"كان خوفي أن تكتشف والدتي أنني أزور طبيباً نسائياً غير الذي تتعامل معه العائلة يفوق خوفي من تلك المشكلة الصحيّة التي ألمّت بي، وقال الطبيب حينذاك إنها تشكّل خطراً على رحمي. كان عمري 23 عاماً. ليالٍ مرّت عليّ بلا نوم، أشعر بقلبي على وشك التوقّف، أما مصير رحمي فلم يكن يخيفني كثيراً".
من هذه الذكرى تنطلق سلمى، التي فضّلت إخفاء هويتها، لتحكي تجربتها مع الأطباء النسائيين. لم يكن سبب مشكلتها الصحيّة آنذاك الاتصال الجنسيّ، لكن حقيقة إقامتها لعلاقة خارج الزواج وإمكانيّة اكتشاف أهلها ذلك، شكّلتا مصدر الرعب. ثلاث سنوات وهي تؤجّل القيام بأيّ تدخّل طبي جراحي لوقف الخطر على رحمها، حتى جمعت المال المطلوب، وبعض الجرأة وحَلّت تلك المشكلة.
لكن المشكلات الصحيّة الأخرى، التي تواجه أي امرأة مع جسدها، لم ترحم أيضاً سلمى من القلق. هي الآن أكبر بعشر سنوات، لم تتزوّج، لكن قدرتها على إدارة مخاوفها "لوجستياً" ازدادت بعدما أصبحت مستقلة مادياً، وتطوّرت شبكة معارفها وآليّات تحايلها على الواقع، في حين بقيت تجاربها مع عالم الطبّ النسائي مطبوعة في جوانب مختلفة من حياتها. "الرعب الحقيقي الذي كنت أعيشه في كلّ مرة زرت طبيباً نسائياً لازمني طويلاً ولم أتخلص منه تماماً بعد. ماذا إن رآني أحد معارف العائلة أدخل إلى العيادة؟ ماذا سأقول حين تسألني سكرتيرته أمام الجميع عن سبب زيارتي؟ وهل كنت متزوجة أم لا؟ ومن يضمن أنها لا تُشارك قصصنا نحن الناشطات جنسياً غير المتزوجات مع آخرين خارج الإطار الطبّي؟"، تقول سلمى.
ليست سلمى الوحيدة في تخبّطها بهذا العالم. في مجتمع يحاصره تابو العلاقات الجسديّة خارج الزواج خصوصاً، والتعامل مع جسد المرأة عموماً. ثمة عوامل كثيرة تحكم اختيار المرأة للطبيب أو الطبيبة النسائية وأسلوب تعاملها مع مشكلاتها الجسديّة وجهازها التناسليّ، متزوجة كانت أم لا، آتية من بيئة منفتحة، أو متوسطة الانفتاح أو محافظة.
في هذا التحقيق، شهادات لنساء من لبنان وسوريا (إعداد زينة شهلا) ومصر (إعداد علياء أبو شهبة) عن تجاربهن مع الطبيب النسائي وأسباب اختيارهنّ له أو نفورهنّ منه، وهل يفضلن التعامل مع طبيب أو طبيبة، بينما يشرح أطباء دوافع اختيارهم الطبّ النسائي وآليات تعاملهم مع النساء فيه.
