قد لا يكون مستغرباً انتقاد مُطبقي الدين في العالم العربي، ولكن انتقاد الدين نفسه أمرٌ شاذ وخطير قد يودي بحياة من يتجرأ على فعله، أو يُدخله السجن. بقي شعار «الإسلام هو الحل» يتردد طوال العصر الحديث كإجابة جاهزة عن سائر التساؤلات العالقة والمشكلات المعقدة في الشرق الأوسط. وكثيراً ما أخذ هذا الشعار طابعاً شعبياً في الدول العربية، مفاده أن مشكلة العصر في المسلمين وليس في الإسلام.
مع إعلان «دولة الخلافة الإسلامية» على لسان الناطق الرسمي باسم «داعش»، والذي تضمّن تنصيب خليفة للمسلمين في كل مكان، تُطرح تساؤلات جوهرية وجريئة تحمل كثيراً من الشك في «النص» لا في «التأويل» حول مفهوم هذا الحل الديني. إذ على الرغم من الطابع الإرهابي لداعش، فإن إعلانها يُعدّ تطبيقاً لما نادى به حسن البنا في بدايات القرن العشرين، وتلته جميع الأحزاب والجماعات الإسلامية، حتى تلك التي تصف نفسها بالمعتدلة.
إذا ما قارنّا النزاعات الطائفية التي حدثت خلال السنوات الثلاث الأخيرة في كلٍّ من سوريا والعراق ومصر، فإنها تضاهي من حيث التسارع وحدّة العنف ما حدث خلال المئة عام الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط. هذه الأحداث ولّدت استياءً عاماً بين الشباب العربي ليس تجاه الإسلام السياسي فقط، بل تجاه الموروث الديني برمَّته، كما أن موجة من الإلحاد بدأت تنتشر كردة فعل على موجة التشدد الهائل.
قبل أشهر جرت انتخابات عربية (مسرحية) في كل من سوريا ومصر والجزائر شبيهة في خطابها الأحادي بإعلان الخلافة الإسلامية منذ أيام. ولأن الحراك العربي الذي اشتعل ضد الديكتاتورية لم يُفضِ حتى اللحظة إلا إلى ديكتاتوريات دينية أشد تطرفاً، فقد بدأت تتضح معالم وهم الحلّ الديني عبر فتح أبواب التساؤل والتعلم من الأخطاء التي وقع فيها الشباب العرب خلال السنوات الأخيرة، وذلك بهدف وضع الحراك في سياقه الصحيح. يمتد هذا التساؤل إلى الماضي البعيد كردة فعل طبيعية على الحكم الإسلامي السلفي، ولعل أولى البوادر بدأت تُلاحظ بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي وبأسماء أصحابها الصريحة، وهنا نقتطف بعضاً منها.
«كي لا نكذب أو نضحك على أنفسنا وعلى التاريخ: إنّ شكل الدولة الإسلامية التي تمّ إعلانها أمس هو الشكل النموذجي المثالي الذي يحلم به الإسلام السياسي الحديث والمعاصر». سعد الدين كليب (كاتب وأستاذ جامعي).
«رغم كل شيء، رغم كل هذا الموت، رغم كل التريليونات المهدورة والمسروقة، رغم كل الخراب،، أجد تفاؤلاً في هذا التهافت الديني، في هذا الزواج بين الهمجية مع التديّن. نهاية آخر الأوهام حول "المقدس"». يوسف بزي (صحافي).
«كنا نطالب بإنهاء الخلافة، ردوا بتأسيس الخلافة». حازم العظمة (شاعر).
«هناك مناهج وطرائق يمر بها الموضوع ليصل إلى العقل ويتحقق الفهم، وأسهل وأشهر وسائل الوصول لفهم منقوص اللجوء إلى مفهوم المؤامرة بدءاً من برتوكولات صهيون إلى داعش الملثمين. هي محاولة المغلوبين والعاجزين لطي التاريخ والحدث بمقولة سحرية تبرر للطغاة سحق الثورات وللكسالى الثرثرة والضجيج، لا يمكن نفي مفهوم المؤامرة من التاريخ والسياسة والحب بالمطلق، ولكن تحويله الى رائز أساسي وكلي في التفسير والفهم مشكلة. الدواعشة ليسوا أول من تحدث عن الدولة الإسلامية، كل الأصوليات الإسلامية أعلنت ذلك وتسعى لهذا التكوين، السلفيون المعتدلون والسلفيون الجهاديون والإخوانيون، ولكن الطرق والدروب للوصول مختلفة، وإن تراجعوا أحياناً فهو من التكتيك للحصول على دعم». الجميلي جمال (كاتب).
إضافة إلى المقولات السابقة، أصدر مئتان وستون كاتباً وصحافياً من سوريا والعراق ولبنان بياناً مشتركاً عقب إعلان الخلافة الإسلامية، ومما ورد فيه: «الحكم الديني في جوهره مطحنة للبشر، وآلة استعباد منفصلة عن عالم العمل والإنتاج، تؤسس لحكم عنصري فائق النخبوية، فاشي في معاملته للعامة، لن يلبث أن يراكم السلطات والثروات في أيدي حفنة من القادة المحميين بالمقدس».
إعلان الخلافة الإسلامية بدأ يفجر التشكيك والبحث في مدى تقاطع هذه الخلافة مع التاريخ الإسلامي وليس مع مَن يفهمونه بشكل خاطئ، ومن هذا البحث يُصار بالتدريج إلى وضع الأصل تحت المجهر بعد الاستغناء عن أساليب التورية والمجاز التي كان يعتمدها نقاد القرن العشرين -لا سيما في مصر- حفاظاً على سلامتهم الشخصية من بطش المؤسسة الدينية، ابتداءً من طه حسين ونصر حامد أبو زيد وانتهاء بسيد القمني ومحمود أمين العالم. ولهذا التشكيك في النص تاريخه الطويل الذي تباين ظهوره في المنطقة تبعاً للسلطة الدينية، لكنه نما بموازاة الجهاد والتطرف الذي له تاريخه أيضاً، ففي كتب الجاحظ وابن المقفع نجد نقد الدين مبطناً بأساليب البلاغة العربية، علماً أن ما نشهده اليوم من رفع للقداسة عن أي شيء أو كائن في التاريخ يتخذ من ما تركه هؤلاء قاعدة له، وتبقى الحرية التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي سبباً رئيساً لانتشاره بهذه الكثافة.
المراحل التي يمر بها الحراك الشعبي في العالم العربي شبيهة بتلك التي مرت بها الثورة الفرنسية من حيث الابتداء برفض اللحظة الراهنة ثم التوجه نحو التاريخ، فالثورة الفرنسية بدأت ضد ماري أنطوانيت وانتهت بإسقاط المؤسسة الدينية وإعلان الجمهورية، وهنا نتكلم عن سنوات طويلة من الصراع وليس عن ثورات غايتها استبدال الزعماء فقط. الحراك الخفي والعميق يحدث الآن في تغير المفاهيم وتفكيك الأصول وليس في النزول إلى الشوارع، لأن الخلافة التي تستمد مرجعيتها من التاريخ الإسلامي ليست بعيدة عن سلوك الأنظمة التي سحقت المجتمعات العربية بل متواطئة معها.
تم نشر هذا المقال على الموقع بتاريخ 01.07.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا