عندما وضع المهندسون المعماريون تصوراتهم للرصيف، لم يخطر في بال أي منهم أن أحداً سوف يستخدمه لغرض آخر غير المشي. لكن المصريين خالفوا هذا التصور.
ففي مصر، يمكن أن يُستخدم الرصيف لأمور عدة، للبيع والشراء، للنوم، للانتظار، للعب طاولة النرد حتى للقاء العشاق.
في جولة بين شوارع القاهرة، ستلمحون الكثير من التفاصيل التي تخبركم عن حياة الشارع إجمالاً، والرصيف على وجه الخصوص.
تتوقفون أمام تلك السيدة بميدان الجيزة، لا يعرف لها أحد أسماً ولا تتحدث إلى أي شخص، فهى مقيمة على الرصيف منذ 10 أشهر كما يقول صاحب أحد المحالّ المجاروة للرصيف الذي تتخذه السيدة مسكناً.
يقول عنها: "تقيم هنا رغم أن البعض عرض عليها نقلها إلى مكان أفضل. يتكرم المارة بترك بعض الطعام أو الشراب لها، ونحن أيضاً نمد لها يد المساعدة قدر الإمكان".
أما الست هنية، 62 عاماً، فقد تعودت في كل صباح أن تأتي إلى أحد الأرصفة في منطقة بين السرايات، لتبيع المناديل والجرجير حتى تغيب الشمس ثم تعود مساءً إلى البيت بقدر بسيط من المال وقدر كبير من السعادة كونها نجحت في أن تحفظ لأسرتها حياة كريمة من دون أن تستجدي.
لغرض البيع أيضاً، وقف حسام، 23 عاماً، يبيع الكتب أمام محطة مترو البحوث لأنه لا يمتلك المال الكافي لشراء محل وتحويله إلى مكتبة. يقول: "أعمل من الصباح الباكر حتى غروب الشمس، وأغلب زبائني من الفقراء لأن أسعار الكتب زهيدة، وكلها مقلدة أو قديمة.
ويضيف: "الرصيف بالنسبة لي هو السند، لأني أكسب منه قوت يومي وأنفق ما أكسبه على علاج أبي المريض وشقيقتي "اللي على وش جواز".
وللغاية نفسها، تجلس الست فوزية، 40 عاماً، كل يوم على الرصيف في شارع التحرير بالدقي لتبيع الخبز كي تؤمن لابنها مصاريف الدراسة، بينما يقف خميس، 39 عاماً، وراء عربة الفول ليبيع بضاعته للفقير الذي يعتمد في فطوره بشكل أساسي على الفول لرخص ثمنه، والغني الذي يرى في تناول الطعام قرب عربة في الشارع نوعاً من التغيير.
يقول خميس: "أنا هنا من 11 سنة، كل زبائني يعرفون اسمي، ورغم أني أصبحت أمتلك المال اللازم لشراء محل، فقد ارتبطت بالرصيف ولن اغادره.
كذلك ارتبط خالد شرف، 19 عاماً، طالب بكلية الآداب جامعة عين شمس بالرصيف.
يصف هذه العلاقة بقوله: "تعودت دائماً أن انتظر أصحابي على الرصيف، سواء كنا ذاهبين إلى الكلية، أو إلى أي مكان آخر، وسبب ذلك أننا كنا دوماً نختلف حول "مين يمر على التاني في بيته". وفي النهاية اخترنا الحل الوسط، ميداناً قريباً من بيوتنا جميعاً".
كذلك ارتبط رمضان، 49 عاماً، عامل بمصنع للأدوات الكهربائية، بالرصيف. وقال إنه كل يوم، بعد الانتهاء من العمل، يأتي إلى محطة الأتوبيس وينتظر الأتوبيس الذي ينقله إلى البيت. يقول: "أفضل الانتظار على المقاعد الموجودة على الرصيف، لأني لا أحب أن أشارك الآخرين في الأحاديث، ورغم ذلك تتناهى إلي قصص وروايات، غالبيتها عن مشاكل بين الأزواج بسبب قلة المال".
إلى جوار رمضان، قد تلمحون شباباً وفتيات في سن المراهقة، وقد اتخذوا من الرصيف مكاناً للقاء عابر لن يكلفهم جنيهاً واحداً، وهي الحيلة التي يلجأ إليها هؤلاء دوماً للقاء من يحبون.
وعلى رصيف أمام مقهى بشارع السودان في محلة المهندسين، تعوّد الحاج أحمد، 65 عاماً، لقاء أصدقائه. قال: "منذ تقاعدي قبل 5 أعوام وأنا آتي إلى المقهى، ورغم أن مساحته كبيرة تتسع للكثيرين، أفضل دوماً أن أجلس مع أصدقائي على كراسي الرصيف للعب الطاولة وشرب الشيشة".
ويضيف: "على الرصيف، فرح، تفاؤل، تشاؤم، حب ، كره... مشاعر كثيرة تجعلكم تشعرون بأنكم ما زلتم على قيد الحياة، وكل ذلك مصحوب بصوت أم كلثوم التي تمدنا بطاقة إيجابية".
وماذا لو اعترض أصحاب المقهى أو وبات لزاماً عليك الجلوس بداخله بدلاً من البقاء على الرصيف؟
يجيب من دون تردد: "هندور على رصيف تاني".
في شارع آخر بمنطقة عابدين، يستذكر مؤمن ومروان، وهما طالبان في الثانوية العامة، دروسهما على الرصيف المقابل لمنزل المدرس الخصوصي لمادة الفيزياء.
يقول مروان: "منه بنرتاح لحد معاد الحصة، ومنه بنكمل الواجبات المطلوبة منا، وطبعاً في ناس تانية أعرفهم بيستغلوا المكان وبيوقفوا على الرصيف يعاكسوا البنات".
لا يقتصر الوضع على طلاب العلم، فحتى من يفشلون في كتابة أسمائهم، لهم حكايات مع الرصيف. منهم عمال التراحيل الذين لا يعرفون سوى الرصيف ملاذاً. فإذا كنتم بحاجة لأحد العمال لينجز لكم أياً من أعمال البناء أو حمل المعدات والأثاث فعليكم أن تبحثوا عنه على الأرصفة.
يقول رشدي عطية، 30 سنة، عامل: "الرصيف بالنسبة لنا أهم من أي حاجة تانية، هو المكان اللى بنتجمع فيه، ده مكان التجمع الرسمي بتاعنا والناس اللي بتبقى عايزة أى حد فينا بتيجي تاخدنا من هنا، لأنهم عارفين إننا بنبقى موجودين على الرصيف، وفي ناس منا لا تملك أى مقر للسكن ولأنها من محافظات بعيدة تتخذ من الرصيف بيت".
كذلك ينتظر الركاب في مصر على الرصيف خوفاً من سرعة سائقي سيارة الأجرة وتهور البعض منهم. وفيه يستريح كل من تعب من السير ولم يجد مكاناً للاستراحة.
ويُستخدم الرصيف في نشر الإعلانات، إذ سبق أن استُخدم أيضاً في التظاهرات، وتجمع أطفال الشوارع. وعليه ينتظر الشحاذون، ويحوله أصحاب الدراجات النارية إلى مرأب من دون دفع رسوم، كما يدهشكم البعض في الأحياء الفقيرة وهو يلتقي بجيرانه على رصيف البيت لتناول الشاي والاستمتاع بجلسات السمر التي تمتد صيفاً حتى الساعات الأولى من الصباح.
وعلى الرصيف، ستجدون أكوام القمامة، والفنان الذي يعرض بضاعته على المارة، مثل بهاء شعبان، 26 عاماً، خريج كلية الفنون الجميلة، الذي حول الرصيف في أحد شوارع وسط البلد، إلى مرسم يلتقي فيه زبائنه ليرسمهم بأسعار زهيدة.
يقول: "منذ تخرجت وأنا آتي إلى هنا، انتظر المارة الذين تلفت رسوماتي انتباههم فيطلبون مني أن أرسمهم. وقد سمعت منهم حكايات كثيرة خلال الرسم الذي يمكن أن يمتد نحو ساعة، خصوصاً أني من عشاق التفاصيل، وأيضاً من عشاق الرصيف لأنه بالنسبة لي حياة ذات خصوصية كبيرة".
أما الست أم عمرو، ربة بيت، 33 سنة، فعلاقتها بالرصيف بدأت مع دخول ابنها المدرسة، إذ كانت تذهب معه كل يوم وتنتظره هناك حتى موعد خروجه، وتخلت عن هذه العادة بعدما اعتاد المدرسة، غير أنها بقيت تكرر الفعل نفسه في أيام الامتحانات.
تقول: "على رصيف المدرسة عرفت ستات كتيرة وبقينا أصحاب لدرجة أننا عملنا جمعية مع بعض وبقينا بنحضر لبعض مناسبات سعيدة أو حزينة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...