قلق، خجل، سوء نيّة… وإيذاء جسدي محتمل
تقول م. ش (33 عاماً) إن تجربتها مع الطبّ النسائي كفتاة ناشطة جنسياً خارج إطار الزواج في سوريا ليست سهلة، بغضّ النظر عن جنس الطبيب، لا بل تصفها بـ"الصادمة". "أول مرة زرت طبيباً نسائياً رافقتني صديقتي في الجامعة. أرادت هي أن ترمّم غشاء البكارة، وقد رأيت أن الطبيب ينظر إليها على أنها فتاة جيدة، لكنه يستغلّ حاجتها إليه ويشارك في "شيطنة" الفتاة حتى لو ساعدها"، تشرح م. ش. وتضيف "الأسوأ كان حين عرف أنني أيضاً لست عذراء، ولا أريد ترميم الغشاء، فاعتبر ذلك فرصةً للتقرّب مني".في إحدى المرات، زارت م. طبيباً آخر بهدف الإجهاض. شعرت أن عدم وجود زوج يجعل الطبيب ميالاً للاستغلال المادي، إذ ترتفع التكلفة، ويتعامل مع الحالة بتعالٍ فتشعر أنها غير محترمة كباقي النساء القادمات مع أزواجهن. لم تختلف تجربتها حين قرّرت اللجوء إلى طبيبة.
تشتكي م. ش. قائلةً "لم يكن من السهل، تحديداً في المراهقة، مناقشة أمور حساسة مع الطبيبة، خوفاً من أن تقوم بالإبلاغ عنا، خاصة عندما تكون متدينة، إذ لا يمكنها تخيل أن تعيش المريضة علاقة جنسية خارج إطار الزواج حتى لو كان ذلك مع خطيبها. كنت أشعر خلال فترة المراهقة بأن الطبيبة تعنّفني".
لا تزال م. تبحث عن طبيبة "حبّابة" تستطيع مصارحتها في أمور جسدها من دون أن تتحوّل إلى قاضية أو متحرّشة، وتقول "أكرههم وأكره الذهاب إلى عياداتهم. لا أعرف كيف أتعامل معهم. أشعر بوجود سلطة اجتماعية تُمارس ضدي من خلالهم".
عوامل كثيرة تحكم اختيار المرأة للطبيب النسائي وأسلوب تعاملها مع مشكلات جهازها التناسليّ، متزوجة كانت أم لا، آتية من بيئة منفتحة، متوسطة الانفتاح أو محافظة
"تلبّست طبيبات دور الذكر وتفوقن عليه أحياناً في أحكام العيب والشرف عندما تعاطين مع حالات تخالف السائد كالمثليّة الجنسية والعلاقات المفتوحة وعدم الرغبة بالإنجاب"في حالات أخرى، تكون المرأة المتزوّجة عرضةً للتوتّر والقلق لدى تعاملها مع الطبيب النسائي، وهذا ما ينعكس على نوعيّة الرعاية التي تنالها، وقد يهدّد ذلك صحتها. تقول ن. ع (35 عاماً)، وهي متزوجة ولديها 3 أطفال، إنها أنجبت أول طفل حين كان عمرها 18 عاماً. لم يجرِ الطبيب أي فحص لها بسبب الخجل، كونه من أقاربها. وتضيف "كان يكتفي بفحصي عن طريق الأشعة، وعند الولادة اكتشفوا بأن حوضي ضيّق، مما استوجب إجراء ولادة قيصرية. كان يمكن تفادي ذلك كله عن طريق الفحص الصحيح". كذلك اشتكت د. أ (33 عاماً) من حياديّة الطبيب الذي لا يخوض معها في التفاصيل كي لا يحرجها، وقد أثّر ذلك عليها خلال فترة حملها.
في المقابل، كان لدى نانسي (26 عاماً)، هواجس أخرى مع الطبيب النسائي لم تكن موجودة بدايةً، لكن بعد طلاقها تغيّرت، تقول " كان الطبيب يعاملني باحترام، لكن بعد علمه بطلاقي، تبدّلت معاملته، وأصبح يسألني عن تفاصيل شخصية حتى أنني رفضت إجراء فحص مهبلي لشعوري بالخوف منه".
وتضيف "بتّ أقول عند ذهابي لطبيب نسائي إنني متزوجة لتجنب الأسئلة عن حياتي الشخصية، والأهم لتجنّب الطمع فيّ وكأنني مستباحة".
لا تتشارك النساء هنا انزعاجهن من الأطباء النسائيين فحسب، بل كذلك من السكريترات اللواتي يعملن في عياداتهم.
