"ياميت بُنيت على مقابر عائلتي، كنت وقتها طفلاً في الصفوف الابتدائية. جاء الإسرائيليون بمدرّعاتهم، وقالوا لنا عليكم إخلاء المكان لأننا سنبني فيه مستعمرة. كانت في المكان مساكن نقيم فيها ومقابر لعائلتنا".
هذه بعض ذكريات الروائي المصري عبد الله السلايمة المقيم في سيناء عن "ياميت"، أبرز المستعمرات الإسرائيلية التي أقيمت على الأراضي المصرية بعد حرب 1967.
ويكمل السلايمة روايته بقوله لرصيف22: "رفضت العائلة في البداية، لكنها ما لبثت أن وافقت بعد تهديد الإسرائيليين بالمرور علينا بدباباتهم، وخلال أسبوع واحد جمعت العائلة رفات أمواتنا وأعادت دفنها في مكان آخر. وعلى أراضينا زرعوا مزارع للطماطم والمانجا واستولوا على مزارع اللوز الخاصة بنا وصار الدخول إلى المنطقة محرماً ولا بد لكي ندخل من أخذ تصريح من الحاكم العسكري الإسرائيلي".
تمخض عن حرب يونيو 1967 عدد من النتائج السياسية والعسكرية، أبرزها أن رقعة كبيرة من الأراضي العربية في سيناء وقعت في قبضة إسرائيل، ما دفع عدداً من سكانها العرب إلى الهجرة بسبب البطالة ونقص الغذاء، بينما أُجبر السكان الذين لم يتمكنوا لأسباب عديدة من مغادرتها على الرضوخ للأمر الواقع والعيش قرب المستوطنات التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة.
حرب نفسية ضد السكان
"حاولت إسرائيل الحدّ من خطورة هؤلاء العرب ومؤازرتهم لدولتهم عبر تفريغ تلك المناطق من سكانها ومنعهم من العودة إليها ثانية"، يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية في القاهرة سعيد صادق لرصيف22، شارحاً أن الدولة العبرية رأت في وجودهم على تلك الأرض خطراً على أمنها القومي. ويضيف: "لجأت إسرائيل إلى استخدام عدد من الأساليب النفسية مع سكان سيناء منها تصفية المقاومة المسلحة بشنّها هجوماً واسع النطاق على القرى والتجمعات السكانية المنتشرة هناك، ما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى المدنيين وانتشار الحرائق. كما قامت بتطبيق قوانين الحكم العسكري الإسرائيلي لإحكام سيطرتها، فقسّمت سيناء إلى منطقتين: شمالية وألحقتها بقطاع غزة، وجنوبية أخضعتها لإدارة مستقلة".حكاية الاستيطان في سيناء
في أعقاب حرب يونيو، شكّلت إسرائيل ما أسمته "سلطات أرض إسرائيل"، وأوكلت إليها مهمة الإشراف على كل ما يتعلق بقضايا الأرض والبناء، لإقامة مستعمرات استيطانية. ويذكر الدكتور قدري يونس العبد في كتابه "سيناء في مواجهة الممارسات الإسرائيلية"، أن مشارف رفح هي أولى المناطق التي شهدت حركة استيطان مكثف. ويصف الصحافي الإسرائيلي أمون كابيلوك في مقالة له نشرتها صحيفة "اللوموند" الفرنسية في الخامس عشر من مايو 1975، الوحشية التي اتسمت بها عمليات طرد بدو سيناء من رفح بقوله: "إن الإسرائيليين لم يكتفوا بطرد هؤلاء السكان من أراضيهم ومنازلهم بعد تدميرها، بل أزالوا حتى الأشجار". خلال الفترة الواقعة بين عامي 1967 و1978، أقامت إسرائيل إحدى وعشرين مستوطنة في سيناء، يمكن القول إنها في معظمها نهضت على أسس اقتصادية. فمستوطنة "ناحال سيناي"، بُنيت في مزرعة ناصر النموذجية التي أنشأتها قبل حرب يونيو مؤسسة تعمير الصحاري المصرية، واستغلها المستوطنون لتربية الدواجن كما زرعوا أرضها بالخضار، إلى جانب أشجار الزيتون."جاء الإسرائيليون بمدرّعاتهم، وقالوا لنا عليكم إخلاء المكان لأننا سنبني فيه مستعمرة. كانت في المكان مساكن نقيم فيها ومقابر لعائلتنا"... قصة مستعمرات إسرائيل في سيناء المصرية
