أشعلت حركة التغيير الموسيقي التي أطلقتها الفرق المستقلة وما سُمي إعلامياً بموسيقى البديلة (الـ"أندرغراوند").
مطلع عام 2012 أطلقت فيروز ألبومها الأول "برة مني" وتوالت أعمالها لتقدم بعده ألبومين هما " كحل" و "قلبك زحام"، بالإضافة إلى عدد كبير من الأغاني المنفردة ، وألبوم قصير بعنوان "حاجة غريبة" وكذا ألبوم غناء صوفي بعنوان "جنينة الإنسان".
هذا الإنتاج الغزير بالنسبة لمطربة مستقلة لم يمنعها أيضاً من إطلاق مشروع موسيقي لإعادة تقديم أغنياتها بالتعاون مع مطربين وموسيقيين آخرين ولكن في قالب الموسيقى الإليكترونية.
الغريب أن فيروز لم تجد إسماً تطلقه على المشروع أفضل من "مزاجنج" تلك العبارة المستوحاة من مصطلح المزاج والمرتبط طبعاً بمسألة التطريب والسلطنة.
الربط جديد إلى حد بعيد إذا ما اعتبرنا الموسيقى الإليكترونية فناً لا يهدف للتطريب بالأساس، بل هو شريك رئيسي في أشكال موسيقية خارجة عن هذا الإطار في مقدمتها بالطبع موسيقى "المهرجانات الشعبية".
هنا تشرح فيروز فكرة المشروع من زاوية مختلفة تماماً حين تقول لرصيف22، أن مشروع "مزاجنج"، هو طريقة للظهور على المسرح قبل أن يكون شكلاً موسيقياً أو غنائياً.
لدينا دائماً إشكالية كموسيقيين في فروق الجودة الواضحة بين الأغنية المسجلة في الأستوديو وبين تلك التي نقدمها على خشبة المسرح خلال حفلاتنا، وجدت الهاجس مشتركاً بيني وبين فنانين آخرين بينما كنا نتطلع للحفلات التي تقام في أوروبا وأمريكا فلا نجد هذه الفروق التقنية، كما تضيف.
و"عرفت بالوقت والتجربة أنّ السر في الموسيقى الإليكترونية التي تمنحنا تأثيرات موسيقية مختلفة إلى جانب أصوات الألات الحية، وبالفعل بدأت التجربة في ديسمبر 2016، قمت بإعادة توزيع أغنيات لي لتتداخل فيها المؤثرات الإليكترونية مع الآلات الحيّة.
كان ألبوم "كحل" التجربة الأبرز في هذا المشروع حيث ضمّ ثماني أغنيات قديمة موزعة إليكترونياً بالكامل".
مشروع فيروز وجد أصداء لدى منظمي الحفلات المشابهة في أوروبا، وقدمت عدة حفلات مع مطربين ومسيقيين ألمان في مدينة برلين وهناك التقت بفريق out of nations، المعني بهذا اللون الموسيقي وقدمت حفلات مشتركة.
Out of nations فريق موسيقي تشكل في برلين من موسيقيين متعددي الجنسيات والأساليب الموسيقية.
يسعى الفريق لتقديم رؤية عالمية تتجاوز الأنماط المحددة للموسيقى من خلال تبادل صيغ فنية تكسر التمييز والقوالب الجامدة.
سبق أن قدمت الفرقة مشاريع مشتركة مع فنانين مصريين مثل دينا الوديدي، لهذا كان من الجيد أن تقدم فيروز معهم أغنية "سلم عليّ" أحد أشهر أغنيات الفولكلور المصري ولكن بتوزيع موسيقي جديد يهدف للمزج بين الأصالة والحداثة المتمثلة في الموسيقى الإليكترونية.