في مرات كثيرة، تدخل السكرتيرة في منتصف الفحص وتبدأ بالكلام مع الطبيب في أمور أخرى، أو تسأل الزائرة أمام الجميع عن وضعها الأسري عند الوصول، وما إذا كانت متزوجة أم لا، حاملاً أم لا. وعند المغادرة تسألها بصوت مرتفع هل طلب الطبيب لها فحوصاً يُعرف من خلالها أنها غير عذراء.
تخاف النساء على خصوصيتهن وعلى إمكانيّة الثرثرة حول حالاتهن، وهي ثرثرة، إن افتُضحت في بيئات معينة، تشكل خطراً على الحياة.
كيف يردّ الأطباء؟ وماذا يقولون بشأن تخصصهم؟
حتى فترة غير بعيدة، كان الطبّ مؤسسة ذكوريّة، كأي مؤسسة أخرى، في ظلّ غياب النساء اللواتي انحصرت مهمتهن بالزواج والإنجاب. ومن اختارت الدراسة ابتعدت عن الطب بسبب سنوات التخصص الطويلة والخروج من المنزل في ساعات متأخرة. لم يختلف الطب النسائي (Gynecology علم المرأة) عن باقي التخصصات الطبيّة. بدأ حضور النساء يتوسع فيه منذ نحو عشرين عاماً. قبل ذلك، كان الرجل الخيار شبه الوحيد حين لم يعد اللجوء إلى القابلة القانونيّة رائجاً، وأصبحت متابعة الحمل والتوليد تتمّ لدى طبيب. كما بقي الرجل الخيار شبه الوحيد حين خرج الطب النسائي من إطار مواكبة عملية الحمل والولادة حصراً، إلى تأمين الرعاية لجسد المرأة عموماً.اللافت في تلك المرحلة كان إقبال الأطباء على التخصّص في مجال الطب النسائي، لأسباب اقتصادية من جهة، إذ اعُتبر مجالاً مربحاً. ولأسباب نفسيّة مختلفة، من جهة ثانية.
يشير الطبيب البرازيلي نيلسون سوكاسو، الذي يُعدّ من أبرز من عملوا على الجانب النفسيّ لاختيار الطبيب النسائي اختصاصه، إلى دوافع مختلفة لدى الرجل، كمحاولة الهيمنة على جسد المرأة الذي يقلقه، وفي جزء آخر، سعيه لفهم جسده هو أو التأكيد على تميّز جسده. كذلك، اعتبر سوكاسو أن الأمر يمكن أن يرتبط برغبة الرجل بالانخراط في عمليّة الولادة، التي تميّز المرأة.
ولكن الغموض وعدم الراحة بقيا يلفّان علاقة الطبيب بالمرأة طويلاً من دون أن تنتهي المسألة مع تطور المجتمع وتركيبته الثقافية، أو مع إقبال النساء المتزايد على هذا التخصّص. "حين بدأ ينشط الطب النسائي، لم يكن الطبيب مبرمجاً بشكل جيّد للتعاطي مع جسد المرأة غير الحامل، كجسد له ما له وعليه ما عليه، ومع رغباتها الجنسيّة ورغباتها غير الإنجابية. كذلك لم تكن المرأة نفسياً مهيأة للجلوس أمام رجل غريب، ليس لديه صفة شرعية سوى أنه طبيب، لتخبره بأسرارها"، يشرح الطبيب النسائي فيصل القاق. ويضيف "ما زال التوتّر والحكم المسبق يطبعان العلاقة بين الطبيب أو الطبيبة النسائية والمرضى في المجتمعات العربية، وقد "تلبّست طبيبات كثيرات دور الذكر وتفوقن عليه في أحكام العيب والشرف خلال تعاطيهن مع حالات معيّنة تخالف السائد، كالمثليّة الجنسية والعلاقات المفتوحة وعدم الرغبة بالإنجاب".يجد الطبيب الآتي من مجتمع محافظ صعوبة في التخلص من مفاهيم الشيطنة والنظرة الدينيّة للأمور في التعامل مع جسد المرأة
وحين سؤاله عن الثقافة السائدة بشأن تخصصه، يجيب القاق أنه كثيراً ما يسمع من الناس "نيّالك حكيم نسائي، بتشوف أجسام نساء"، أو "دخلك ما بتقرف؟"، كما يلفت إلى أن هناك أطباء يتحدثون في جلساتهم عن أجساد مريضاتهن. المشكلة، برأي القاق، هي عدم وجود تأهيل للأطباء النسائيين بشأن أساليب السريّة واعتمادها، كما بشأن الطرق النفسية في التعامل مع المريضة.