تمخضت عن حرب يونيو 1967 نتائج كثيرة، أبرزها أن رقعة كبيرة من أراضي سيناء وقعت في قبضة إسرائيل، ما دفع عدداً من سكانها إلى الهجرة، بينما أُجبر عدد آخر على الرضوخ للأمر الواقع ومجاورة مستوطنات أقامها الاحتلالأما مستوطنة "ناحال يام"، فأنشئت في مزرعة أسماك مصرية ما أدى إلى منافسة المستوطنين لصيادي بورسعيد وتصديرهم أسماكاً بحوالي الألف جينه إسترليني يومياً. وفي العام 1968، ساهمت الوكالة اليهودية في تطوير هذه المستوطنة عبر إمدادها بمعدّات لتحلية مياه البحر كي تصبح صالحة للشرب والريّ. وأقيمت مستوطنة "دكلا" في موقع تابع لمؤسسة تعمير الصحاري، وزرع فيها المستوطنون الطماطم في بيوت زجاجية، وبلغت مساحتها ثلاثمئة فدان. وأطلقت إسرائيل على مستوطنة "أوفيرا نواه" في شرم الشيخ اسم "إقليم سليمان" ووضعت خططاً لتستوعب هذه المدينة لاحقاً عشرين ألف نسمة، ولجعلها عاصمة لجنوب سيناء وتحويلها إلى ميناء إسرائيلي. وكانت إسرائيل قد قامت في العام 1977 بمد خط للأنابيب لنقل المياه العذبة إلى المنطقة يبلغ طوله مئة كيلومتر، كما افتتحت في العام نفسه "أوتيل الشرم". أما مستوطنة "أسدوت"، فأقامت فيها خمس وعشرون عائلة تزرع الطماطم والزهور والمانجا. ونبعت أهمية مستوطنة "ذي هاف دهب" من احتلالها موقعاً إستراتيجياً إذ كانت تقع عند مفترق الطرق بين شرم الشيخ في الجنوب ودير "سانت كاترين" في الغرب وإيلات في الشمال. وعُدّت مستوطنة "نفيعوت" مركزاً سياحياً. كما أقامت إسرائيل مستوطنة "ياميت"، وبعدها مستوطنة "أفشلوم"، ثم العديد من المستوطنات بين عامي 1973 و1978، مثل "نيتف ها أشرة"، "سوفا سكوت"، "حروفيت"، "أوجدا"، "الطور"، "بر أيل"، "تل مي يوسف"، "هوليت"، "نير أفراهام"، "كاديش بارتي"، "زاحارون"، و"حروفيت"، كما ورد في كتاب العبد.
"ياميت" أو "بوابة رفح"
يقول أستاذ العلاقات الدولية والباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية الدكتور سعيد اللاوندي لرصيف 22: "أقامت إسرائيل خلال احتلالها سيناء عدة مستعمرات كانت كبراها ‘ياميت’ في الشمال التي كانت تطلّ على البحر الأبيض المتوسط وتُعَدّ أكبر تجمع استعماري أقامته إسرائيل في سيناء، وأطلقت عليها اسم ‘بوابة رفح’ بناءً على موقعها الجغرافي. وكانت رفح تضمّ خمس عشرة مستعمرة. وفي الواحد والعشرين من أبريل 1982، تم تدمير المستعمرة، وأخلاها من قاطنيها أرييل شارون". ويضيف اللاوندي: "خططت إسرائيل لجعل ‘ياميت’ مدينة ضخمة يصل عدد سكانها مع بداية القرن الحادي والعشرين إلى ربع مليون نسمة، بالإضافة إلى إنشاء مرفأ بحري ضخم فيها لتصبح ثالث أكبر مدينة ساحلية إسرائيلية بعد تل أبيب وحيفا. وقد دمرها الإسرائيليون قبيل تسليم سيناء إلى مصر تنفيذاً لاتفاقية السلام معها، وأطلق على عملية الإخلاء اسم ‘اليمامة الحمراء’". ويروي الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في مذكراته "كلمة السرّ" عن حرب أكتوبر، كيف واجه الجانب المصري بناء المستوطنات بعد النصر ويقول: "كان الملاحظ أن إسرائيل وقبل سفر الرئيس (أنور) السادات إلى واشنطن قد قامت بجهد مكشوف يشير إلى قرارها بتكثيف العمل في مستوطنة ياميت وبعض المستوطنات المتناثرة الأخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط، واحتفظت مصر بأعصابها وتجاهلت هذا الاستفزاز". وروى أنه علم لاحقاً أن وزير الزراعة حينذاك أرييل شارون كان يتمسك بالمستوطنات بل وطالب بإعادة تنشيط البناء والتوسع فيها، بعكس رأي وزير الدفاع حينذاك عيزرا فايتسمان. ويذكر الكاتب أنيس منصور "ياميت" في كتابه "أكثر من رأي" ويقول: "حكايتي