https://youtu.be/XMVnQxDlABA
مشروع ثقافي جديد
تعتبر فيروز كراوية نفسها مشروعاً فنياً يطمح لإلقاء الضوء على جيل جديد من كتّاب الكلمة الغنائية في مصر، تحمل كلمات أغنياتها روح حديثة بسيطة الألفاظ ولكنها تتناول موضوعات تمسّ المشاعر والعلاقات الإنسانية، بشكل حميم. إلا أنها تستلهم روحاً جريئة في استخدام المفردات اليومية وملامسة مناطق شعورية عامة وخاصة لا تتطرق إليها الأغنية بشكلها التقليدي كما هو الحال في اختيار أسماء اغنياتها مثل "بطلي المثالي"، و"استعمال طبيب"، و"قلبك زحام"، و"قلة المزاج". وهي عناوين تعبّر في الأساس عن محاولة لكسر ثنائية تحكم الغناء في مصر فصنفته بين غناء "تجاري" وغناء "راقي" موجه لنخب بعينها."إحساسنا بالتفاؤل" وصل قمّته، ببساطة عندما "اكتشفنا أن هناك أجيالاَ جديدة تريد سماعنا، شباب يعتبروننا صوتهم"، حوار مع فيروز كراوية
فيروز كراوية، الفنانة غزيرة الإنتاج التي تحاول "ملامسة مناطق مختلفة وجديدة"إلا أن هذا لم يخف ملامح أخرى لمشروعها الفني ككاتبة سيناريو قدمت فيلماً قصيراً واحداً بعنوان "صباح الفل" من إنتاج المركز القومي للسينما المصرية ولعبت بطولته الممثلة التونسية هند صبري. ورغم حصول الفيلم على جائزة الصقر الذهبي بمهرجان روتردام للفيلم العربي بهولندا عام 2006 إلا أن الموسيقى خطفت فيروز من الكتابة حتى بعد صدور كتابها الأول "مباني الفوضى: سينما العشوائيات" عام 2010 . هذا التنوع النابع من شخصية متمردة على النمطية انعكس أيضاً على تجربتها الموسيقية. بدأت بألبوم "برة مني" الذي بدا تعبيراً عن أحلام الفتاة المصرية المستقلة، ثم تأرجحت نحو مشروع غنائي صوفي قبل أن تتملكها الأغنية السياسية لفترة، تأثراً بالأوضاع التي عاشتها مصر إبان ثورة يناير. هنا تضع فيروز إجابات وراء علامات استفهام عديدة تحيط هذه الحالة عندما تقول لرصيف22: "أنا كل هؤلاء، تراني أعبر عن الفتاة المصرية بنت هذا الجيل في ألبوم برة مني ولكنني لست مجرد مشروع غنائي نسوي، يغني هذا اللون فقط، أحب التغيير ولا أريد تكرار ما نجحت فيه من قبل". فبعد ألبوم "برة مني" عرض عليها شعراء وملحنين أغنيات مشابهة لنفس الموضوعات التي قدمتها فيه، ووجدت في ذلك مخاطرة إعادة انتاج لما غنّته في تجربتها الأولى، "لهذا رفضتها جميعاً وسعيت لملامسة مناطق مختلفة وجديدة"، كما تضيف. لا تخفي فيروز إعجابها بتناول الفنانة لحياتها الخاصة ضمن أعمالها أو بمعنى أدق أن يعكس إبداعها ما طرأ على حياتها وشخصيتها من تطور أو نضح أو حتى انكسارات. تقول عن ذلك: "أكثر النجوم نجاحاً حول العالم هم من تركوا بصمات من تجاربهم الشخصية في أغنياتهم، أما أنا فقد تطورت شخصيتي ونضجت ومررت بالكثير من التجارب التي غيرت نظرتي للموسيقى". ولهذا، تضيف: "بحثت في البوم "قلبك زحام" عن أشكال موسيقية جديدة فقدمت الراي في أغنية "قلبك زحام"، نزحت نوعاً ما إلى الأجواء الرحبانية في أغنية "شالك"، ثم عدت للون الشرقي المائل للشعبية في أغنية "استعمال طبيب"، وتمسكت بالتفاصيل المميزة لمشروعي وهي الكلمات الدارجة المعبرة عنا". فتضيف: "شخصياً لا أصدق أن فتاة ستقول لحبيبها "جوايا ليك احساس بيكبر كل يوم" هذا ما دفع الناس ليسخروا من من الأغنية بعبارة "كلام أغاني" كناية عن عدم الصدق، ولكنني أريد أن يصدقونني إذاً سأغني مفرداتهم اليومية". تقول عن كيفية إنتاح أعمالها: "الأمر مرهق جدًا فمنذ تجربتي الأولى أبذل مجهوداً كبيراً في اقناع شعراء وملحنين وموزعين معروفين على المستوى التجاري في التعاون معي بأجور أقل من أجورهم المتعارف عليها. وتضيف: "الحقيقة ان كثيرون منهم آمنوا بمشروعي مثل الموزع أسامة الهندي الذي قدم لي الكثير في ألبومي الأول رغم تعاونه مع أسماء كبيرة مثل محمد منير وعمرو دياب، في حين أنني أسعى للتعاون دائماً مع مواهب جديدة في مجال الكتابة والتلحين وأغلبهم قريبون من جيلي أو هم فعلاً من جيلي مثل عمر طاهر ومؤمن المحمدي ومحمود رضوان ورامي يحيى وآخرون، هؤلاء اعتبرهم شركاء في المشروع لانهم عبروا بكلماتهم عما أريد أن أغنيه فعلاً". كما هو الحال مع أغلب أصوات تيار الأغنية المستقلة تصاعدت أسهم فيروز مع اندلاع ثورة يناير. إلا