عندما خططت بسمة الهجرسي (23 عاماً) لمستقبلها رسمت إيقاعه بشكل قد يجده البعض غير مألوف، فهي تريد أن تصبح طبالة، أو عازفة إيقاع.
ترفق مهنتها بجانب اسمها على صدر صفحتها الشخصية على فيسبوك: بسمة الطبالة.
وجدت الهجرسي في الطبلة مستقبلها وحياتها، أحبتها بقلب عاشق، وتقربت منها بالقراءة ومحاولة دراستها.
لكن التطبيل بذهن محيطها مرتبط بالرجل، والرقص الشرقي: الطبال بحسب نظرهم هو رجل يرافق الراقصة ويضبط الإيقاع ليهتز معه خصرها.
وعلى الرغم من تقدير الهجرسي وغيرها من الطبالات الشابات في مصر، لجميع أنواع الفنون، بما فيها الرقص الشرقي، فقد قررن أن يحررن فن التطبيل من سطوة الذكور ومن الارتباط بالرقص.
"الطبّال والراقصة" صورة نمطية قديمة
"راودتني أسئلة كثيرة في البداية، أنا بنت، فكيف امتهن التطبيل، لكني لم أهتم، اتخذت قراري، اشتريت طبلة خاصة، تدربت في أحد الأماكن المخصصة لذلك"، تقول هجرسي لرصيف22.
لم تدرس التطبيل تكنيكياً، على الرغم من دراستها بالمعهد العالي للفنون الشعبية، فالمعهد لا يُدرس عزف الطبلة بشكل مستقل، فتواصلت مع أساتذة بمعهد الموسيقى العربية الذي تدرس به شقيقتها تقى عزف القانون، وتعلمت منهم.
"حاولت معها كثيراً حتى أحبتني، تمسكت بها فتمسكت بي، حكايتي معها بدأت دون مقدمات ودون ترتيب، حب غير مبرر جعلنا صديقتين حميمتين"، تقول.
كان رد فعل الناس لقرارها الاستغراب، فأن تكوني فتاة تحب عزف البيانو أو أي آلة من آلات التخت الشرقي فهذا غير مستغرب، أما التطبيل، فهو برأيهم للرجال. وكما الكثير من الصورة النمطية التي يفرضها المجتمع على النساء، كانت نظرة الناس أن الطبّال دائماً رجل.
"الطبلة خلتني راجل"، تقول الهجرسي في لقاء أجرته معها قناة البي بي سي، "بس مش راجل في شكلي ولا راجل في صوتي، راجل في تصرفاتي...راجل وأنا محترمة نفسي بيها وهي محترماني، عمرها ما حطتني في موقف وحش"، تضيف الهجرسي للبي بي سي.
شاركت الهجرسي في حفلات كثيرة واحترفت العزف على الطبلة بمساعدة عازف الإيقاع المصري سعيد أرتيست.
لكنها لا تحب أن تشارك في حفلات الأعراس الشعبية، وهي الفكرة التي ترتبط بفن التطبيل والتي تحاول الهجرسي كسرها: الطبّال هو الرجل الذي يرافق الراقصة في الأفراح.
فهي ترى أن بعض شرائح المجتمع مقتنعة أن المرأة الطبالة هي حتماً "أنثى تشرب سيجارة وتطبل لترقص راقصات درجة عاشرة"، بحسب هجرسي، وهي الصورة التي رسمتها السينما، برأيها، عن هذا الفن.
تقول خلال لقائها مع البي بي سي إنها ترفض العزف لراقصة في الوقت الحالي، بسبب ظروفها وتربيتها ونشأتها، لكنها قد تتراجع عن قرارها إذا وجدت راقصة "تقدم فن الرقص كتحية كاريوكا وسامية جمال ودينا".
لم يولد الربط بين الرقص والطبلة من فراغ، فالطبلة هي العنصر الأساسي في الرقص، ولا يمكن تعلمه دون إيقاع.
وتضيف: "مافيش بنت متبرقصش أول ماتسمع الطبلة"، تقول لأسماء حسين، مدربة الرقص الشرقي لرصيف22.
"طبالة إيه؟ الكلام ده عيب عندنا!"... كيف ينظر المجتمع للمرأة الطبالة؟
"مافيش بنت متبرقصش أول ماتسمع الطبلة" ترتبط الإيقاع في مصر بالرقص الشرقي، لكن هناك استثناءات نسائية..."لا أستغني عن الطبلة بتاتاً في تعليم الرقص الشرقي، فهي جزء لا يتجزأ من الحركات التي أقوم بها، حتى أنها تساعد في إخراج حب البنات للرقص"، تقول حسين. فكل تغيير في الإيقاع يؤدي لتغيير في حركة الراقصة وتحدد الطبلة مسار الراقصة. وعندما تزيد حركة الأصابع على الطبلة مثلاً، يُعبر جسد الراقصة عن ذلك بحركة "الرعشة". "حتى وإن لم يقبل المجتمع الطبالة أو الراقصة، لكنهما فنانتان لا غنى عنهما"، تقول حسين. لم تقدم السينما والدراما العربية حالة واحدة لأنثى تعمل طبالة، وقد كان الطبال الرجل محور اهتمام بعض الأفلام. ويعد فيلم "الراقصة والطبال" أحد أهم الأعمال التي تكلمت عن مهنة "الطبلجية" بشكل موسع، وأهمية الطبال للفرق الموسيقية. أما غنائياً، فقد كان الطبال يعزف مع اللحن كمرافق لباقي الآلات وتابع للحن الأساسي. لكن محمد عبدالوهاب أدخل العزف على الطبلة ضمن فرقة أم كلثوم، واستحدث عزفاً منفرداً للطبلة بمقاطع موسيقية خاصة، ضمن أغنية "فكروني"، فخرج اللحن بطريقة فاجأت الجمهور.
ياطبلة رني.. الطبلة في البيئة الشعبية
"ياطبلة رني ياطبلة ياطبلة رني أنا عندي جارة ياطبلة هتطق مني". هذا مطلع إحدى الأغنيات التي يتم غناؤها في قرى مصر والصعيد وفي المناطق الشعبية للطبلة وعلى أنغامها. لا داعي هناك لأن يستأجر أهل العريس أو العروس عازفاً محترفاً عند الزواج، فنساء القرية في الخدمة، فيقمن بالغناء على إيقاع الطبلة والعزف في أيام الأفراح الشعبية، ابتداء من حفلة الخطبة حتى اليوم الذي يلي الزفاف. فربط التطبيل والإيقاع بالرجل، واعتباره أمراً ذكورياً هو أمر طارئ على المجتمعات المدنية في العالم العربي وليس مصر فقط. فقد ارتبطت الأفراح في ثقافات عربية كثيرة بالنساء، بحسب الدكتور محمد غوانمة، مؤلف كتب عن أغاني النساء في الأردن. فقد كانت النساء، بحسب غوانمة، أول من يعلن عن الفرح من خلال الزغاريد وأشكال الغناء المختلفة التي ترافق طقوس الفرح، مثل مراسيم الخطبة والحنّاء، والزفاف، مرددات الأغنيات الشعبية التراثية. ويضيف غوانمة في دراسته أن المرأة الريفية أو البدوية في الأردن لم تحفل كثيراً بتعلم العزف على الآلات الموسيقية، إلا أنها غنت كثيراً من أغانيها بمرافقة نوعين أساسيين من الآلات هما: الآلات النفخية كالشَّبَابة والمِجْوِز واليَرْغُول، والآلات الإيقاعية كالطبلة. كما أن تطبيل النساء في الاحتفالات الشعبية، كالزار مثلاً أمر أساسي. ويقول الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، في كتابه "الطريق إلى السعادة"، إن الرقص والغناء على أنغام الطبول الخشبية أو الجلدية يساعدان في العلاج من بعض الأمراض النفسية. ويشير عكاشة إلى أنه أجرى دراسة على عدد من النساء في أحد الزارات ووجد أن الأعراض النفسية اللاتي يعانين منها قد خفت وطأتها إلى حد بعيد. رغم ذلك فإن فكرة "العيب" المرافقة لامتهان التطبيل وصلت لبعض هذه القرى. تعرفت عطيات محمد (50 عاماً) على الطبلة منذ بدء شبابها وتحيي جميع أفراح قريتها في صعيد مصر، دون أن يتم دعوتها. كانت تشتري الطبلة الفخار منذ طفولتها وتبدأ بالنقر عليها لتحدث أصواتاً تبهرها هي وغيرها من أطفال القرية. مع الوقت تطور الأمر لتحفظ عن ظهر قلب عدداً كبيراً من الأغنيات الشعبية من والدتها وجدتها، ولأن ذاكرتها قوية، صارت هي المرجع الوحيد لمثل هذه الأغنيات غير المدونة، تقول عطيات لرصيف22. لكنها رغم ذلك لا تعتبر نفسها طبالة. فهي فنانة إحياء أفراح. "طبالة إيه؟ الكلام ده عيب عندنا!"، تقول لرصيف22. البنت تتعلم الإيقاع مثلها مثل الصبي جمع حب الطبلة بين رانيا عمرو ودنيا سامي. كوّنت الفتاتان تكوين فريق "دنيا ورانيا" للطبلة، وقد قامتا من خلاله بعزف عدد من الأغنيات على فيسبوك. تعدت بعض المقتطفات التي صورتها العازفتان آلاف المشاهدات، وذاع صيتهما فصارتا مع الهجرسي أشهر عازفات الطبلة في مصر، إن لم يكن الوحيدات. وبالرغم من أن الفتاتين تريان أن المجتمع بحاجة لتفهم دور الطبالة وأنها ليست مجرد "عازفة وراء رقاصة راجعة من شارع الهرم (والذي يشتهر بالملاهي الليلية)"، بحسب وصفهما، فقد شجعتا عدداً من الفتيات على تعلم العزف على الطبلة، ونظمتا دروساً لتدريبهن. يقول مدرب الإيقاع كريم صلاح لرصيف22 إن انتشار فيديوهات رانيا ودنيا على فيسبوك جعل هناك إقبالاً كبيراً من الفتيات لتعلم الطبلة، وهو أمر بسيط بحسب وصفه، لا يتطلب ميزات خاصة تتوفر لدى الرجال كما لدى النساء. "البنت تتعلم الإيقاع مثلها مثل الولد. الفكرة تكمن في الاستيعاب وسرعة التنفيذ لأن اليد يمكن أن تأخذ أكثر من أمر في وقت واحد" يقول صلاح، ويضيف: "المجتمع يربط بين الطبلة والرقص ويعتبر الطبالة امرأة سيئة السمعة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...