مع قرية ‘ياميت’ قديمة، ففي حديث أجريته مع الرئيس السادات ونشرته الصحف (بالتزامن) مع مجلة ‘أكتوبر’ ترويجاً لها، وقع خطأ مطبعي في صحيفة ‘الأهرام’. فالرئيس قال لي: قرية ‘ياميت’ لا أريدها، فليحرثوها. إلا أن ‘الأهرام’ جعلتها ‘فليحرقوها’، وثار (مناحيم) بيغن رئيس وزراء إسرائيل الذي رأى في العبارة قسوة نازية، وطلب مني الرئيس السادات وقتها أن أسدّ فم بيغن بتصحيح الخطأ غير المقصود وفعلت. بعد ذلك طلب مني الرئيس الذهاب إلى إسرائيل للتعرف على ‘ياميت’، وذهبت ووجدتها مستعمرة صغيرة بيوتها من دورين، وتتألف من غرفة للنوم وصالة للمعيشة وبلكون للأطفال ومطبخ ليس فيه ثلاجة، إذ ليسوا في حاجة إليها لأن السوبر ماركت يتوسط القرية". ويروي منصور أنه زار "ياميت" مرة ثانية بعد إخلائها، ويقول: "كان الطريق إليها صعباً فقد نسفوها، ولم يتبق منها سوى المعبد الذي نزعوا منه الشبابيك والأبواب والمقاعد والزجاج، وكتبوا على جدرانه عبارات استياء وغضب من الجمعيات الدينية، منها ‘لا تحزني يا ياميت، سوف يعود إليك شارون’".عمال سيناء في إسرائيل
استشرت البطالة بين سكان المنطقة بسبب سياسة التجويع المنظّم التي انتهجتها سلطات الاحتلال. ثم أعقبت ذلك مرحلة تم خلالها فتح المجال أمام السكان للعمل في بعض المجالات كالتعليم والإدارة المدنية والبناء وغيرها من الأعمال الحرفية. أما أخطر تلك المراحل، فبدأت في العام 1970، حين فتحت إسرائيل حدودها أمام العمالة المصرية القادمة من سيناء للعمل داخل إسرائيل. هذا ما يقوله الدكتور قدري يونس العبد في كتابه الذي أورد فيه تقريراً أصدرته هيئة الصليب الأحمر الدولي في سبتمبر 1975، وجاء فيه أن عدداً من بدو سيناء يترواح بين 1600 و1700 شخص، يعملون داخل إسرائيل وفي إيلات تحديداً. ويصل متوسط أجر العامل العادي منهم إلى 130 جنيهاً مصرياً في الأسبوع الواحد، بينما يصل أجر العامل الماهر إلى 35 جينهاً في اليوم الواحد، أما أجر العامل في سيناء المحتلة فينخفض إلى نصف مثله في إسرائيل. وكان الدولار وقتها يساوي 70 قرشاً. ويقول الشاعر حسونة فتحي من سيناء لرصيف22: "عمل أهل سيناء في كل المجالات، وكانت سلطة الاحتلال توفر لهم كامل الرعاية في جميع المجالات، تفادياً لعمليات المقاومة والأعمال الفدائية ضدّها". ويشرح أن الأهالي كانوا "على درجة من الذكاء الفطري والقدرة على خداع العدوّ"، في استراتيجية اتبعوها للتعامل مع الأمر الواقع ولكن "كانت عمليات المقاومة كثيرة، ومنها عمليات قامت بها نساء وفتيات، وأشهرها قصة ‘سلمى’، الفتاة التي قتلت ضابطاً إسرائيلياً بقنبلة يدوية واستشهدت في الحادث".الانسحاب والتعويض
انسحبت إسرائيل من سيناء في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي ورحل عن المستوطنات ستة آلاف مستوطن، وكان الانسحاب جزءاً من صفقة السلام، وتم التعويض على العائلات بخمسمئة ألف دولار لكل واحدة منها، كما ورد في تقرير لمنظمة الأزمات الدولية. وواجه إخلاء "ياميت" في الحقيقة مقاومة ضعيفة نسبياً، إذ يذكر التقرير المذكور حادثاً وحيداً ذا طابع صدامي قامت به مجموعة من نشطاء منظمة "غوش أمونيم" التي انتقلت إلى "ياميت" أملاً بمنع الانسحاب. وحاول بعض أعضائها أن يقيّدوا أنفسهم في الأقبية وعلى الأسطح بينما هدد البعض الآخر بالانتحار. وبعد مفاوضات معقدة، تم نقلهم بالقوة وجرى الانسحاب. ويذكر الدكتور طارق فهمي لرصيف22 أن الإسرائيليين عرضوا على الرئيس السادات بيع المستوطنات، إلا أنه رفض.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...