أنها لا تخفي رفضها التام للغناء فوق مسرح الميدان وقتها اعتقاداً أن المشهد بدا أشبه بمولد سينفض بخسائره ومكاسبه. ولكن في نفس الوقت ترفض فيروز اتهامها بالهروب من الغناء السياسي انحناء لموجة سياسية واعلامية عالية رافضة تماماً لثورة يناير وكل الوجوه المعبرة عنها. في هذا الخصوص تقول: "لم أهرب من الغناء السياسي ولكنني كأي مواطن عاش هذا الحلم متأثرة جداً بما حدث، وقدمت أغنيات تعبر عن ذلك في وقتها حتى شعرت أنني قدمت وجهة نظري ولا داعي للتكرار". رغم ذلك، تشير كراوية إلى أنّ "يناير كمشروع اجتماعي وسياسي انهزم وجزء من هزيمته يقع على عاتق المشاركين فيه"، وعلى رأسهم، بحسب رأيها، "الحركات الإسلامية التي مارست شتى أنواع الإجرام السياسي والاجتماعي تجاه التجربة وهي مازالت في مهدها". تواصل فيروز حديثها لرصيف22: "قدمت سبعة أغنيات عبرت عما أشعر به وأعيشه وقتها، كان أشدها جرأة أغنية "مات الكلام" التي تعمّدت غنائها بطريقة المهرجانات الشعبية، كلمات خشنة لم أجد قالباً موسيقياً أنسب لها من ذلك". وفي المقابل، تضيف: "منع الإخوان أغنياتي في مختلف الإذاعات بل منعوا ظهوري على المحاطت التليفزيونية بسبب هذه الأغنية"، ومن قبلهم لم يكن يروق للمجلس العسكري الذي جاء عقب تنحي مبارك مباشرة هذا النوع من الفن والغناء فمنعوني أيضاً خاصة أنني كنت أبدي اعتراضاً في الأغنية على التعديلات الدستورية وأهدافها التي كان أبرزها إجهاض ثورة يناير". غنيت من كلمات الراحل صلاح جاهين أغنية "مقدرش أنسى البشر"، وكذلك قدمت أغنية "آخر مرة" التي تناولت أحداث شارع محمد محمود الشهيرة. https://youtu.be/jeFNwlzGwg8 تختتم الحديث بقولها: "كلها أغنيات عبرت عن موقفي مما حدث وقتها". ترى فيروز أن هزيمة يناير الأكبر ليست في عدم وصول التيار المدني للحكم بل في خسارة ثقة الشارع وعدم تصديق الجماهير للأصوات المنتمية لهذا التيار، وبالتالي أصبح المناخ العام ضيقًا جدًا أمام الفنانين المنتمين لهذا المشروع وبالتالي تأثر مزاجهم الفني.
"مساحات الإحباط أوسع مما يتخيل البعض"، فيروز كراوية عن عالم الإبداع في مرحلة ما بعد ثورة يناير
عن ذلك تقول: "عندما انطلقنا نغني في المسارح عام 2006، ورغم أن هذه المرحلة كانت في عهد مبارك إلا ان إحساسنا بالتفاؤل كان في قمّته، ببساطة اكتشفنا أن هناك أجيالاَ جديدة تريد سماعنا، شباب يعتبروننا صوتهم، الأن مساحات الإحباط أوسع مما يتخيل البعض، الطلب على حفلاتنا أصبح أقل، شخصياً لا أواجه تضييقات أمنية، ولكن الوسط أصبح محكوماً بتكتلات تبنى على مصالح مشتركة هدفها الحفاظ على "أكل العيش".
مغنو المهرجانات طوروا فنهم بعفوية
تعتبر فيروز المهرجانات انتشرت خارجياً باعتبارها فناً مصري الصنع والابتكار ساهم في تغيير شكل الإيقاع ومسارات الطاقة المنتقلة من خلال هذا الإيقاع للمستمع كي يعبر عنه برقص جديد ومختلف وبالتالي اختلاف شكل الحفلات التي تقدمه. تقول فيروز لرصيف22: بالطبع الموضوع بدأ بشكل عبثي ولكن كل الابتكارات انطلقت من نقطة عبثية، ومغنو المهرجانات طوروا فنهم بعفوية أوقعت مطربي الأغنية التجارية او ما نسميها موسيقى البوب التقليدية في أزمة فهم لا يجددون فضاءات مختلفة لتجديد موسيقاهم في حين تنتشر المهرجانات بسرعة وتنطلق للخارج وتقيم شراكات فنية مع أشهر منسقي الموسيقى العالميين، أفهم جيداً أن هناك إشكالية واضحة تجاه الكلمات والموضوعات التي تناقشها أغلب المهرجانات ولكنها في النهاية نابعة من ثقافة هؤلاء المغنيين والطبقات التي ينتمون لها". نجلس في شقتها الأنيقة بضاحية مصر الجديدة، في مكتب صغير ملحق بالمنزل تبدو الروح الفلكلورية حاضرة في الديكورات واللوحات، هناك مزيج من أرواح متنوعة مابين الثقافة الإفريقية واللمسة المغاربية والحضور الشرقي المتجسد في عود يميل على أحد الجدران. وهي تحتسي أكواب الشاي على أنغام الموسيقى، تقول كراوية عن القادم، بعد صمت قصير: "أريد أن أقدم شيئاً جديداً، إيقاعات مختلفة تنقلني لعوالم أخرى. أريد أن أتعلم أكثر وأسمع أكثر وأغني أفضل، في النهاية لا أجد نفسي أسيرة لمشروع واحد أو مدرسة واحدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين