هل يمكن أن نتغاضى عن حزن الناي وألم الكمنجة، ونتجاهل الكلمات الحزينة لنرسم على وجوهنا بسمة ونبدأ الرقص بكل فرح، أو نسمع أغنية يتألم فيها المطرب من حاله أو من حال وطنه، ومع ذلك هي بالنسبة لنا صالحة للرقص؟ كيف يمكن صنع تلك «التوليفة» إذا كان الرقص إحساساً بالكلمة واللحن؟ لكن هذا الممكن بات حقيقة عند المصريين، وتلك التوليفة باتت موجودة، فكل الأغاني للرقص وكل الكلمات للفرح.
في عام 2010 كتب الشاعر جمال بخيت قصيدته الحزينة «مش باقي مني» التي تحسر فيها على أحوال المواطن المصري في نهاية عصر مبارك، وغناها المطرب أحمد سعد في فيلم «دكان شحاته». يقول مقطع منها «مش باقي مني غير شوية لحم في كتافي، بلاش يتبعتروا في البحر، بلاش يتحرقوا في قطر الصعيد في العيد، بلاش لكلب الصيد تناوليهم». ورغم الأسى والحزن، تحولت إلى أغنية للرقص في الأفراح الشعبية.
المثير أن الفنان أحمد سعد نفسه هو من استخدم الأغنية في بعض الأفراح التي يقوم بإحيائها، فيما استعار مطربون آخرون منه التجربة وأدوا الأغنية التي تحولت من عمل فني يرصد معاناة المصريين إلى عمل فني يتم الرقص عليه.
مقاومة الحزن
"نحن شعب ساخر، نحب الحياة ونتحايل عليها"، بذلك فسر خبير علم الاجتماع السياسي أحمد الباسوسي قدرة المصريين على تحويل أي أغنية لمادة للرقص، قائلًا إن هذا التصرف امتداد لأشياء أخرى كتحويل المصيبة السياسية إلى «نكتة» يضحك عليها الجميع، أو كما قال المتنبي "كم ذا مصر من المضحكات لكنه ضحك كالبكاء"، وكل هذا نوع من أنواع مقاومة الحزن والبلاء، وهو أسلوب فريد اختص به المصريون. ويوضح «الباسوسي» لرصيف22 "الطبيعة المصرية مرحة بطبعها، ونظرًا لتاريخ الأزمات الذي مرّ المصريون به على مدار عقود، اعتادوا تحويل كل ما هو مؤلم إلى مادة للابتسام، لافتًا إلى أن تلك الطريقة من أفضل الطرائق للتغلب على الحزن، ومقولة إننا شعب «ابن نكتة» لم تكن من فراغ، فنحن الذين حولنا الأزمة إلى نكتة وموقف سينمائي ضاحك وأغنية يتم الرقص عليها". ويضيف "الشعور هو الذي يتحكم في الإنسان، لذلك إذا اعتاد الشخص تقبل تلك الأغاني كأنها مادة للرقص فسيكون الأمر تلقائيًا، ويتم غالبًا بشكل جماعي كحفلات الزفاف التي يرقص فيها الجميع على أي أغنية، ويندمج الشخص مع الجماعة ولا يفكر كثيرًا في كلمات الأغنية".الفرح في سطرين والباقي كله عذاب
في تاريخ الأغنية المصرية، يعدّ الفنان الراحل حسن الأسمر واحدًا ممن عُرفوا بأداء الأغاني «الحزينة» المعتمدة على مواويل، وأشهر أغانيه «كتاب حياة يا عين» التي تعدّ تجسيدًا لإنسان لم يعثر على الفرح في حياته. يقول مقطع منها "كتاب حياتي يا عين ما شفت زيه كتاب، الفرح في سطرين والباقي كله عذاب، كتاب حزين كله مآسي، تأليف زمان غدار آسي، الفرح سطر غلط مكتوب لما الزمان كان يوم ناسي". تلك الملحمة الحزينة لم تمنع المصريين من تحويلها لأغنية للرقص في الملاهي الليلة حيث غناها حسن الأسمر، وباتت أيقونة في نهاية تسعينيات القرن الماضي.
يقول الناقد الفني كمال رمزي لرصيف22 "السينما مسؤولة عن ترسيخ هذا الأمر في نفوس المواطنين، فمنذ بداية السبعينيات ظهرت أفلام «مقاولات» اعتمدت على «تيمة» ثابتة، إذ لا بد من وجود راقصة ومطرب شعبي فيها يغني مواويل وأغاني حزينة، وجسد ذلك النمط الفنان أحمد عدوية، الذي تبدأ معظم أغانيه بمواويل حزينة ورقصت عليها أشهر راقصات مصر. ويدلل «رمزي» على ذلك بأغنية «سألوني» لحسن الأسمر، التي ظهرت لأول مرة في فيلم «بوابة إبليس» ورقصت على أنغامها مديحة كامل، ثم راجت في كثير من الملاهي الليلية، وهذا ما ساعد في صناعة نجومية حسن الأسمر الذي عرف أنه «مغني أفراح» برغم أن معظم أغانيه حزينة.
آلات ذات إيقاع راقص
ولكن كيف يمكن أن تكون موسيقى الحزن هيد موسيقى فرح في الوقت نفسه؟ أجاب عن السؤال المايسترو رضا رجب لرصيف22، قال "إن معظم تلك الأغاني اعتمدت في تلحينها على ما يُطلق عليه فنيًا «آلات ذات إيقاع راقص» والمقصود بها «الناي - المزمار - العود - الطبلة». لذلك من السهل تحول تلك الأغاني إلى مادة للرقص لأنها بمهيأة لأن تكون كذلك، كما أن ألحانها يغلب عليها اللون الشعبي، وهذا ما يدفع الكثيرين إلى استخدامها في الأفراح". وأضاف "منذ سنوات، وقبل طغيان ما يعرف بالمهرجانات الشعبية، كانت تلك الأغاني صالحة للرقص من دون أي تغيير موسيقي، لأن ذلك ما اعتاده الناس، ولكن مع صعود جيل جديد اعتاد الرقص على أغاني المهرجانات، بات من الضرورة أن تخضع أي أغنية لتلك الموسيقى فيما يسمى «إعادة التوزيع»، أي بإضافة موسيقى مهرجانات إليها. لذلك تمت إعادة غناء بعض أغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ لتكون مادة للرقص، وكذلك الحال مع الأغاني الوطنية، وأبرز دليل أغنية تسلم الأيادي التي تحولت إلى أغنية للرقص في الأفراح .
الأمر نفسه تكرر أخيرًا مع أغنية «قالوا إيه علينا» التي رددها رجال الشهيد أحمد المنسي الذي استشهد في يوليو الماضي، ويقول مطلعها «المنسي اسمه الأسطورة من إسوان للمعمورة»، واستطاعت أن تحظى بشهرة واسعة دفعت وزارة الدفاع المصرية لإصدارها في نسخة رسمية تعظيمًا لدور الشهداء، لكن ذلك لم يستمر على هذا النهج إذ مع انتشار الاغنية باتت مادة تُقدم في الحفلات الغنائية كما حدث مع المطرب الشعبي «حكيم» الذي غناها في إحدى حفلاته الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...