من جهة أخرى، تستمر ثقافة السلطة في السيطرة على جسد المرأة متغاضيةً عن كيفية التعاطي معها وفهم هواجسها. ويجد الطبيب الآتي من مجتمع محافظ صعوبة في التخلص من الشيطنة والنظرة الدينيّة للأمور.
في المقابل، يواجه الطبيب الهواجس المبالغ فيها لدى بعض النساء، وعليه أن يبذل مجهوداً مضاعفاً للتعامل مع حالات هستيريا قد تنتاب إحداهن لديه، أو نوبات قلق تدفع مريضة معيّنة لعدم قبول طلبه للكشف عليها. ويجد الطبيب نفسه ملزماً أكثر من الطبيبة بإعطاء الثقة للمريضة. فالطبيب سامر الجمالي مثلاً لا يطلب من المرأة التي تزوره أن تخلع ملابسها مباشرة، ويفضل الانتظار قليلاً والحديث معها قبل الكشف عنها. يقول "كي أكشف على مريضة ما، لدي العديد من الحواجز التي أقمتها بنفسي، كوجود سكرتيرة مثلاً، واعتماد إضاءة قوية في العيادة (فالإضاءة الخافتة قد تخيف المريضة). ذات مرة نصحت زميلاً لي بوضع خاتم زواج وهمي، كي يزداد الإقبال على عيادته". يحرص الجمالي على التحدث مع المريضة "بطريقة محترمة ومهنية حتى تشعر بالأمان"، يقول، وهو يرى أن المريضة من الذكاء بحيث يمكنها أن تشعر بأي حركة خاطئة يقوم بها. يطلب كذلك من مريضاته إحضار أزواجهن على الأقل مرة واحدة للشعور بالأمان."بتّ أقول عند ذهابي لطبيب نسائي إنني متزوجة لتجنب أي أسئلة عن حياتي الشخصية، والأهم لتجنّب الطمع فيّ وكأنني مستباحة"
وفي استبيان لرصيف22 شمل 16 امرأة مصرية، تبيّن أن 93.7% منهن يعتقدن أن السمعة الأخلاقية الجيدة للطبيب معيار مهم لاختياره هو تحديداً، وأن 68.7% يفضلن وجود الزوج خلال زيارة الطبيب، وأن 91.67% منهن كنّ يشعرن بالحرج من زيارة الطبيب النسائي قبل الزواج. وتبقى للتجارب الفاشلة مع الأطباء النسائيين آثار عميقة.
نعود إلى "سلمى" لنعطي ما قالته عن تلك الآثار مثالاً. "لقد أثّرت تجربتي مع الأطباء في قدرتي على الاستمتاع بالحياة الجنسية. كنت أشعر أن الجنس مرتبط بالعنف، أي أنني اعتقدت أن هذه هي عقوبتي لأنني مارست الجنس قبل الزواج".
وتضيف "شعوري بالذنب لم يعنِ أنني لم أكن مقتنعة بحقي في التعامل مع جسدي بكل حريّة، ولكن تفاصيل علاقتي مع الطبيب النسائي كانت تُشعرني بشكل لا واعٍ بأن ما أتعرّض له من مخاوف هو أمر طبيعي بسبب خطأ ارتكبته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...